الثورات السورية المتعددة في آذار 2011

2019.03.17 | 23:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يبدو تشريح الأيام الأولى للثورة أمراً شديد الإغراء، بعد أن اعتدنا على تناولها مجملة بوصفها محض درجات متصاعدة في انطلاقة ستعم البلاد. وتأتي أهمية تفحص تلك المدة من اكتنازها بالدلالات التي ستنمو في ما بعد وتشكل روافد في نهر مصطخب ومتنوع لا يصح النظر إليه بوصفه جدول مياه معدنية منسجمة.

بدأت الثورة بمظاهرة سوق الحميدية في دمشق، ظهيرة يوم الثلاثاء الخامس عشر من آذار. نظّم هذه المظاهرة شبان وشابات في العشرينات، مدنيون بأفق ديمقراطي، بعيدون عن السياسة بمعناها الحزبي وإن اقتربوا، إلى هذه الدرجة أو تلك، من تيارات متعددة فلم يكونوا من لون معين. كما تعددت أصولهم المناطقية والطائفية، وهو ما حرصوا على إظهاره في تسجيل مشهور.

سيغادر معظم هؤلاء البلد تباعاً، بعد أن صاروا خميرة طلائع التنسيقيات وبعد أن تعرضوا للاعتقال، عدة مرات أحياناً، وللملاحقة التي لم يستطيعوا التكيف مع ظروفها القاسية من التخفي ومتابعة تنظيم الاحتجاجات في الوقت نفسه. في منافيهم الأوروبية الآن يشعرون بالمرارة التي سيعبّر عنها بعضهم بالجملة الشائعة: «سرقة الثورة».

في اليوم التالي ستنظم شخصيات معارضة وناشطون حقوقيون اعتصاماً أمام مبنى وزارة الداخلية للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين وبنود أخرى. لم تكن تلك المحاولة الأولى لهذه المجموعات، متعددة الآراء السياسية كذلك، لتنظيم وقفة احتجاجية، لكنها كانت الأنجح بتأثير مناخ الربيع العربي. فقد شاركت فيها أعداد أكبر، منهم كتاب وفنانون معروفون، ومنهم بعض ذوي السجناء بمن فيهم من الإسلاميين. ستصب الفعالية في صالح هؤلاء الأخيرين بشكل رئيسي، لا لسبب تآمري «خبيث» كما جرى قول متداول بشدة، وإنما ببساطة لأنهم أكثرية المعتقلين السياسيين. كان سجنا تدمر والمزة قد أغلقا، وكان معظم سجناء الرأي والأعضاء في المجموعات المعارضة المختلفة في سجن صيدنايا، وكانت أكثرية هؤلاء إسلامية، وكانت أكثرية التهم تنتمي إلى السلفية الجهادية.

صار بإمكانهم توكيل محامين فاعلين والحصول على قسط محدود من العدالة و«الاستفادة» من فساد القضاء

أجرى النظام بعض الحلحلة في هذا الملف، كما يجدر بأي نظام يواجه احتجاجات. فأنهى احتجاز بعض الموقوفين عرفياً لصالح الأمن دون إدانة، وأدرج السياسيين، كسواهم من المساجين، في سياق الإفراج بعد إسقاط ربع مدة الحكم، وحوّل ملفاتهم من محكمة أمن الدولة إلى المحاكم العادية حيث صار بإمكانهم توكيل محامين فاعلين والحصول على قسط محدود من العدالة و«الاستفادة» من فساد القضاء. نتيجة ذلك خرج مئات المعتقلين السياسيين بعد أيام، ولحقهم معظم زملائهم تباعاً ووفق أضابيرهم، وفيهم ديمقراطيون ويساريون وأكراد، لكن الغلبة العددية للجهاديين وبروزهم العسكري والقاعدي جعلا أسطورة «سجناء صيدنايا» تقتصر عليهم.

يوم الجمعة اللاحق، ودون النظر إلى ما جرى في العاصمة يومي الثلاثاء والأربعاء على الأرجح، سيخرج أهالي درعا في احتجاج أساسه «الفزعة»، أي تكاتف العائلات والعشائر، للمطالبة بأبنائهم المعتقلين، ورداً على غطرسة رئيس فرع الأمن السياسي، كما هو معروف. ستؤسس هذه المظاهرة شعبية الثورة، بل إنها ستؤسس الثورة نفسها لدى من يصرّون على تأريخها بيوم 18 آذار. سيعطي الاحتجاج الواسع الأول هذا زخماً لما سيليه في نقاط تظاهر أخرى، وسيرسم شكلها غير الأيديولوجي، المتركز محلياً، التضامني على أسس أهلية. دون أن يغيب الأفق الوطني السوري العام ولا يتصدر المشهد.

في الوقت نفسه، وفي بقعة أخرى من البلاد كان يجري احتجاج واسع آخر. في بانياس تجمّع عدة آلاف في جامع الرحمن بناء على تنسيق مسبق، وبعد صلاة الجمعة انتظروا حتى سمعوا الصيحة التي ستصبح تقليدية: «الله، سورية، حرية وبس». لن يمكن فصل أي احتجاج في الساحل عن التوتر الطائفي الكامن الظاهر. سيتوجه المحتجون إلى مقر أمن الدولة حيث سيقدمون قائمة مطالب ذات صلة بالتناحر السنّي العلوي تتضمن العدالة في توزيع الوظائف، وعزل مدير الميناء، والفصل بين الجنسين في مدارس البالغين، وإعادة المدرسات المنقبات إلى أعمالهن، فضلاً عن إلغاء قانون الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين على المستوى الوطني.

لن يمر هذا دون بوادر احتكاك طائفي سيتطور في اليوم اللاحق إلى حافة الصدام عندما سيقدم شبيحة غاضبون على إطلاق الرصاص في الهواء من سياراتهم المسرعة التي تردد ميكروفوناتها العالية: «الله، سورية، بشار وبس». سيستعد الآخرون بالأسلحة البيضاء وبنادق الصيد، لكن الأمور ستنتهي بسلام، مؤقتاً.

السلطات عازمة على ملاحقة هذه العصابة التي تروع المدنيين

فجر الأربعاء القادم ستهاجم قوات الأمن والجيش الجامع العمري الذي صار مركزاً للاعتصام بدرعا، ستقتل عشوائياً وتعدم ميدانياً. سيحضر التلفزيون ويصوّر أسلحة ورزم نقود وجوازات سفر، كعادته عند الإعلان عن ضبط مجموعة إرهابية. ستنشر وكالة «سانا» الرسمية أن عصابة مسلحة اعتدت على طاقم سيارة إسعاف مما أدى إلى «استشهاد» رجل أمن، مبشرة السوريين بأن السلطات عازمة على ملاحقة هذه العصابة التي تروع المدنيين. 

تختصر الأيام الثمانية الأولى المعروضة هنا ما سيمر خلال ثماني سنوات، بينما تتوالى تنويعات الثورة/الثورات هذه وتتبادل التأثير وتتنافس وتتناقض. راود الكثيرين أمل أن تكون الأمور أكثر ضبطاً، لكن هذه الأمنية نابعة من تصور مثالي وغير واقعي للثورات، فهي زلزال تلحظ بدايته ولن تعرف متى سينتهي ولا أين سيضرب بالتفصيل.

أما النظام فكان ولا يزال مخزن الجمود والبلادة، يوم ولد ويوم يموت، ويوم لن يُبعث حياً...