الجنوبُ في عينِ العاصفة !

2018.05.14 | 23:23 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لم تهدأ النفوسُ بعدُ من هولِ صدمةِ الغوطةِ الشرقيّة وما جرى فيها من تدميرٍ وقتلٍ وتهجير وسطَ صمتٍ دوليٍ أشبه بالموافقة الضمنية على ما حصل .

لم تكن الصدمةُ نتاجَ استخدامِ أقصى درجاتِ العُنفِ من قبل القوّاتِ الجويّة الروسيّة، بل من استخدامِ السلاح الكيماوي الذي شكّل فارقاً نوعيّاً هزّ قدرة المدنيينَ على الصُمود ودفعَ بالعسكر إلى الزاوية اليكْ، حيثُ تمَّ التسليمُ بأبخسِ الأثمان.

تبيّنَ بعد خروجِ جيش الإسلام من مدينة دوما أنّه كان باستطاعة المقاتلين الصمود سنواتٍ وليس أشهراً فحسب،

جاءَ ردُّ الفعل الغربي هزيلاً على أرضِ الواقع رغمَ الجعجعةِ الإعلاميّة الهائلة التي رافقتهُ

فمن التحصيناتِ الكبيرةِ إلى الأنفاقِ والنقاطِ الطبيّةِ إلى المؤن وغيرها الكثير من أسباب الاستمرار، وكان بإمكانهم تزويد المدنيينَ بأسبابِ الحياةِ من مأكلٍ ومشرب لفتراتٍ طويلة، لكنّ الصدمةَ النفسيّةَ التي حقّقها الكيماوي أثرّتْ على قرارِ البقاءِ والصمودِ وحسمتْ الأمرَ وقطعتْ الطريقَ على العسكرْ، وهذا ما يبدو للناظرِ عن بُعدٍ حتى الآن، وقد تتكشّفُ في المستقبلِ بعضُ الحقائقِ التي يمكنها أن تضحدَ هذا التحليل أو تؤكده.

جاءَ ردُّ الفعل الغربي هزيلاً على أرضِ الواقع رغمَ الجعجعةِ الإعلاميّة الهائلة التي رافقتهُ، لقد تمخّضَ الجبلُ فولدَ فأراً، فقد كانت الرسائلُ موجّهةً إلى اللاعبينَ الكبارِ وفيما بينهم، ولم يكن من بينها أماراتٌ محدّدة حول الوضعِ في جنوبِ سوريا، لكن لم يخلُ الأمرُ من إشارة هنا أو إشارة هناك، وهذا ما استدعى تحرّكاتٍ إقليميةٍ عاجلةٍ من الأردن وإسرائيل باتجاه موسكو وواشنطن.

كانت اتفاقيّةُ خفضِ التصعيدِ الخاصّةِ بجنوبِ سوريا من نوعٍ خاصٍّ وبينَ أطرافٍ دوليةٍ وإقليميّةٍ لا وجودَ للسوريينَ فيها سواءٌ من جهةِ النظامِ أم من جهةِ المعارضة، وإن كان الطرفانِ الأخيرانِ قد التزما بها إلى حدّ بعيد، وهذا ما لا يخفى على أحدٍ من السوريين، وهو من الأسبابِ التي تجعلُ المشهدَ أكثرَ غموضاً بالنسبةِ لمستقبلِ المنطقة.

يمكنُ قراءةُ التحرّكاتِ الأردنيةِ الأخيرةِ وخاصةً الاتصالاتِ والزياراتِ إلى موسكو على أنهّا من باب تأكّدِ الأردنّ على ما يبدو من بقاءِ التفاهماتِ المُبرمةِ في عمّان بين الروس والأمريكان بشأن الجنوبِ على حالها، ولا يَخفى على أحدٍ أنّ العاهلَ الأردني الملك عبدُ الله بن الحسين كان أوّلَ من حذّر خلالَ مقابلةٍ له مع الواشنطن بوست في أوائل كانون الأول عام 2004 من الهلال الشيعي الذي تسعى إيرانُ لإنشائِه.

كذلك تنبئُ الأخبار الواردة من شرق سوريا – إن صحّتْ – بأن القوّاتَ الأمريكية بدأتْ بإعادةِ الانتشارِ ضمنَ المنطقة المسمّاة 55 حيثُ توزّعتْ بعضُ القوّاتِ على 6 قواعدَ ضمنَ المنطقةِ ذاتها كما صرّح أحدُ قادة "جيش المغاوير" المدعومِ من قوّات التحالف، أو أنّها تعيدُ التموضعَ حسب بعضِ الآراء بين مدينتي القائم العراقية والبوكمال السورية لتقطع طُرُقَ إمدادِ أو شريانِ حياةِ هذا الهلال.

من جهةٍ ثانيةٍ باتَ الاتفاقُ النووي مع إيران - الذي ضحّى الرئيسُ الأميركيُ الأسبق باراك أوباما بالكثير من أجلِ إنجازهِ - بحُكمِ الميّت، وعلى الإيرانيين أن يستعدّوا لموجة جديدة من ربط الأحزمة، فقد أصبحتْ قوّاتُ الحرسِ الثوري الإيراني تحت مرمى النيرانِ الإسرائيلية بشكل شبه يومي وها هو رئيسُ الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ينجح في منع تزويد النظام السوري بصواريخ " S300 " بعدَ زيارتهِ إلى موسكو يوم 9-5-2018.

وها هي الضرباتُ الإسرائيليةُ التي حصلتْ ليلتي التاسعِ والعاشرِ من أيار 2018 على مواقع إيرانية في الكسوة وفي القُنيطرةِ تؤكّدُ أن لإسرائيل دوراً بارزاً في هذا الأمر، وهي لم تُخفِه في الحقيقة، بل كانت تصرّحُ باستمرارٍ أنها لن تسمحَ    بأي وجودٍ إيراني على مقرُبةٍ من حدودها فيما يبدو أنه تقاطعُ مصالحَ ومطالبَ بينها وبين الأردُن.

إسرائيلُ التي لا تتركُ أيّة فرصة تمرُّ دون أن تستفيدَ منها، ستسعى بلا أدنى شكٍّ لتصديرِ أزمةِ رئيسِ وزرائها الداخلية في قضايا الفسادْ،

إيران تستخدمُ المالَ السياسي لتجنيد  شيعةِ البلدانِ الواقعةِ تحتَ نفوذِها المعبّأينَ عَقَديّاً كوقودٍ رخيصٍ لا يؤثرُ في توازناتِ مجتمَعها الواقفِ على فوّهةِ البركانْ

خاصّة بعد أن تعهّدَ وزيرُ الاتصالاتِ السابق " شلومو فيلبر" بالشهادةِ ضدّ نتنياهو، وستحاولُ كذلك - ومن بابِ ردِّ الجميلِ للرئيسِ دونالد ترامب على قرارهِ نقلِ السفارةِ الأمريكية إلى القدسْ - فتحَ قنواتٍ لتصديرِ أزمتهِ معَ المحقّقِ الخاص روبرت مولر، وأيُّ القنواتِ أفضلُ من الحرب؟

لكن أين ستكونُ ساحةُ المعركة، وما هي أدواتها، ومن هم وقودها؟

لاشكّ بأن إسرائيل أضعف - سياسيّاً واجتماعياً - من أن تتحمل معركة على أرضها أو في أجوائها ، وهي تُدركُ أنّ اقترابَ إيران من حدودها سيشكّلُ تهديداً عاجلاً وخطراً حالّاً محدقاً لتفوّقها النوعي، خاصّةً وأنّ إيران تستخدمُ المالَ السياسي لتجنيد  شيعةِ البلدانِ الواقعةِ تحتَ نفوذِها المعبّأينَ عَقَديّاً كوقودٍ رخيصٍ لا يؤثرُ في توازناتِ مجتمَعها الواقفِ على فوّهةِ البركانْ، كما إنّها تستخدمهُ لدعمِ المرتزقةِ من غير الشيعةِ وتشتري البنادقَ والذممْ كما تفعلُ مع بعض التنظيمات الفلسطينية والسوريّة المحليّةِ حديثةِ المنشأ.

الساحةُ هي الأرضُ السورية ، والمنطقةُ المرشّحةُ أكثرَ من غيرها الجنوب ، أي محافظاتُ ريف دمشقَ والقنيطرةَ ودرعا، فقد باتَ من المعروفِ أنّ إيرانَ أنشأتْ في مدينةِ إزرع اللواء " 313 " الذي هو نواةُ الذراعِ العسكريِّ لحزب الله السوري ، وقد قصفتْ إسرائيلُ مقرّاتِ هذا اللواءِ مرّةً واحدةً على الأقل منذ إنشائه ، كذلك ترابطُ بعضُ القوّاتِ الإيرانية في ما باتَ يُطلقُ عليه تسميةُ " مثلّث الموت " أي نقطةُ الوصلِ بين المحافظاتِ الجنوبيّةِ الثلاث، كذلك هناك تموضعاتٌ إيرانيةٌ تحيطُ بدمشقَ من أغلبِ جهاتها، وتنتشرُ بعضُ القواعدِ هنا وهناك على امتدادِ الجغرافيا السورية ، لكنَّ العينَ الإيرانيةَ تبقى على الجنوبِ باعتباره همزةَ الوصلِ مع لحنِ الممانعةِ والمقاومةِ وتحريرِ القُدسِ الذي تعزفُ عليه منذ أن تسلّمَ الملالي الحكمَ في بلادِ الشاهِ الشريد .

قد تمتدُّ النارُ لتشملَ كلَّ نقطةٍ في سوريا توجدُ فيها قوّاتٌ إيرانيّةٌ مثلما حدثَ قبل أيّامٍ من قصفٍ عنيفٍ لما قيلَ وقتها إنّه معملٌ لصنعِ الصواريخِ الإيرانيةِ في جبلِ عزّان في ريف حلب، لكن ما يهمُّ إسرائيلُ في المرحلةِ الأولى بالتأكيد إبعادُ خطرِ البقاءِ تحتَ رحمةِ صواريخِ إيران وتثبيتُ بعضِ قواعدِ الاشتباكِ الجديدةِ حتى تتضحً الآثارُ النهائيةُ لإلغاءِ الاتفاقِ النووي الإيراني من جانبِ الطرفِ الأمريكي الأقوى بكلِّ تأكيد.

الأسئلةُ الآن كثيرةٌ ومنها:

 ما هو الموقفُ الروسيُّ من استهدافِ الحليفِ المدللِّ للحليفِ المرحليِّ المؤقّتْ، ألم تكنْ تصريحاتُ الخارجيّةِ الروسيةِ خجولةً خلالَ الفترةِ الماضيةِ التي تكثّفتْ فيها الاستهدافاتُ الإسرائيليةُ للقوّاتِ الإيرانية؟

ألمْ تستطع إسرائيلُ أن تكسبَ التعاطفَ الرسمي الأوروبي من خلال التزامِ القادة الأوروبيين علناً - وتكرارهم ذلك مراراً - بأمنِ إسرائيلَ وحقّها في "الدفاع عن النفس" خلالَ هذه الفترةِ رغمَ استماتِهمْ بالدفاعِ عن الاتفاقِ النووي الإيراني للحفاظِ على عقودِ شركاتهم واستثماراتهم في السوقِ الإيرانيّة المتعطّشةِ للاندماجِ في دورةِ الاقتصادِ العالمي؟

ما هو ردُّ فعلِ النظامِ السوري، أو ما تبقّى منه؟ وهل من مصلحةِ رأسِ النظامِ التخلّي عن شريكهِ الذي أمدّهُ بالمالِ والرجالِ والسلاحِ والعتادِ لينتصرَ على الشعبِ الثائرْ؟

في أوضح تصريحٍ صدرَ عن مسؤولين إسرائيليين يبيّنُ أنّ بقاءَ الأسد كانَ وما زالَ بيدهِم أو على الأقل الكثيرُ من أسبابِ هذا البقاءْ؟

وهل في تحجيمِ إيران فائدةٌ للنظامِ للتحلّلِ من التزاماته تجاهَ داعميهِ والتقليلِ من الأثمانِ التي سيدفعُها فيما لو بقي الشريكانِ الحليفانِ سويّةً في سوريا؟ وهل بقيَ للنظامِ جزءٌ مهما كان بسيطاً من استقلاليةِ القرارِ أو هامشِ الحركة؟ أم إن التوتّرّ القادمَ على أجنحةِ الطائراتِ والصواريخِ سيكونُ المُنقذَ لنظامِ الأسدِ كما كان التوتّر اللفظيُّ دوماً بين الأخوةِ الأعداءْ؟

وهل هي رسالة عاديّة تلك التي بعثت بها إسرائيلُ عن طريق رئيس وزرائها "بنيامين نتنياهو" ووزير دفاعها " أفيغدور ليبرمان " عندما نبّها بشار الأسد شخصيّاً بأن وجود إيران سيكون ثمنهُ عرشه ذاته، في أوضح تصريحٍ صدرَ عن مسؤولين إسرائيليين يبيّنُ أنّ بقاءَ الأسد كانَ وما زالَ بيدهِم أو على الأقل الكثيرُ من أسبابِ هذا البقاءْ؟

وبالمقابلْ، ما هي استعداداتُ القوى الممثّلةِ للثورةِ في الجنوبِ سياسياً وعسكريّاً؟ وما هو موقفُها مما سيجري على أرضها؟ وهل ستكونُ بالمستوى المطلوبِ من الحنكةِ لتستفيدَ من هذه المعارك الدائرةِ في حماها؟

هل ستكون قادرة على استعادة زمام المبادرة وإدارة المعركة سياسياً - كما أدارتها عسكرياً في السنواتِ الأولى للثورةِ قبلَ أن تتبعَ لغرفةِ " الموك " - من خلالِ تشكيلِ مجلسِ قيادةٍ عسكريٍ وآخرَ مدنيٍ يفرزانِ معاً هيئةً سياسيةً تستطيعُ تمثيلَ الجنوبِ كما كان الحالُ مع جيشِ الإسلامِ في الغوطة؟

 هل يمكنها أن تخرُجَ من حالةِ الشرذمةِ والتشتّتِ والتبعيّةِ للمصالحِ الخارجيّةِ وللمصالحِ الفرديةِ الضيّقة وأن ترقى للوصولِ إلى مستوى التحدّياتِ الوطنيةِ الكبرى؟ وهل تملكُ مساحةً من الاستقلاليّةِ أكثرَ مما يملكُهُ النظامْ؟

هل ستكونُ قادرةً على خلقِ بدائلَ اقتصاديةً لاستمرارِ الناسِ في الحياةِ فيما لو طبّقَ النظامُ سياسةَ الحصارِ – مع الفارقِ في ظروفِ الجغرافيا - التي استخدمها مع الغوطة، وكمثالٍ على ذلك هل ستكونُ قادرةً على إدارةِ ملفِّ القمحِ الذي يُعتبرُ المحصولَ الاستراتيجي في هذه المنطقةِ بعيداً عن تأثيرِ مؤسساتِ النظام؟

 أم هل ستكتفي بالاعتمادِ على الأشقّاءِ الأردنيينَ لتمثيلهم في المحافلِ الدوليّةِ ذاتِ الاستحقاقاتِ بعيدةِ الأجلْ، كما قد يحصلُ في مؤتمرِ " الأستانا " الذي يُحضّرُ له في الأيامِ المقبلة، وفي تأمينِ طرقِ التواصلِ مع الجهاتِ المانحةِ التي تشكّلُ مصادرَ الإمدادِ بالمستلزماتِ الرئيسيةِ والأساسيةِ للمعيشةِ واستمرارِ الحياةْ؟

أم ستكونُ كالمتفرّجِ على مدرّجاتِ المسرحِ لا يملكُ سوى الانفعالِ والتصفيقْ؟