الجغرافيا لن تمنحك تأهيلاً أو سيادة

2019.08.26 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يعتقد نظام الأسد أن صراعه مع السوريين على الجغرافيا؛ وينسى أن الجغرافيا، أو حتى البيت الذي يقيم فيه السوري لم يكن له، لأن هذا البيت مزروع بالخوف والإذلال. وما خرج السوري عليه، وحتى من كل تلك الجغرافيا، إلا لأن النظام جعلها موبوءة باستبداده. يتصور نظام الاستبداد أنه إذا استعاد تلك الجغرافيا، التي تحررت منه؛ يمكن أن يستقر؛ ويُعاد تأهيله؛ وتُزال وصمة الإجرام عنه. الأمور ليست كذلك؛ والمثال الصارخ هو أن سيطرة إسرائيل على جغرافيا الجولان لا يجعلها إسرائيلية؛ إنها قطعة من روح السوري؛ ولن تكون إسرائيلية، إلا إذا احتلت إسرائيل روح كل سوري.

لعقود عاش السوري منغصات بلا ضفاف. كان بلا حرية، ولا إرادة. القانون في بلاده غائب؛ حقُّه لا يحصل عليه إلا بالواسطة، أو على شكل "مكرمة من سيّد الوطن"؛ يأكل رغيفه مغمساً بالإهانة ومخلفات الخوف؛ غاب من حياته أي تفكير إبداعي خلاق؛ وتحوّل التعليم إلى تلقين، والصحة إلى مِنّة، والثقافة إلى

اعتبره نظامه المجرم إرهابياً غايته منازعته على الجغرافيا والثروة؛ فقمعه بالحديد والنار متذرعاً بحماية السيادة والوطن والجغرافيا

كذب وتأليه للحاكم؛ وأضحى القيام بالواجب كالاغتصاب برضى. باختصار، أضحت وطنيته، ومواطنيته وحتى إنسانيته منقوصة في جغرافيا أخذت فيها الدكتاتورية والاستبداد دور الإله.

بعد كل هذا وغيره، ثار؛ لا ليتنازع مع الاستبداد على ملكية أو جغرافيا. ثار ليستعيد حريته وكرامته وحتى إنسانيته المنقوصة. اعتبره نظامه المجرم إرهابياً غايته منازعته على الجغرافيا والثروة؛ فقمعه بالحديد والنار متذرعاً بحماية السيادة والوطن والجغرافيا. وكي يحمي كرسيّه أكثر، استعان بكل رصيده من بيع الوطن، وعمالته وخدمته للعدو الإسرائيلي، وبقوى تمتهن القتل والتدمير والدكتاتورية ممثّلة بالخمينية والبوتينية.

أكثر من نصف السوريين تشردوا وفقدوا كل شيء إلا بقايا إنسانية وروح وعقل؛ وهاموا على وجوههم في بقاع الأرض. تحمّل هؤلاء منغصات الغربة، وآلام الحنين، ووجع الماضي المبرحة؛ ولكنهم بدؤوا بتنمية تلك البقايا من الروح والعقل والنفس في بيئات من الحرية والإبداع، ومعرفة الحق والواجب والقانون والصحة والمدارس والعمل. اتضحت أكثر في أذهانهم مواصفات وتصرفات نظام كان كابوساً على أرواحهم وعقولهم؛ وازدادوا تصميماً على اقتلاعه، واستعادة جذر أرواحهم، التي سعى لاقتلاعها.

في الداخل، تكشفت منظومة الاستبداد أمام كثيرين. في أعماقهم، يخافها هؤلاء، لكنهم لا يحترمونها. بعضهم يعبّر عن ذلك؛ وهذا لم يحدث من قبل؛ والفضل فيه لِذاك الذي ضحّى. بداخلهم يعرفون إجرام النظام؛ وربما يدركون أنهم خذلوا أخاهم الذي تشرد، أو هُدِم بيته، أو اعتقل، أو قضى بفعل إجرام النظام. هؤلاء بأعماقهم يستهينون بالنظام؛ وما تجرؤوا على ذلك يوما؛ ولكن بفضل الثورة، كسبوا تلك الجرأة. يعرف هؤلاء كذب السلطة ودجلها وتسلطها وعربدتها ومؤامراتها وخبثها ورخصها واستجلابها للاحتلال. لقد انكسرت هيبة السلطة أمامهم؛ وتستحق.

هناك بينهم مَن يحاول أن يغطي تقصيره الأخلاقي معتبراً ان معياره "الوطن"؛ فيرى /النظام والمعارضة أو الثورة/ أضرب وأحقر من بعظهم البعض؛ فيتطهّر بالقول إنه مع "الوطن" فقط. هناك فئة ثالثة مع "جيش الوطن". هؤلاء لا يرون أنه جيش تعفيش ورخص؛ ويُغفِلون ما كان يحدث في الخدمة الإلزامية من فساد وذل ونذالة؛ ولا يضيرهم أن يُشحَن رئيسهم إلى روسيا ذليلاً، ولا أن يقف في حضرة الخمينائي مستجديا؛ ويغمضون أعينهم عما تفعله إسرائيل، وعن مدى حرصها على هذا النظام الذي خدمها عقوداً؛ ويصدّقون رواية "النظام" في الإرهاب مُغْفِلين أن أمراء داعش كانوا على تنسيق مع منظومة الاستبداد؛ وأن هذا النظام استخدم الإرهاب شماعة للفتك بالوطن وأهله الثائرين.

في المحصلة سيفيق معظم هؤلاء على أن واحدهم ما له إلا أخوه للتحالف والتعاضد معه، وليس مع القاتل الذي يرى بهم جميعاً أدوات أو مشاريع أعداء لا بد قتلها متى تنفست بشكل مختلف. في الوقت ذاته، يصعب على سوري حقيقي أن يغفر لمن كان نسخة عن النظام أو متماهياً معه بالمطلق؛ ولكنه سيغفر لأخيه السوري الذي لا حول له ولا قوة؛ سيغفر له صمته أو رماديته أو قلة حيلته.

سيتأكد الجميع أن لهم عدوا واحدا؛ أكان هذا العدو الذي أخذ شكل الظالم المستبد القاتل الحاكم بأمره تحت يافطة السيادة المزيفة التي ادعاها وعهّرها؛ أم كان تلك الأداة المتطرفة التي قررت أن تبدّل سوريا الاستبداد بسوريا الأمارة التي تكفّر، معتبِرة -كالنظام تماماً- أن من ليس متطابقاً معها، وجب قتله. سيعرف الجميع أن أكثر ما أفاد النظام، وقدّم له الذريعة التي يحتاج للبطش بالسوريين، وبوصف كل من ليس معه إرهابياً؛ هم تحديداً أولئك الأمراء من داعش والنصرة ومَن غرروا بهم. ذلك المتطرف المبني على إلغاء الآخر هو كالنظام تماما؛ إنه مبني على احتكار

كل قطعة سلاح وكل متطرف كان نعمة نزلت على النظام. كان هؤلاء حلفاءه الأساس، وكان عدوه الحقيقي المدني المقاوم بالكلمة والحجة والقانون

السلطة واستخدام القوة. كما النظام، في المزاودة في الوطنية والمقاومة والممانعة؛ وهذا المتطرف، في مزاودته باستخدام الدين والقوة الإلهية؛ شوّها صرخة الحرية. في النهاية النظام سطوة باسم العلمانية؛ والتطرف سطوة باسم الدين.

تلك الظاهرة المتعصبة التي امتطت الدين وجعلت من نفسها وكيلة لله على الأرض؛ كانت وراء فقدان التعاطف الدولي مع قضية سوريا وحريتها. لقد كانت السبب في صمت العالم على الجرائم والتشريد؛ ومعروف أن قوام تلك الزمر المتطرفة كان أولئك الذين أخرجهم النظام من صيدنايا، وممن ترك لهم نوري المالكي في الموصل مئات ملايين الدولارات وترسانة أسلحة تحرر وطن.

كل قطعة سلاح وكل متطرف كان نعمة نزلت على النظام. كان هؤلاء حلفاءه الأساس، وكان عدوه الحقيقي المدني المقاوم بالكلمة والحجة والقانون. الثاني عرضة للقتل أو الاعتقال أو التشريد، والأول ضرورة لتبرير إجرامه. والشاهد على ذلك البلدات والمدن التي أفرغها من أهلها تدميراً وتشريداً. مَن طلب الحرية، من أراد الخلاص من الاستبداد والفساد، لا يمكن أن يكون طائفياً، ولا قاتلاً، ولا مكفراً. سيتأكد السوري أن من نشر ذلك الشعار البغيض/ المسيحي عـ بيروت، والعلوي عـ التابوت/ لم يكن إلا نظام الاستبداد وأدواته.

ما حدث في سوريا لم يكن حرباً طائفية أو أهلية. ذلك المستبد المتطرف، والداعشي المتوحش نسختان لصورة واحدة؛ كلاهما أداة لذبح سوريا، وأداة بيد القوى الخارجية. كلاهما جعلا من الجغرافيا محوراً لهما؛ والبلاد والعباد ليسوا جغرافيا. فلا يفرحنَّ هذا النظام كثيراً إذا حوّلت له طائرات بوتين بلدات سورية إلى أرض يباب يسيطر على جغرافيتها. مرة أخرى جغرافيا اليباب لا تعيد التأهيل، ولا تمنح السيادة. هذه الأرض ملك لأرواح ودماء أهلها الذين رفضوه؛ إنها لطلّاب الحرية.

كلمات مفتاحية