الثوب الفضفاض حذاءٌ للعقل

2018.11.23 | 23:11 دمشق

+A
حجم الخط
-A

عندما تكون عاقلاً تتمتع بشيء من الموضوعية تتيح لك رؤية الأفعال التي تجعلك قادراً على احترام نفسك من خلال قيامك بما أنت مؤهّل له من غير التعدّي على ما هو مفصّل للآخرين.

لا يكفي أن تتمتع بثقة صاحب شأن فيسبغ عليك ما ليس فيك ويحمّلك مسؤولية ما لاطاقة لك به، لأنك حينذاك ستتعب وتُتعب من حولك.

عندما تكون سائقاً ماهراً، تستطيع أن تقود وأنت تتكلم.. وأنت تفكر.. وأنت تستمتع. أما حينما تتجرأ على القيادة، حتى في شارع غير مزدحم، قبل أن تتقن ذلك الفن، فإنك ستقود بكل أعصابك وحواسك، بحيث تؤدي بك هفوة بسيطة إلى فقدان الأعصاب فتقوم بسلسلة من الأخطاء التي تجلب الكوارث.

ليس عيباً أن تعطي القوس باريها وتقوم أنت بما تستطيع إتقانه من غير أن تضاعف جهدك بما يستطيع غيرك القيام به ببساطة شديدة، ولكن العيب أن ترضى بثوب فضفاض لم يفصّل لك، لأن الثوب الفضفاض كالحذاء الضيق تماماً، كلاهما يضغط على العقل ويؤدّي إلى خسارة الانتفاع منه لمن هو مؤهل له من غير جزع.

مـا الذي يعنيه أن تكون مهندساً أو مدرساً، أو كاتباً جيداً في محيط يتقن فيه المتسلقون قتل المواهب ودفنها، ثم يقفون دقيقة صمت حداداً على موتها، ثم يندبون هذا الوطن العقيم الذي لا يقدر على إنجاب نجباء ينقذون الأمة مما هي فيه.

مـا الذي يعنيه أن تكون مهندساً أو مدرساً، أو كاتباً جيداً في محيط يتقن فيه المتسلقون قتل المواهب ودفنها، ثم يقفون دقيقة صمت حداداً على موتها

حين ترى أناساً يبيعونك شعارات تكفي الكرة الأرضية، ويكتبونها على لافتات تؤمّن سوق معامل النسيج التي يمتلكونها، ثم يقبضون ثمن تخديرك بأنهم يكفونك شرّ النضال، ويدافعون عنك بكل جوارحهم وما يملكون، ثم تراهم يبيعونك أنت والوطن بزجاجة ويسكي مستوردة؛ حين ترى ذلك بأمّ العين، ما الذي يمكن أن تفعله؟

إنك بوصفك مهندساً أو مدرّساً أو كاتباً.. تقف في وجوههم صارخاً: هذا حقي، وأنتم بي تتاجرون. حينذاك يواجهونك بالخيانة وبأنك لا تقدّر خطورة الوضع، وأنك عميل للقوى الأجنبية التي تحاول زعزعة الاستقرار.

بالطبع، يعني الاستقرار لديهم أن يبقى لجامك في أيديهم، وقوت يومك في أيديهم، ولسانك في جيوبهم. ولهذا يقفون لك بالمرصاد، ولا يتوانون عن الكيد لك حتى تشعر باليأس والإحباط، ويتأكد عندك أن السباحة ضد التيار جنون لا تُحمد عقباه، فتهدأ وتستكين.

وحين يُسأل أحدهم عن نتيجة التمرد أو الإضراب أو الاحتجاج، يجيب بلهجة المنتصر الذي استطاع إخماد صوتك: الكلاب تنبح والقافلة تسير، ما يعني إبقاء الوضع على ما هو عليه، شأنك شأن العقار المغصوب.

عندما نتأمّل السياسة الدولية الحالية نجد أن معظم رؤساء وملوك العالم يرتدون أثواباً فضفاضةً عليهم.

هل أحدّثكم عن طيش "دونالد ترامب"  ذي الشخصية المتقلّبة التي تقود أعظم دولة في العالم، من باب الحصّالة التي يحرص على امتلائها، ضارباً كلّ القيم بحائط العنجهية الهوجاء. 

بدأ ترامب مشروعاً استثمارياً بمساهمات الآخرين بدءاً من  500 دولار للسهم، ثم نصب المبالغ عليهم، وواجه عشرات الدعاوى القضائية، ثم أشهر إفلاسه أربع مرات، وهكذا جمع ثروة أوصلته إلى البيت الأبيض، بمساعدة المخابرات الروسية، بالرغم من أنه أبعد ما يكون عن السياسة، وعن اللباقة. وآخر إنجازاته محاولة التغطية على جريمة محمد بن سلمان، ليستمر في ابتزاز السعودية.

أما "بوتين" فقد كان في طفولته يقضي ساعات في مطاردة الجرذان على سلالم المبنى. كان تلميذًا أقل من المتوسط، وعوّض عن ذلك بممارسة الملاكمة والجودو والكاراتيه

أما "كيم جونغ أون" رئيس كوريا الشمالية، فهو يتسلى بإعدام من يعكرون صفو مزاجه، وقد أعدم زوج عمته وعدداً من المسؤولين الكبار في الدولة، وبوسائل مختلفة؛ فقد أعدم وزير دفاعه رميًا بطلقات مدفع مضاد للطائرات، بعد انتهاء عرض عسكري، لأنه غلبه النوم في أحد مؤتمرات الرئيس.

أما "بوتين" فقد كان في طفولته يقضي ساعات في مطاردة الجرذان على سلالم المبنى. كان تلميذًا أقل من المتوسط، وعوّض عن ذلك بممارسة الملاكمة والجودو والكاراتيه. عمل في جهاز الاستخبارات الروسية، قبل أن يصل إلى سدّة الرئاسة.

وهو بسبب طموحه لإعادة روسيا إلى عهدها السابق أيام الاتحاد السوفياتي، يناصر دول القمع والاستبداد، ويزجّ بقوّاته في حروب خارجية مختلفة، ليغطي على سياسته الداخلية الفاشلة.

ويملك الرئيس الروسي "بوتين" كلبةً سوداء ضخمة مغرم بها، ويصحبها معه إلى اجتماعاته مع قادة العالم، سماها ”كوندوليزا رايس“ على  اسم وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة،  وقد استخدمها مرةً لإخافة المستشارة الألمانية ”أنجيلا ميركل“.

أما الأشخاص الذين ينتقدون سياسته، فإن ذلك يودي بهم إلى النفي أو السجن أو الوضع تحت الإقامة الجبرية، وحتى أن هناك من لقي حتفه منهم في ظروف غامضة.

هذه الظروف الغامضة للتخلّص من المعارضين، ورثها "بشار الأسد" عن السياسة الروسية، وعن والده. أما حين قامت الثورة السورية انكشف الوجه الحقيقي للسفاح الشاب الذي كان يبدو وديعاً ولبقاً، يحارب الفساد ويسعى إلى الإصلاح.

تعالوا نجتمع في ساحة الشهداء الباكين على مصائر استبسالهم مردّدين: نحن ننبح والقافلة تسير.. إلى الهاوية عمّا قريب

ظهر الوجه الحقيقي للشيزوفرينيا التي قطع علاجه منها في بريطانيا إثر مقتل أخيه باسل، وعاد سريعاً لوراثة الحكم في سوريا. الوجه الدموي كان الغطاء الوحيد لملء فضفضة الثوب الكبير عليه.

لذلك نجد محمد بن سلمان يقوم بتلك الهجمة الشرسة على المفكرين والعلماء وأصحاب الموال ، فيعتقل وينفي ويصادر ويقتل، ليبرهن أنه قادر على إدارة البلاد من خلال القوة التي يمتلكها، ويستعيض بها عن الحكمة التي تنقصه، ويداري بها إدمانه على المخدرات.

أما السيسي فقد نجح في إيهام بعض المصريين  بمظهر اتضح أنه مغاير للحقيقة؛ فقد كان يحرص على مظاهر التواضع، والتديّن، والزهد بالسلطة (فتمسكن حتى تمكّن)، غير أن الظهور الإعلامي المتكرر يكشف ضحالة تفكيره، وعدم قدرته على التعبير عمّا يريد، بسبب البطء الشديد في تفكيره.

هذه هي السياسة السائدة في عالم اليوم، قدّمنا نماذج عنها، لأن المقام لا يتّسع للجميع.

وإذا كان يهمّنا الخروج من مأزق الحكومات العربية، فهل يمكن أن نوافقها على أنها تعمل لصالح الشعوب، وتحارب الإمبريالية والتطرّف؟

وهل تسير القافلة حقّاً، بحكمة مثل هؤلاء الحكّام، وصمودهم؟

تتأمل الواقع المزري، وتتحسّر على واقع فيه كثير من الحكماء الذين بوسعهم ملء الموقع المناسب باقتدار، لكنّهم مغيّبون.

وأخيراَ تؤمن أن القافلة تسير حقاً.. ولكن.. إلى أين تسير، ولصالح مَن، ومن المستفيد؟ أسئلة فجائعية تخاف حتى من التفكير في الإجابة عنها، فلماذا توجع قلبك وتسير كل هذا المشوار الطويل؟

لماذا لا تقف إلى جانبنا نحن أمثالك من الضعفاء - المستضعفين الذين تكفّهم عن العمل المعوجّ أخلاقٌ ورثوها وعادات أحبّوها وأفكارٌ آمنوا بها حتى الصميم.

فقراء؟ نعم، مظلومون؟ نعم، فلماذا نكون أيضاً، مجانين؟!

تعالوا نجتمع في ساحة الشهداء الباكين على مصائر استبسالهم مردّدين: نحن ننبح والقافلة تسير.. إلى الهاوية عمّا قريب..