الحراك المدني وصخب الساسة والمثقفين

2018.09.23 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ليس ثمة قوانين جامعة يمكن أن تكون ناظماً ثابتاً ودقيقاً لسيرورة الثورات في العالم، ذلك أن حركات التحرر الوطني، والانتفاضات الشعبية، لا تخضع لقوانين الطبيعة، وكذلك لا تخضع لقانون علمي صارم، لأن الثورة – أي ثورة وطنية – إنما تحرّكها دوافع قيمية بالدرجة الأولى، علماً أن هذه (القيمية) ليست مبتورة الصلة عن جذورها الواقعية، بل العلاقة بينهما علاقة تواشج وتكامل، وهذا ما يجعلنا مع القائلين بأن الثورة السورية ليست ثورة جياع فحسب، بل ثورة الحرية ذات المحتوى الاجتماعي الإنساني العام.

لقد أقنعت الثورة السورية في طورها السلمي المتوهج، العالم بشرعية قيامها وعدالة قضيتها، وكان من النتائج الملموسة لهذا الإقناع، (مقررات جنيف 1، حزيران 2012 )، التي أقرّت بأحقية الشعب السوري بتحديد مصيره واختيار حاكميه، وكذلك كان من نتائج ذاك الإقناع اعتراف دولي واسع بكيان ( الائتلاف) كممثل سياسي للشعب السوري، فضلاً عن تجميد تمثيل نظام الأسد في الجامعة العربية، واستبداله بتمثيل المعارضة.

لقد أقنعت الثورة السورية في طورها السلمي المتوهج العالم بشرعية قيامها وعدالة قضيتها

إلّا أن هذا الدفق المتصاعد للثورة، سرعان ما بدأ يخبو تدريجياً، تزامناً مع هيمنة السلاح، مصحوباً بتدخل إقليمي ودولي، لم يخف أجنداته ومراميه، وفي الوقت الذي كان يتوهم فيه الكثيرون أن تدفق السلاح والمقاتلين الغرباء إلى الأرض السورية، إضافة إلى هيمنة دولية كاملة على القرار السوري، سيسهم في الإسراع بحسم المعركة، وفي مقدمة هؤلاء المجلس الوطني، ومن ثم الائتلاف، إلّا أن النتائج المتوخاة كانت مخالفة للرهانات، فما حققه الثوار السلميون بهتافاتهم الصادقة وصدورهم العارية، فرّط به، ولم يستطع الحفاظ عليه أصحاب السلاح الثقيل والدعم المالي الهائل، ففي حلول العام 2016 لم تبق على الأرض السورية بندقية واحدة تملك قرارها الوطني، وتقاتل دفاعاً عن خيارات السوريين، بل انضوى جميع العسكر، كلٌّ تحت مرجعيته، وباتت مرجعية الثورة السورية يتيمة لا أنصار لها بين المسلحين وممن استمروا بالرهان عليهم، ووفقاً لذلك استطاع نظام الأسد، بدعم هائل من حلفائه، بسْط سيطرته على القسم الأكبر من الجغرافية السورية المحررة، وبات الشعور العام لدى الثوار السوريين ينزاح نحو الإحباط والقنوط، وذلك في موازاة عملية تقهقر غير عادي للحقوق الوطنية السورية، سواء على المستوى الميداني الذي تجلى بحالات الترحيل القسري واستئصال السكان من مدنهم وبلداتهم، ( القصير – حلب الشرقية – الغوطة الشرقية – درعا – القلمون الشرق – ريف حمص الشمالي ....)، أو على المستوى السياسي من خلال تكريس مسار أستانا كبديل عن جنيف، ثم الوصول إلى ( سوتشي) الذي اختزل القضية السورية بتشكيل لجنة دستورية يعقبها انتخابات معلومة النتائج.

هذا الدفق المتصاعد للثورة سرعان ما بدأ يخبو تدريجياً تزامناً مع هيمنة السلاح مصحوباً بتدخل إقليمي ودولي لم يخف أجنداته ومراميه

لقد وصلت حالة الانحسار الثوري مداها الأقصى غداة الحشود الروسية الأسدية على مدينة إدلب، وبدأ الخوف يتصاعد في نفوس الجميع من أن يكون مصير إدلب كمصير الغوطة ودرعا وسواها ،من المدن التي تعرضت للعدوان الأسدي الروسي، إلّا أن صراع المصالح الدولية والإقليمية هذه المرة قد أبعد – ولو مؤقتاً – شبح الحرب والعدوان عن مدينة إدلب، وبفضل هذا التدافع للجهات الدولية، وحرصها مجتمعةً على عدم الاصطدام المباشر، أُتيح لأهلنا في إدلب أن ينتفضوا من جديد، ويعبروا عن مكنونات نفوسهم المتلهفة إلى الحرية، فكان حراكهم المدني الرائع معبراً بكل سطوع، عن رفضهم المطلق لسطوة الظلم والعبودية، سواء أكانت من جهة نظام التسلط الأسدي، أو من القوى الظلامية المتطرفة التي تسلّطت عليهم منذ آذار 2015 .

ما هو مؤكد أن الحراك المدني العارم في جمعته الثالثة ، لم يكن انعكاسه المباشر محصوراً بحدود مدينة إدلب، بل غدا حراكاً سورياً بامتياز، إذ واكبت هذا الحراك، مظاهرات للسوريين في كل مدن العالم، وبدأت جذوة الثورة تستعيد توهجها في النفوس، ما جعل العديد من الأصوات ترتفع عالياً منادية باستعادة المبادرة الثورية، وتجاوز مرحلة اليأس.

لقد وفّر الحراك المدني الثوري فرصة ثمينة للنخب الثقافية والسياسية السورية لتصحيح مسار الثورة، والإمساك – ولو نسبياً – بالمبادرة الوطنية، وكان يمكن لهذه الفرصة – لو تم استثمارها بالطريقة الأمثل – أن تجسّد عودة جديدة إلى نصاب العمل الوطني الجاد، وتؤسس لانطلاقة جديدة، لن تقلب الموازين رأساً على عقب، ولن تستطيع أن تحدث تغيّراً نوعياً في موازين القوى الراهنة، ولكنها بالتأكيد، سوف تزيد من حصانة قيم الثورة وتعميق مسارها، والبدء بمراكمة جهد نضالي لا بدّ أن يثمر في النتيجة.

نهوض الحراك المدني السلمي قوبل بنشاط مختلف لدى قطاعات واسعة من النخب والتجمعات والقوى السياسية والثقافية، فبدلاً من أن يكون هذا النشاط معززاً ومناصراً للحراك السلمي، من خلال مواكبة تطلعات المتظاهرين ومقاربة أوجاعهم وأولوياتهم، راح يؤكّد بعدم اكتراث واضح، وباستخفاف شديد، على تمسكه بنهجه الانتهازي وغير المسؤول الذي لا يهدف إلّا إلى تبرير عجزه وعدم قدرته على التحرر من لوثاته الأخلاقية وآليات تفكيره البائدة.

ما هو مؤكد أن الحراك المدني العارم في جمعته الثالثة لم يكن انعكاسه المباشر محصوراً بحدود مدينة إدلب بل غدا حراكاً سورياً بامتياز

معظم الأصوات والتجمعات والملتقيات التي تنادت لمؤازرة المظاهرات، واستثمار الحراك المدني لصالح القضية السورية، لم تفكر بالعمل على وقف الانهيار السياسي والتفريط بالحقوق السورية، وكذلك لم تأبه بتجديد الكيانات التي تمثل السوريين والتي أصبحت عبئاً على ثورتهم، وكذلك لم تلتفت إلى قضية المعتقلين التي تختزل حياة مئات الآلاف من المواطنين السوريين، لم نشهد ولم نسمع عن ندوة أو ورشة لأصحاب الصالونات الثقافية والسياسية، لا في تركيا ولا أوروبا، جعلت اهتمامها منصباً على كيفية إيجاد وسائل وآليات نضالية جديدة لدعم الحراك المدني والحفاظ على استمرارية المظاهرات ، وإيجات جسور حية وفعّالة بين هذا الحراك الداخلي من جهة، والكيانات والنخب في الخارج من جهة أخرى، وكذلك لم نلحظ إحساساً – من المفترض أن يكون بدهياً – بقدرة الثورات على استمرارية خلق وابتكار أفكار وبرامج عمل توازي حجم التضحيات وعمق المعاناة لدى السوريين.

ثمة نزوع شديد لدى معظم الفعاليات والملتقيات والتجمعات للساسة والمثقفين نحو إنتاج ورقي، تختلف أشكاله ومسمياته، ولكن مضامينه واحدة، ما يوحّد بين هذا النشاط الورقي المحموم هو محاولته الهروب من مواجهة الإشكالات الجوهرية التي تحول دون مراكمة أي عمل وطني مثمر، وتعاميه عن ملامسة المسائل الأكثر وجعاً للسوريين، وكذلك إصراره على عدم بذل أي مجهود معرفي جاد لمراجعة مسؤولة عن سبع سنوات ونيّف من عمر الثورة.

وثائق متلاحقة، وأوراق يتم طرحها في المواقع الإعلامية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي،ممهورة بتواقيع مثقفين ورجال دين وفنانين، تبهر القارئ بالحديث عن سورية (المُتخيَّلة)، سورية دولة القانون والحريات وتعدد الأحزاب والمواطنة و حقوق الإنسان ووو.. وكذلك نشهد مناظرات طاحنة حول كيفية شكل نظام الحكم، أهو برلماني أم رئاسي، وكذلك حق تقرير المصير لكل مكونات الشعب السوري.... إلخ، ولكن السؤال الغائب عن هذه الوثائق جميعها: قبل الوصول إلى سوريا المتخيلة، كيف يمكن انتزاع الدولة السورية من براثن آل الأسد؟.

لعل الحالة الأكثر مشابهة، بل ومطابقة، لراهن الساسة والمثقفين السوريين، هي فترة التسعينيات من القرن الماضي، حين كان حافظ الأسد يتيح لبعض كبار المثقفين السوريين ( أساتذة جامعات ورجال دين)، أن يقيموا ندوات زاخرة بالحوار حول قضايا التراث والمعاصرة و العلمانية والشورى والديمقراطية )، شريطة أن يتجاهل المتحاورون جميعهم أنهم يعيشون في دولة قهرية مرعبة يحكمها حافظ الأسد.