التنين الصيني والفريسة السورية

2018.10.16 | 01:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يطيب لبعض المتطرفين أوروبيا من اليمين ومن اليسار، دعوة دولهم إلى إسراع القبول بصفقة إعادة الإعمار الروسية والانخراط في مسارها. هؤلاء هم حلفاء في موقفهم من الملف السوري. وهم يلتقون بشدة على دعم استمرار الانتهاكات بحق السوريين والسوريات تحت حجج واهية ومتنوعة، تذهب من حماية الأقليات يميناً مروراً بنظرية المؤامرة الغالية على الشعبويين، ووصولاً إلى مقارعة "الامبريالية" المُتخيلة يساراً.

وفي كل محفل برلماني يجمع ممثلوهم الداخلون حديثاً إلى أكثر من مجلس نواب أوروبي في ظل صعود اليمين المتطرف المُصاحب لصعود الشعبوية من كل الاتجاهات، لا يتردد ممثلو هذه التيارات من أن يكرروا على مسامع محاوريهم أو سامعيهم عبارات التودد لموسكو فلاديمير بوتين وإيران علي خامنئي. وفي مرحلة قريبة، صارت الصين تظهر أكثر فأكثر وضوحاً في تصريحاتهم السياسية كصاحبة مشروع إنمائي حضاري جبار يتمثل بـ "طريق الحرير الجديد" المزمع تنفيذه بأحدث وسائط التكنولوجيا. 

الصين إذاً، صاحبة النظام الديكتاتوري الأمني من جهة، والتنين الاقتصادي الذي لا يتوقف عن النمو والازدهار من جهة أخرى

الصين إذاً، صاحبة النظام الديكتاتوري الأمني من جهة، والتنين الاقتصادي الذي لا يتوقف عن النمو والازدهار من جهة أخرى، صارت اليوم مضرب الأمثلة لدى كثيرين في مدى القدرة على اتباع نهجها الاقتصادي والوصول إلى معدلات النمو المحققة لديها. فأهل اليمين يعتبرون بأن الشيوعية المركانتيلية القائمة في بكين تنافس أعتى الرأسماليات الغربية في تحررها من كل قيد اجتماعي أو من احترامها لأي حق عمالي. وبالتالي، فمرونة الأعمال مشجعة وجاذبة وهي مثال يجب أن يُحتذى به بعيداً عن أية قيم أو مبادئ. وأهل اليسار يرون في الصين نجاح العلاقة غير الشرعية بين التحرر الاقتصادي وبقاء حزب شيوعي أصم على سدة الحكم.

أما مسألة حقوق الناس والانتهاكات التي يتعرض لها المعارضون أو التجاوزات غير الإنسانية التي يخضع لها العمال في ورشات التصنيع، فهي مسألة تحتمل وجهات النظر. فلربما يعتقد البعض بأن الحديث عنها والإشارة إليها هو تضخيم تقوم به أجهزة الإعلام الغربي "المغرضة" لمحاولة تشويه سمعة هذا التنين الذي لا يُخرج من فمه ناراً إلا تجاه شعبه، وأما لسانه، فهو يلتقط كل ما لذّ وطاب من ثروات وموارد الشعوب الأخرى حصيلة استثمارات مدروسة في مواقع عدة تمتد من شرق آسيا مروراً بإفريقيا ووصولا إلى اللاتيني من أميركا.

احتفل الإعلام الروسي بشكل مسبق باحتمال دخول التنين هذا إلى سوق إعادة الإعمار المادي في سوريا في ظل عجز روسيا المفلسة وإيران الأكثر إفلاساً عن تمويله، كما في ظل تردد الغرب الأوروبي بسبب عدم حصول الانتقال السياسي والمساومة الأميركية على انسحاب ايران من سوريا كشرطٍ وحيد لخوض هذه المغامرة. وقد عنونت قناة "آر تي" الروسية مقالاً افتتاحياً لموقعها بالتالي: "دخول التنين، الدور الأساسي للصين لاكتساب السلام في سوريا".

وبما أن هذه الوسيلة الإعلامية الروسية، هي انعكاس شبه مؤكد لرغبات الكرملين، فيبدو أن هذا المقال هو رسالة واضحة لدعوة الصين إلى المساهمة في عملية إعادة الإعمار لتحقيق "السلام" في الربوع السورية المدمرة. وهي أيضاً رسالة روسية واضحة الهدف إلى الأوروبيين المترددين والأميركيين الشارطين، فحواها أننا لن ننتظر تراجعكم وسنسعى إلى الحليف الغني المتلهف لاستثمارات جديدة في الشرق الأوسط. 

رهان موسكو على الصين إذاً يهدف، إضافة إلى إنقاذ روسيا من ورطتها الاقتصادية على أقل تقدير، إلى أن يخسر الغربيون آخر ورقة ضغط يمكن لهم أن يتداولونها فيما يتعلق بالملف السوري وهي وضع اليد في المحفظة وإخراج المال لإعادة الإعمار.

ولجذب بكين، يتحدث الإعلام الروسي عن وجود أكثر من خمسة آلاف مقاتل أيغوري إلى جانب العناصر الإرهابية التابعة للقاعدة أو لداعش

ولجذب بكين، يتحدث الإعلام الروسي عن وجود أكثر من خمسة آلاف مقاتل أيغوري (وهي أقلية مسلمة مضطهدة من الصين) إلى جانب العناصر الإرهابية التابعة للقاعدة أو لداعش. وبذلك، فالاهتمام الصيني "الإنساني" بهذا المكون المسلم في مجتمعها لا يجب أن يكتفي بوضعهم في معسكرات اعتقال وإعادة "تكوين" على أراضيه، إنما يجب على بكين أن تلحق بمن تسرب منهم إلى أرض "الجهاد" وتقضي عليه. ولن يتم ذلك إلا بالانخراط في الحرب السورية إلى جانب روسيا وإيران، وفي عملية إعادة الإعمار لاحقاً. 

الدعم الدبلوماسي الصيني للنظام السوري قائم في كل المحافل الدولية، كما أنه لا يُمكن التشكيك بوجود دعم عسكري متناسب مع الانغماس في قضايا المنطقة بشكل نسبي. ولكن يبقى الرهان على انخراط بكين في عملية إعادة الإعمار واستثمار البلايين من الدولارات فيها هو رهان غير موفق، لأن الصين، ورغم طموحاتها السياسية المعلنة، إلا أنها تُدير استثماراتها بحيث أن يكون في صلب أعينها الربح والمردود المتناسب مع حجمها. وفي ظل غياب دولة القانون والافتقاد لوجود قضاء، على الأقل تجاري ومالي، عادل ومستقل، فلا يمكن لعاقل مهما تشيطن أن يستثمر أموالاً يعرف بأن منظومة الفساد ستأكل نصفها إن لم يكن أكثر.

في الأشهر الأخيرة، منحت بكين الحكومة السورية عطاءً وقدره عشرون مليون دولار، وهذا ما يمكن للسياسة الصينية أن تكرره بعيداً عن الأرقام الكبيرة التي لن تخرجها من محفظتها للمشاركة الفعلية والفعالة في عملية إعادة الإعمار كما تريد موسكو. التنين الصيني يدعم سياسياً الديكتاتوريات ولكنه قبل كل شيء يُفكر بالعوائد.