الانسحاب الأميركي من سوريا ليس انتصارا لإيران

2018.12.21 | 00:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

سارع الكثير من المحللين إلى تحديد المنتصرين والمهزومين من عملية الانسحاب الأميركي من سوريا والتي تم الإعلان عنها مؤخرا.

تقع روسيا وتركيا وإيران على رأس قائمة المنتصرين، ويتبعهم نظام الأسد بينما تدرج قوات سوريا الديمقراطية كخاسر أكيد وإسرائيل كخاسر محتمل.

خرجت هذه القراءة إلى النور فور إعلان الانسحاب، ولكن البحث في الأسباب والعناوين العريضة لهذا الانسحاب قد يدفع إلى الخروج باستنتاحات أكثر حذرا وأقل يقينية ،وخصوصا في ما يتعلق بالنظر إليه على أنه يؤسس لانتصار إيراني.

 أدى هذا الانسحاب دور تكريس روسيا كمرجع أساسي في سوريا، وهذا الأمر لا يعود إلى أنها تتمتع بقوة استثنائية لا تقارع بل إلى قلة الاهتمام الأميركي بسوريا، وهو ما توارثته الإدارات المتعاقبة من عهد أوباما الذي كان يرى فيها مستودعا لتجميع كل الذين يجب التخلص منهم، إلى عهد ترامب الذي اعتمد سياسة مواربة تجاه سوريا تحت عنوان محاربة الإرهاب، اتخذ منها منطلقا للتفاوض في ميادين أخرى أكثر أهمية بالنسبة له.

تُركت سوريا لروسيا ضمن عناوين بدأت معالمها تتضح الآن مع الانسحاب الأميركي، وهذه العناوين

لم تشأ أميركا تغليب حلفها مع الأكراد على علاقتها مع تركيا، ولكنها لم تمنحها كذلك تفويضا مطلقا بإنهاء الوجود الكردي وتصفية قوات سوريا الديمقراطية

لا تتصل بحسابات الربح والخسارة بشكل دقيق بل تتصل بترتيبات ومسارات، فما تم إرساؤه يرتبط بإنهاء أحلام الأقليات ببناء دول أو كيانات مستقلة كما هو حال الأكراد، وتكريس التعامل وتقاسم النفوذ بين الدول بشكل حصري.

لم تشأ أميركا تغليب حلفها مع الأكراد على علاقتها مع تركيا، ولكنها لم تمنحها كذلك تفويضا مطلقا بإنهاء الوجود الكردي وتصفية قوات سوريا الديمقراطية، بل تركت الأمر في دائرة التنازع التي تتوقع أن يخرج منها الطرفان منهكين من دون السماح لأحدهما بتسجيل انتصار واضح ونهائي.

الأمر نفسه ينطبق على الدور الروسي، فروسيا مطلوب منها أن تلعب دور ضابط الإيقاع في المنطقة، بما يؤمن حماية أمن إسرائيل وتيسير شؤون إنهاء الحرب السورية وفق جدول مقايضات.

  تتصل هذه المقايضات بالوضع الخاص للرئيس الأميركي، حيث استجر قرار الانسحاب سجالات داخلية حادة بين المؤيدين والمعارضين، سيطرت أجواؤه على العناوين المتصلة بأزماته ومشاكله مع القضاء والإعلام، كما ترتبط  بالعلاقة مع الصين وملفات أوكرانيا والقرم، وتوزيع وتقاسم صفقات النفط والغاز في العالم مع الروس.

وفق هذا السياق يبدو الحديث عن انتصار إيراني من خلال الانسحاب الروسي حديثا مفتقدا للحيثية الميدانية، فروسيا التي تسعى لتعويم النظام السوري تفعل ذلك انطلاقا من عنوان متصل بالشرعية وفكرة الدولة، وتعمل على شرعنة الأسد ليس بوصفه نظاما أو تعبيرا أقلويا، ولكن بوصفه يمثل بنية دولتية تعبّر عن منطق مرتبط بآليات عمل نفوذها.

يتناقض النزوع الروسي الذي يلاقي أصداء إيجابية عربية ودولية مع طبيعة الوجود الإيراني وشكله وحضوره في سوريا والمنطقة، الذي اتخذ طابعا ميليشويا لم يعد مقبولا، كما أنه بات واضحا ارتباط إيران في كل مجال تحضر فيه مباشرة أو بالوكالة عبر أذرعها ،من قبيل حزب الله، بالتعطيل والتعقيد وسد سبل الحلول.

كان لافتا أن المشروع الروسي في المنطقة عمل على تظهير نفسه بوصفه النقيض المباشر لمنطق التعطيل الإيراني ففي حين عمد حزب الله في لبنان إلى السعي المحموم لتعطيل تشكيل الحكومة وفق توجه إيراني ابتزازي،أنتج التدخل الروسي دورا حاسما في دفع الأمور إلى خواتيمها السعيدة، وإنجاح تشكيل الحكومة بشكل ظهر فيه رئيس المجلس النيابي نبيه بري والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم في واجهة صناعة الحلول بدعم روسي دفع في اتجاه تكريس الحضور السوري في الحكومة.

ما كرسه الانسحاب الأميركي والذي لا يبدو أن إيران قادرة على التعامل معه بسلاسة

لا يمكن لإيران أن تعمل إلا في ظل الاضطراب والفوضى والتوتر، ولعل الانسحاب الأميركي من سوريا يمهد لفترة اضطراب قصوى ومحدودة، تمهد لاستقرار ما لا يلحظ دورا واضحا لإيران

أو بقدرة على الابتزاز، هو أنه أناط بروسيا دورا مرجعيا في كل ما يتصل بالمنطقة وشؤونها، وهو ما لم تعتد إيران على التعامل معه في ظل تضارب مشاريعها مع مشروع روسي لا يمكن له أن ينجز إلا في ظل إنهاء النزاعات، والدفع في اتجاه استقرار يسمح بتدفق أموال إعادة الإعمار، وربط فكرة الشرعيات في المنطقة بالنفوذ الروسي ومآلاته.

لا يمكن لإيران أن تعمل إلا في ظل الاضطراب والفوضى والتوتر، ولعل الانسحاب الأميركي من سوريا يمهد لفترة اضطراب قصوى ومحدودة، تمهد لاستقرار ما لا يلحظ دورا واضحا لإيران.

يؤدي هذا الواقع  وظيفة إجبار إيران على ضبط نشاطات أذرعتها في المنطقة ما يعني أن حزب الله سيجبر على الخضوع لمعادلات لا تتصل بالوضع الداخلي اللبناني الذي يتمتع فيه بغلبة لا تنكر، حيث سيجد نفسه في مواجهة مشروع النفوذ الروسي، وهو مشروع لا يرد على محاولات اختراق مصالحه والتشويش عليها بالعقوبات والمفاوضات بل بسياسة الأرض المحروقة.