الخروج من الغوطة وخبرة حلب

2018.03.17 | 13:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

مشهد خروج الأهالي من الغوطة يثير تماماً ذاكرة الأحداث في حلب نهاية 2016، قد يكون من غير العادل المقارنة بين الوضع العسكري بين الغوطة وحلب، فحلب وقعت في حصار قصير للغاية، ولم تكن فصائلها قد أعدت العدة لمثل هذا الاحتمال، وإن كان ما لديها من السلاح يكفيها للصمود سنتين أخريين، وكانت معظم فصائها من ريف حلب وليست من المدينة نفسها الأمر الذي جعل تمسكهم بالأرض لا يقارن بما هو الحال في الغوطة. ففصائل الغوطة هي من أبنائها ويقاتلون دفاعاً عن أنفسهم وأهاليهم وأحيائهم وبيوتهم، ولديهم استعدادات منذ أربع سنوات لمواجهة سيناريو مثل هذا، إلا أن القوة المستعملة في الغوطة قد تفوق في نوعها وشدتها تلك المستعملة في حلب أضعافاً. وفيما كان سقوط حلب في عهد أوباما سيء الصيت ووزير خارجيته جون كيري الذي كان أول من طرح تسليم المدينة، فإن الحملة على الغوطة  الآن هي في عهد ترامب الذي سبق وضرب النظام عقاباً له على استخدام غاز السارين في خان شيخون، وهو اليوم يهدد بضرب النظام كل يوم.

 

ومع كل هذه الفوارق إلا أن وضع الأهالي في الغوطة مشابه تماماً لأهالي حلب، النظام حشر نحو أربعمائة ألف في رقعة صغيرة جداً تحت الأرض، إذ لا حياة فوق الأرض في الغوطة، فالأبنية هنا مبنية بطريقة مختلفة تماماً عما هو في حلب، وهو  أمر حمى المدنيين من وقوع مزيد من الضحايا من بينهم، ففي حلب كانت الأبنية مبنية بدون أعمدة بيتونية على الأغلب، وكثير منها غير مزودة بأقبية، كان أي صاروخ من طيران حربي يستهدفها كفيل بإسقاطها فوق رؤوس ساكنيها، وأي برميل بارود كفيل بمسحها تماماً مع سكانها، بقاء بناء تعرض لأي استهداف صاروخي قائماً كان يُعد إعجوبة، كل يوم كان يسقط مئات المدنيين، لا أقبية يمكن أن تقيهم، ولا أبنية يمكن ـأن تكون ملجأ لهم. في حين أنه من حسن حظ أهالي الغوطة أن المباني على العموم مبينة على أعمدة وأسس بيتونية ومزودة في معظمها بأقبية يمكن أن تشكل ملجأ آمناً.

 

لكن الخطير الآن أن الأقبية باتت مليئة بالعائلات، وأي استهداف للأقبية سيؤدي إلى سقوط مجزرة تمحى فيها عائلات كاملة، إضافة إلى أزمة فقد الطعام والحاجات الطبية، الأهالي الذين خرجوا يبحثون عن لقمة طعام على وجه الأرض تم استهدافهم أمس في كفر بطنا، وقت مجرزة فظيعة لم يستطع أحد انقاذ ضحاياها، ولا حتى حتى انتشال الجثث إلا في وقت متأخر.  في حلب أيضا كانت الأفران تستهدف، والأسواق وكل ما يتعلق بأسباب البقاء بما في ذلك المدارس والمستشفيات، لكن يسجل للإدارة المدنية في الغوطة نجاحها في تجنب القضاء الكامل على المؤسسات الحيوية بخطة طوارئ  حققت نجاحا ملحوظاً حتى الآن، وهو أمر جعل بقاء الحياة في ظل الظرف الرهيبة في الغوطة ممكناً.

 

الأمور تضيق شيئا فشياً في الغوطة، وكلما ضاقت ازداد الضغط المدني على العسكريين، وصار السؤال عن الخروج المدني من الغوطة أكثر، فالعسكريون حسموا أمرهم، وقالوا إنهم سيقاتلون حتى آخر قطرة دم، هذا هو الطبيعي لمن يقاتل دفاعا عن نفسه وأهله، لكن خروج الأهالي لا يطرح فقط قصة الخروج الآمن، إنما يطرح معه أيضاً خروج بلا عودة، وسؤال التغيير الديمغرافي الذي من المؤكد أنه سيحدث إذا ما أفرغت الغوطة من أهلها.

 

ليس علينا أن نلوم أحداً من المدنيين حينما يفكر بالخروج للنجاة بنفسه، ولكن السؤال هو عما بعد الخروج، حدث هذا في حلب أيضاً، عندما انهارت ثقة الأهالي بالفصائل المتقاتلة فيما بينها قرر الكثيرون الخروج عبر المعابر التي فتحها النظام لمن يريد الخروج، لكن ما حصل بعدها كان مفجعاً إلى أبعد حد، وُضع الخارجون في هنغارات، وتم فرز الذكور الشباب إلى الهنغارات، ثم أعدم ميدانياً أكثر من 1500 شاب، واتخذت عائلات رهائن عن مقاتلي الحر، وأجبر باقي الشباب على التجنيد، في حين اختفى نساء وأطفاء دون معرفة أي شيء عن مصيرهم، كيف يمكن أن يكون الخروج آمناً بضمان القاتل نفسه الذي يقصف السكان بلا رحمة ليل نهار؟  على الأرجح أن الأهالي كانو يعرفون أنه لا ضمان وأنهم ذاهبون إليه المجهول، لكنهم ذاهبون لأنهم يائسون من أي احتمال أفضل للنجاة بما تبقى من أرواحهم، قتل الكثيرون ونجا آخرون، ولكن الكلفة كانت باهظة جداً جداً. والآن يبدو أن النظام سيكرر حرفيا السيناريو في حلب فالأنباء اليوم تقول إنه يفصل الذكور بدءاً من 13 سنة عن عائلاتهم ويقتادهم إلى جهة مجهولة.

 

قبل يومين بدأت حركة خروج من حمورية في الغوطة إلى مناطق سيطرة القاتل دون أي ضمانات، الأمر أشبه باستسلام يقوده متعاونون مع النظام تمكنوا من إقناع الأهالي بالخروج، ما الذي حدث بعد ذلك؟ استخدم النظام العديد من العائلات كدروع بشرية للتقدم نحو حمورية، قتل منهم الكثير، وقتل من جنود النظام والميليشيات أكثر. وقصف بعضهم بينما هم يسيرون إلى المجهول عابرين تخوم الغوطة. لا يملك أحد أن يلوم السكان المدنيين في بحثهم عن النجاة مع هذا الموت الذي يحصد أرواح الغوطة بالجملة، هذا حقهم، لكن من المسؤول عن هذا الخيار؟ هذا سؤال يجب  الإجابة عنه، فإن تم دعم خروج آمن للمدنيين الآن فسيسهم هذا في التغيير الديمغرافي وما يعرف بالتهجير القسري للسكان، وإن دعي السكان للصمود فمن له الحق في إكراههم على مواجهة الموت كل دقيقة.  المسؤولية عن هذا السؤال تقع على المعارضة الراهنة التي تصدرت المشهد بإرادة دولية ورغما عن السوريين، وعلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لكن من يضمن هؤلاء أنفسهم الذي شهدوا كل التجريف السكاني والتوطين والمجازر والحصار ولم يتحركوا؟  هذا السؤال مطروح علينا جميعاً ويجب أن نتحرك لإيجاد مخرج عاجل ولات ساعة مندم.

كلمات مفتاحية