التذاكي الروسي المفضوح

2018.06.05 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A
الطبيعي أن يكون هناك عدالة في هذا الكونوإذا كان للعدالة أن تأخذ طريقها نحو حساب عسير لمنظومة الأسد على الجرائم التي ارتكبتها بحق سوريا وأهلها، فمنظومة بوتين لابد أن تكون الشريك الكامل في المصير ذاته.
إن نظرة بسيطة على تلك الاتفاقية بين نظام الأسد وروسيا كافية للتيقن بأنها لم تكن إلا عبارة عن عقد إذعان وبيع رخيص لروسيا من أجل حماية منظومة استبدادية. إنها عقدٌ إذعان  لنصف قرن، دون تحمٓل لأي مسؤولية  أو تبعات؛ ببساطة هو استعمار برضى النظام.
 
رغم مزايدة منظومة الأسد ومبالغاتها في الحديث عن " السيادة " و " الشرعية " و " الدولة السورية " ، إلا أن بوتين ومسؤوليه كانوا أغزر حديثا عن هذه الأمور، ورغم أن منظومة الأسد كانت الأكثر فتكا بالدولة والسيادة  والشرعية، كي تبقى في السلطة، إلا أن بوتين ورجاله لم يتمكنوا من حماية منظومة الأسد إلا على حساب الدولة والسيادة والشرعية السورية، عبر تدمير وهتك سيادتها وشرعيتها وخنق شعبها وتهديد مصيره.
 
استهل بوتين تدخله في سوريا بحجة محاربة الإرهاب، وتستمر تلك الديباجة حتى  اللحظة، ولكن طائراته دكت الأسواق، والمشافي والمدنيين، وكل من يقول "لا" للأسد،  لتكون حصيلة ضحاياه ما يزيد على عشرة آلاف سوري ومئات الآلاف الذين اقتلعوا وهجروا قسرا من بيوتهم. وكل ذلك ليحافظ على "الشرعية" و "الدولة" و "السيادة".
كان تهجير السوريين يتم تحت رعاية روسية كي ترتاح منظومة الأسد. ذلك التهجير القسري كان يتم بعد أن يدك طيران بوتين تلك المناطق وبعد اتباعه سياسة الأرض المحروقة.
 
استهل بوتين تدخله في سوريا بحجة محاربة الإرهاب، وتستمر تلك الديباجة حتى  اللحظة، ولكن طائراته دكت الأسواق، والمشافي والمدنيين
لقد شكل بوتين الغطاء الجوي اللازم لميليشيات إيران والأسد التي تذبح البلد وشرعيته وسيادته، ومعروف أن من يغطي على الجريمة لا يقل إجراما عن مرتكبها. وهنا ترى بوتين يتجرع القرف الإيراني فقط لأن ميليشيات إيران تساعده بالحفاظ على منظومة الأسد.
سعت منظومة بوتين إلى حماية منظومة الأسد من جرائم الحرب التي ارتُكبت في سوريا وتحديدا استخدام السلاح الكيماوي. 
 
كانت مرافعات مندوبي بوتين في مجلس الأمن أكثر ضراوة من دفاعها عن نفسها في القرم أو أوكرانيا أو غروزني. ذلك كان تحت يافطة الحفاظ على "السيادة والشرعية والدولة السورية"ولكنه فعليا كانت دفاعاً عن النفس. وما استخدام روسيا "الفيتو" أكثر من عشرة مرات إلا لهذه الغاية، "فيكاد المريب أن يقول خذوني".
عام 2013 وإثر مجزرة الكيماوي في الغوطة، عملت إدارة بوتين عرّاباً لمصافقة ترسانة سورية الكيماوية مقابل بقاء الأسد. 
 
في قضية "التقسيم" كانت إدارة بوتين الأكثر حديثاً من باب "الخشية والحرص" عن خطر تقسيم سورية، ولكن في نظرة متمعنة لواقع الحال رأى العالم بوتين أن يبيع ويقايض سورية قطعة وراء أخرى ونفوذاً بنفوذ في مناطق من سورية لكسب تحالفات أو اتقاء مواجهات أو كسب ود؛ وكل ذاك فقط ليبعد أي خطر عن منظومة الاستبداد الأسدية. فإذا كانت سوريا ستقسّم إلى مناطق نفوذ "أميركية، تركية، إيرانية، روسية، إسرائيلية"، فإن إدارة بوتين هي المسؤول الأول عن هكذا جريمة: إنه "وهبُ من لا يملك لمن لا يستحق"، إنه اللعب الإجرامي  بمصير ومستقبل بلد وشعب يدّعي بوتين الحفاظ على سيادته وشرعيته ووحدته، ولكن كل ذلك يهون أمام المحافظة على نظام مستبد يشبهه.
 
رغم أن منظومة الأسد كانت الأكثر فتكا بالدولة والسيادة  والشرعية، كي تبقى في السلطة، إلا أن بوتين ورجاله لم يتمكنوا من حماية منظومة الأسد إلا على حساب الدولة والسيادة والشرعية
في هذا السياق بالذات، فسح بوتين المجال لإسرائيل أن تفعل ما تريد في سوريا، سامحاً باستباحة البلاد والعباد شريطة أن لايمس نظام الأسد. والأخطر من ذلك، وفي سياق استباحة بوتين لمصير "البلد السيادي الشرعي"، مهّد بوتين لإسرائيل أن تعيد فتح ملف "ضم الجولان" في ظل ذلك الفلتان والتشرذم الذي خلقتهُ سياسته في سورية التي يحرص على "شرعية سلطتها".
 
رغم انسجامها مع الحل العسكري الذي اختطه نظام الأسد لمواجهة انتفاضة أهل سوريا، إلا أن روسيا بوتين كانت الأكثر حديثاً عن "حل سياسي" وهنا ترى وزير خارجية بوتين في سعي حثيث لإفراغ القرارات الدولية من مضامينها عبر منهجية انتقائية تلتقط بنداً من تلك القرارات، تشوهه وتجعل منهُ اختصاراً للقضية السورية. فمن خلال المسعى الروسي الحثيث لضرب مصداقية المعارضة السورية، كان مجرّد الإشارة المتعمدة في القرار الدولي إلى اجتماع عُقد في عاصمة ما كفيلاً بتحويل أشخاص من ذلك الاجتماع إلى "منصة" معارضة.
 
 
كان "وقف إطلاق النار" في سوريا العنصر الأهم في القرارات الدولية، فحولته إدارة بوتين إلى ما سمته "خفض تصعيد"عقدت لهُ اجتماعات في أستانة نسفت من خلاله البعد الإنساني في القرارات الدولية (وعلى رأسها إطلاق سراح المعتقلين) وأدخلت إيران المحتلة عنصراً ضامناً في أستانة لتتحول تلك المناطق من مناطق خفض تصعيد إلى مناطق تصعيد التصعيد.  

روسيا ليست غبيّة كي لا تعرف أن بقاء منظومة الأسد هو الوصفة الأنجع لاستمرار الجريمة والإرهاب والدمار والتهجير واللا استقرار الإقليمي والعالمي

أما الأوقح من ذلك فهو المسعى الروسي لتحويل أستانة إلى مسار "سياسي " لنسف مسار جنيف وتعطيل أي احتمال لحل سياسي. وعندما استنفذت " أستانة " أغراضها ولم تتمكن من اكتساب البعد السياسي، ذهبت روسيا إلى القرار الدولي وانتقت منه عقد "مؤتمر وطني سوري"؛  فكانت " سوتشي " هي المكان الذي تم القفز فيه إلى " لجنة دستورية "، وكأن مشكلة سورية هي في الدستور. كل ذلك يمكن تكثيفه في جريمة ترتكبها إدارة بوتين اسمها نسف الحل السياسي في سورية والإبقاء على منظومة الاستبداد وإعادة تأهيلها.
 
روسيا ليست غبيّة كي لا تعرف أن بقاء منظومة الأسد هو الوصفة الأنجع لاستمرار الجريمة والإرهاب والدمار والتهجير واللا استقرار الإقليمي والعالمي... التوتر العالي الذي تستفيد منه ربما بالمصافقة على الورقة الأسدية. هذا لم يحصل بعد، لكن ما حدث لا يعفي بعض مسؤوليها من حساب وزيارة إلى محكمة الجنايات الدولية. العدالة ربما تمشي ببطء كالسلحفاة، ولكنها في النهاية، تصل.