البرْدوعة

2019.01.18 | 00:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لا أدري بالضبط لماذا أُطلق اسم (سالول) على أحد المهاجع في الباحة الثالثة في سجن تدمر، علماً أن أغلب المهاجع لها أرقام محددة، وثمة مهجع آخر اسمه (الحمام)، ربما بسبب استخدامه لاستحمام السجناء في بداية الثمانينيات، حين كانت عملية الاستحمام مجزرة حقيقية.

أميل إلى ترجيح هذه التسمية (سالول) لكون ذاك المهجع مغلقاً بإحكام شديد، أي ليس له أي نافذة سوى فتحة في السقف العلوي، مساحتها متر مربع واحد، ويطلق عليها اصطلاحاً (الشراقة)، الغاية من وجودها هي مراقبة السجناء داخل المهجع، وأحياناً كثيرة يتم تعذيبهم من خلال الأوامر التي يطلقها الحرس الموجود على السطح، حين يضيق ذرعاً بالوقت، فيخطر له أن يتسلّى بتعذيب السجناء ريثما تنتهي نوبة حراسته، فيقف بجانب الشراقة، ويصيح : الجميع منبطحاً، أو يشير إلى اثنين من السجناء ويأمر أحدهما بلطم الآخر على وجهه بقوة، أو يأمره بجلب أسطوانة بلاستيكية مليئة بالماء البارد، ويطلب من أحد السجينين أن يسكبها على زميله أو زملائه، فضلاً عن أن مصطلح (سالول) يوحي باللهجة العامية بمعنى (السرداب). وثمة تسمية رديفة لهذا المهجع، كان يستخدمها عناصر الشرطة العسكرية فقط، وتلك التسمية هي (أبو ريحة)، نظراً لاندفاع الروائح الكريهة من المهجع، حال انفتاح بابه.

حدّة الروائح الكريهة في هذا المهجع جعلت الشرطة يتحاشون فتْح بابه إلّا للضرورة فقط، (التفقد – إدخال الطعام – إخراج السجناء للتعذيب)، أما السجناء القابعون داخل المهجع فقد ألفوا هذه الروائح، إذ أصبحت – مع تعاقب السنين – المناخ الطبيعي لهم.

كان شهر تموز من العام 1998 حارقاً للغاية، وعلى خلاف حالة الجفاف المعروفة في صحراء تدمر، فإن نسبة الرطوبة في (السالول) بلغت حدّاً عالياً، إلى درجة باتت فيها الجدران تنضح بالعرق

كان شهر تموز من العام 1998 حارقاً للغاية، وعلى خلاف حالة الجفاف المعروفة في صحراء تدمر، فإن نسبة الرطوبة في (السالول) بلغت حدّاً عالياً، إلى درجة باتت فيها الجدران تنضح بالعرق، ربما كان ذلك نتيجة طبيعية لغرفة محكمة الإغلاق، تبلغ مساحتها عشرين متراً مربعاً، ويُحشر فيها (57) كائناً بشرياً، جميعهم يتنفسون ويتعرقون، وأثناء النوم يتلاصقون كما السمك في علب السردين، ويستخدمون دورة مياه واحدة، يندر أن يتواجد فيها الماء.

عمليات التهْوية اليدوية التي تُستخدم فيها البطانيات والبشاكير لم تعد مجدية، فشدّة ارتفاع درجة الحرارة الممتزجة بالروائح الكريهة المنبعثة من الأجساد ودورة المياه لم تعد تطاق. لقد تجاوز الوقت الساعة السادسة مساءً، وفي هذه الحال من المفترض أن يكون الجميع نياماً، وفقاً لتعليمات إدارة السجن، باستثناء سجين واحد في كل مهجع، يقوم بمهمة الحراسة، والتي تتمثل بمراقبة السجناء خلال النوم، ومنْع أي أحد من الدخول إلى دورة المياه، أو التقلب أثناء النوم، أو الشخير، وإنْ تهاون في هذه المهمّة، فسيلقى عقاباً شديداً من السجان.

مرضى (الربو) وما أكثرهم في سجن تدمر، كانوا الأشدّ تأثراً في تلك الليلة، وبخاصة الصديق الرقاوي (أبو حمزة)، الذي بدأ يلفظ أنفاسه، لاهثاً كعصفور في لحظة الاحتضار. لم ينم أحد من السجناء، على الرغم من خطورة الاستيقاظ في مثل هذا التوقيت، لأنه ينطوي على مخالفة كبيرة، الجميع بدا في حيرة وإرباك شديدين، ما الذي يمكن فعله، في ظل انعدام (البخاخ) الذي يستخدمه مرضى الربو في مساعدتهم على التنفس، وكذلك في موازاة انعدام أية وسيلة أخرى؟ قسم من السجناء رأى أن يقوم أحدنا بطرق الباب لإبلاغ السجان، علّهم يقومون بإخراج المريض خارج المهجع لاستنشاق الهواء، فيما ظل القسم الآخر واجماً، لعلْمه بأن عملية الإبلاغ سيعقبها وجبة تعذيب لن تستثني أحداً من المهجع، بل ربما يقوم عناصر الشرطة العسكرية – كعادتهم – بالإجهاز على المريض، لم تدمْ هذه الحيرة طويلاً، فالوضع الحرج لصديقنا المريض لا يحتمل الانتظار، إذْ لم يتردد رئيس المهجع عن قرْع الباب بقوة، أعقب ذلك سماع خطوات السجان الذي جاء راكضاً فوق السطح، فوقف بجانب (الشراقة) منادياً بقوّة:

- ولاه، رئيس المهجع، شوفي عندك ولاه حيوان؟
- سيدي في عندنا حالة اختناق.
- انقلع ولاه ابن الدكرة.

عملية الإبلاغ سيعقبها وجبة تعذيب لن تستثني أحداً من المهجع، بل ربما يقوم عناصر الشرطة العسكرية – كعادتهم – بالإجهاز على المريض

لحظة غياب السجان من جانب (الشراقة)، بدأ الجميع يتهيأ للخروج الجماعي من المهجع، القسم الأكبر من السجناء أخرج (البردوعة) من وسادته، لارتدائها تحت ملابسه، والبردوعة هي عبارة عن سترة سميكة الظهر، بدون أكمام، وغالباً ما تكون من الخِرق والثياب البالية، يقوم بخياطتها السجناء أنفسهم، ويلبسونها أثناء الخروج من المهاجع، علّها تسهم في تخفيف لسعات السياط المنهمرة على الظهر في حالات التعذيب، فيما بقي قسم من السجناء يتناوبون على التهْوية اليدوية بالبشاكير فوق المريض، لإحداث نسمة هواء.

ما هي سوى دقائق، وبدأت جلبة قوية لسريّة الشرطة، فُتِح الباب بسرعة، الكلُّ خارج المهجع، وكالعادة: (خمسة، خمسة، الجميع جاثياً والرأس إلى الأسفل)، فيما تمّ سحب المريض من قدميه ورمْيه جانباً.

البردوعة هي عبارة عن سترة سميكة الظهر، دون أكمام، وغالباً ما تكون من الخِرق والثياب البالية، يقوم بخياطتها السجناء أنفسهم

امتلأ فضاء الباحة الثالثة بأصوات السياط والهراوات الممتزجة بآهات وصراخ السجناء، وفي غمرة هياج جنوني للجلادين وهم ينقضّون على فرائسهم من تلك الكائنات البشرية التي لا تملك إلّا مكابدة الوجع واجترار القهر، صاح أحد عناصر الشرطة: - سيدي، وهو يعني رئيسه المساعد أول، والذي يقف على بعْد أمتار من ورشة التعذيب، ردّ عليه المساعد:

- شوباك ولاه؟
- سيدي هاد العرصة يمكن لابس بردوعة تحت تيابه، لأنو صوت الكابل ألو طبّة على ضهرو.
أشار المساعد إلى جميع الجلادين بالتوقف عن الضرب، وصاح بالسجين المتهم بارتداء البردوعة: وقّف وشلاح كل تيابك ولاه، نهض السجين بسرعة، وهو ينزع ثيابه قطعةً بعد قطعة، فيما صاح أحد عناصر الشرطة: هي هية سيدي، ليك البردوعة.

حينها صاح المساعد: الجميع يدخل على المهجع، بس يضل الكلب هاد. لحظات وأصبح الجميع متكوّماً داخل (السالول)، وبدأ من جديد هياج الجلادين، ولكن لم يكن أمامهم سوى فريسة واحدة، أثخنوها ضرباً وركلاً بأقدامهم حتى لم تعد تقوى على الصراخ. لم يقطع موجة الهياج الجنوني هذه سوى صيحة المساعد أول، واقفاً ولاه حيوان، شيل تيابك وانقلع عل المهجع، ولاتنسى تاخد البردوعة تبعك، حطها ب...... أمك.