البعث السوري: الممانعة مستمرة!

2018.10.15 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أعادت اللجنة المركزية لحزب البعث في سوريا هيكلة تنظيمه، من خلال تغيير أسماء الأطر القيادية، وتحويله إلى "حزب وطني" ليس له امتدادات خارج سوريا، بما يتسق مع قانون الأحزاب الذي يشترط ذلك.

لكن الأهم من النقطتين المذكورتين إنما هو إعادة انتخاب رأس النظام الكيماوي "أميناً عاماً" للحزب، وذلك بعدما كان يسمى "أميناً قطرياً" قبل هذا التغيير. لا تكمن أهمية هذه النقطة في تغيير التسمية، بل في استمرار رأس النظام في قيادة هذا الحزب الذي فقد كل معنى وجوده منذ عقود. وخاصةً أن سنوات الثورة السورية قد غيّرت كل شيء ودمرت أسس "سورية الأسد" نفسها، ففقد الحزب الذي كان "قائداً للدولة والمجتمع" حتى أهميته الشكلية، بموازاة زواله عملياً. بكلمات أخرى، تشير إعادة الهيكلة، وفي القلب منها استمرار بشار على رأس الحزب، على رغم إلغاء قيادة الحزب للدولة والمجتمع منذ العام 2012، إلى استمرار أهمية الحزب في مشروع النظام لسوريا المستقبل كما يريد لها أن تكون.

فما هو هذا المشروع، وما دور حزب البعث فيه، من وجهة نظر النظام؟

عادةً ما نلجأ إلى التبسيط فنقول إن النظام يريد عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل آذار 2011. هو كلام صحيح أساساً، لكنه يحتاج إلى كثير من التفاصيل، بالنظر إلى التغيرات العميقة التي حدثت خلال السنوات الثماني المنقضية، ولا يمكن القفز من فوقها ببساطة.

لا يمكن لأي طغمة حاكمة في أي بلد أن تدافع عن أحقيتها في السلطة بدون طبقة كثيفة من الشعارات والأوهام القابلة للتسويق لدى الجمهور المستهدف

لا يمكن لأي طغمة حاكمة في أي بلد أن تدافع عن أحقيتها في السلطة بدون طبقة كثيفة من الشعارات والأوهام القابلة للتسويق لدى الجمهور المستهدف، وهو طبقة المحكومين. أي ما نسميه بالعدة الأيديولوجية للدولة أو للطغمة الممسكة بها. هذه "العدة" في مثال النظام الكيماوي موجودة في متناول اليد، لا تزول ولا تتقادم، ما دام النظام الشرق أوسطي قائماً بأسسه العامة، وإن كانت مفاعيل الزلزال السوري قد دفعت إلى بداية تقويضه.

لنفهم أهمية حزب البعث في "سورية المستقبل" من وجهة نظر النظام، علينا تمحيص "الخطاب الموالي"، أي كيف يدافع المتمسكون ببقاء النظام عن موقفهم، وما هي صورة "سورية المستقبل" في مخيلة القاعدة الاجتماعية للنظام؟

وحين نتحدث عن الموالاة، فنحن نقصد بيئة اجتماعية متنوعة نسبياً وفقاً للدوافع العميقة لموالاتهم، وهذه ليست متطابقة، ولا يتم التعبير عنها بصراحة، ومن هنا كانت حاجتها إلى "خطاب" أيديولوجي يغطي عليها.

هناك ثلاث كتل اجتماعية رئيسية يمكن تمييزها في البيئة الموالية، هي: الطائفة العلوية، والأقليات الدينية – المذهبية، وقسم من السنة، يجمعهم معاً العداء للثورة بأكثر من تمسكهم بالنظام. الكتلة الأولى متمسكة بالنظام الذي تعتبره دولتها القائمة على التمييز الإيجابي لمصلحتها، وحاميها في مواجهة "الخطر السني". الكتلة الثانية ركائزها هو الخوف من الأصولية الإسلامية، فتشترك مع الأولى في دافع حماية النظام المزعومة للأقليات. أما الكتلة الثالثة فهي تخشى من الثورة على مكاسبها من شراكتها للنظام في بعض المنافع. نقصد هنا قسماً من الرأسمالية السنية، وبعض البيئات العشائرية، وصغار الشبيحة ممن ارتبطوا بروابط انتهازية مع مستويات متعددة من "النظام". وقد نضيف إليهم نخبة سنية علمانية عادت الثورة بدعوى أنها إسلامية وتشكل خطراً على نمط حياتها "الحديث"، فبدا لها أن نظاماً دكتاتورياً "حداثياً" هو أرحم من ثورة إسلامية.

هناك ثلاث كتل اجتماعية رئيسية يمكن تمييزها في البيئة الموالية، هي: الطائفة العلوية، والأقليات الدينية – المذهبية، وقسم من السنة، يجمعهم معاً العداء للثورة أكثر من تمسكهم بالنظام

هذه الدوافع الحقيقية لا يتم التعبير عنها بهذه الصراحة، إلا في بعض منشورات وسائل التواصل الاجتماعي. لذلك تحتاج البيئة الموالية إلى عناصر إيديولوجية تغطي بها على دوافعها غير المقبولة في الفضاء العام، وبخاصة الطائفية منها التي طالما نبذتها الثقافة السورية منذ قيام الكيان السوري الحديث. نقرأ كثيراً في منشورات موالين أو مدافعين عن النظام تعابير "الدولة" للدلالة على النظام، أو "الجيش العربي السوري" للدلالة على التشكيلات المقاتلة دفاعاً عن النظام. لكن المنشورات التي تضطر إلى وضع "تحليلات" أكثر عمقاً بصدد ما تسميها "الأزمة" لا بد أن تحيل الصراع في سوريا إلى "مؤامرة" خارجية وراءها دول "إمبريالية" وإسرائيل ودول الخليج وتركيا. والحال أن الصراع السوري تم تدويله فعلاً، بما يمنح شيئاً من الوجاهة لتحليلات المؤامرة. وهنا يحتاج الأمر إلى عناصر إيديولوجية متنوعة، على رأسها إيديولوجيا الممانعة ذات التاريخ المديد. فما دامت إسرائيل جزءا من تلك "المؤامرة" يصبح من السهولة بمكان الاستعانة بمخزون الممانعة المتوفر في حزب البعث وأخوته. فإذا أضفت إلى إسرائيل الإمبرياليات الأميركية والأوروبية اكتمل زاد الممانعة. ثم تأتي عناصر إضافية، من خارج عقيدة حزب البعث القومية هذه المرة، لتلبي حاجات إضافية بالنظر إلى "عروبة" بعض المتآمرين على النظام الممانع، كما بالنظر إلى فيضان معسكر الممانعة عن إطاره العروبي نحو بلاد فارس وروسيا.

العناصر الإيديولوجية المطلوبة لمعالجة هذه الحالة تأتي من نزوع "وطني سوري" إذا جاز التعبير يبدي عداءً شديداً، بل عنصرياً، ضد من تسميهم بـ"العربان". لقد أدى انخراط بعض دول الخليج في الصراع السوري إلى نمو هذه النزعة، "القطرية" بتعابير البعث المندثرة، على حساب العقيدة القومية الصلبة التي طبعت الثقافة السورية بعمومها على مدى أجيال، وشكلت أساس "الممانعة" الأصلية قبل انضمام إيران إليها وقيادتها لها.

استثمر النظام جزءا مهماً من مجهوده الحربي لإجراء تغييرات ديموغرافية استهدفت أساساً بيئات سنية معارضة. كما أن رأس النظام نفسه أطلق تصريحات تعبر عن رغبة في إقامة "مجتمع متجانس"

استثمر النظام جزءا مهماً من مجهوده الحربي لإجراء تغييرات ديموغرافية استهدفت أساساً بيئات سنية معارضة. كما أن رأس النظام نفسه أطلق تصريحات تعبر عن رغبة في إقامة "مجتمع متجانس". لكن كل تلك المجهودات العملية والرغبات المعبر عنها لم تكن كافية لإجراء تغيير ديموغرافي كبير من شأنه قلب النسب بين المكونات الاجتماعية. فضلاً عن وجود قسم لا يستهان به من السنة في البيئة الموالية. وأخيراً فإن التنوع الديني – المذهبي للمجتمع المتجانس المرغوب من النظام أكثر جاذبية للتصدير الخارجي كما لترسيخ معيار الولاء على أسس أكثر صلابة، من دولة أحادية. لذلك فالتجانس المطلوب هو تجانس سياسي معياره الولاء للنظام، وإن كان التباس الكلمة مفيداً للنظام لجهة إرضاء بعض نوازع العداء للبيئة السنية لدى كتلتي العلويين والأقليات، فيسمح تعبير التجانس أن يفهمه البعض ممن يرغب بأنه تجانس طائفي.

عند هذه النقطة يمكن الاستدلال بحركة الاعتراض، في البيئة الموالية، على القانون رقم 16 الخاص بتنظيم شؤون وزارة الأوقاف. فقد عبرت تلك الحركة عن خيبة أمل قسم من الموالاة مما اعتبروها تنازلات قدمتها "الدولة" للإسلام السني. وهذا مما يشير إلى تباين بين فهم النظام وفهم قسم من قاعدته الاجتماعية لمفهوم "التجانس" الذي يريدانه لسورية المستقبل من وجهة نظرهما. من شأن استمرار إيديولوجيا الممانعة كأداة ضرورية للحكم في "سورية الأسد" في المرحلة القادمة، أن يسد هذه الفجوة أو يلغي التباين المذكور. وهذا هو الدور المستقبلي لحزب البعث (المفترض أنه علماني) كما يريده النظام. 

هذا إذا كان لهذا النظام مستقبل.