الانزلاق من "الانتقال السياسي" إلى "البيئة الآمنة"!

2018.08.12 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

بعد تدهور مديد ارتكب خلاله الكثير من الخطايا والأخطاء من قبل السوريين وحلفائهم يفارق موضوع الحل السياسي صورة جنيف1 ويقترب أكثر من وضع صفقة جديدة بين القوى الدولية يجد السوريون أنفسهم جميعاً مجرد طرف في تطبيقها لا في صياغتها، وبقي من كل ما سبق من قرارات ومؤتمرات واتفاقات وفرض وقائع سياسية لجنة سوتشي الدستورية، والشيء الوحيد الواضح في هذه اللجنة المفترضة إلى الآن أنها لن تعمل بدافع من قرارات مجلس الأمن الدولي، حتى وإن كان هذا يتكرر على لسان ديمستورا والروس أنفسهم، وإنما ستشكل بصفقة وستكون أداة تنفيذها. لهذا السبب فإن مساعي ديمستورا شبه متوقفه بانتظار هذه التوافقات (تحديدا الروسية الأمريكية)؛ إذ لا داعي للعجلة، فتشكيل اللجنة في ظل الظروف الراهنة مستحيل، لأنها ستولد ميتة، وإلى أن تصبح تلك التوافقات ناجزة سيستمر ديمستورا على تهيئة موازية تستشرف طبيعة تلك التوافقات من خلال منظمات تقوم بجهود توطئة للمرحلة التالية، أي تهيئة تصورات سياسية وقانوينة يمكنها أن تلبي تلك التسوية عندما تحين.

فإن الاستسلام للجنة وقبول تقزيم الحل السياسي إلى لجنة دستورية لا يعرف أحد بعد طبيعة عملها تحت ذريعة "إحراج النظام" هو منتهى الغباء السياسي

يعتقد البعض أنه ما عاد أعضاء اللجنة يملكون القدرة على التمسك بقرارات مجلس الأمن، وبيان جنيف1، وما يملكونه هو تحصيل ما يمكن تحصيله من لجنة وليدة منظور روسي أريد لها أن تقزم الحل السياسي وتلغي عملياً مفعول جميع القرارات  حتى لو تم تظليلها بمظلة القرارا 2254، وبإشراف المبعوث الدولي ديمستورا، فقد أظهر أعضاء رياض2 استسلاماً غريباً للروس بقبول اللجنة وما يعرف بـ"المبادئ الحية" التي زُعم في سوتشي أنها تمثل التوافقات السياسية السورية التي ستعمل اللجنة المذكورة انطلاقا منها. وبغض النظر عن مشكلة تلك المبادئ الحية التي أريد لها أن تشكل أساساً لموت السوريين ودفن الانتقال السياسي، فإن الاستسلام للجنة وقبول تقزيم الحل السياسي إلى لجنة دستورية لا يعرف أحد بعد طبيعة عملها تحت ذريعة "إحراج النظام" هو منتهى الغباء السياسي، كان ينبغي رفض اللجنة والتمسك ببيان جنيف1 وقرارات مجلس الأمن حتى آخر رمق ريثما تتم تسوية يسعون من خلال تمسكهم بها للتفاوض، فما تملكه المعارضة (بمفهومها الواسع والعام ليس بعض الأعضاء في فريق رياض 2 فقط) هو "الشرعية"، لا يمكن لأي حل أن يمر بدون ختم المعارضة، لأن أي حل بدون ذلك سيكون غير مستقر لعدم شرعيته، فالأمر الواقع وحده لا يمنح الشرعية.

في عدة نقاشات مع فريق أعضاء من فريق تفاوض رياض 2 وأيضاً في عدة لقاءات تلفزيونية لأعضاء منهم بدأت تترد عبارة "البيئة الآمنة" المفترضة كشرط للانتخابات، أي أنهم تجاوزا دور اللجنة وبنوا على افتراض أنها ستشكل دستورا جديداً، ويراهنون الآن عليها لإحداث التغيير السياسي في سوريا!! نعم بكل جدية، قيادي قال في مقابلة تلفزيوينة إن "الشروط الصارمة للبيئة الآمنة ستقوض نظام الأسد، ولن تسمح ببقاء بشار الأسد  نفسه في السلطة"!، يبدو الأمر أشبه بتمسك رغائبي لخلق أمل كاذب بتغيير جذري بشكل دراماتيكي يعيد الأمور إلى نصابها، هذه بلاهة حقيقية.

من يعرف ماذا ستفعل اللجنة؟ وكيف سيتخذ القرار فيها؟ وكيف ومتى ستعمل؟ لا أحد بالطبع، إنما جملة من الآمال مرة أخرى يبنى عليها أمل أبعد هو الانقلاب السياسي الناعم بقوة المجتمع الدولي من خلال "البيئة الآمنة"! هذا المجتمع الذي كان دوره طيلة الوقت السابق مجرد عدّاد لشهدائنا، فكيف وهو يشعر الآن أن مصالحه مع إيران مهددة وأننا عقبة في وجهها؟!

عودة لـ"البيئة الآمنة" إياها، هذه البيئة التي عرفها بيان جنيف1 بأنها شرط من شروط "عملية الانتقال السياسي"،  الذي يجب "أن تنفَّذ في جو يكفل السلامة للجميع ويتسم بالاستقرار والهدوء" بحيث "يمكن بلوغها بسرعة، دون مزيد من إراقة الدماء، وتكون ذات مصداقية". ويشرح البيان بالتفصيل ما يقتضيه مبدأ "السلامة والاستقرار والهدوء"  أو "سلامة الجميع في جو من الاستقرار والهدوء" بأربعة بنود كالآتي:

 "(أ)   توطيد الهدوء والاستقرار الكاملين. فيجب على جميع الأطراف أن تتعاون مع هيئة الحكم الانتقالية لكفالة وقف أعمال العنف بصورة دائمة. ويشمل ذلك إكمال عمليات الانسحاب وتناول مسألة نزع سلاح المجموعات المسلحة وتسريح أفرادها وإعادة إدماجهم؛

 (ب) اتخاذ خطوات فعلية لكفالة حماية الفئات الضعيفة واتخاذ إجراءات فورية لمعالجة المسائل الإنسانية في المناطق المحتاجة. ومن الضروري أيضاً كفالة التعجيل بإكمال عملية الإفراج عن المحتجزين؛

 (ج)  استمرار المؤسسات الحكومية والموظفين من ذوي الكفاءات. فمن الواجب الحفاظ على الخدمات العامة أو استعادة سير عملها. ويشمل ذلك فيما يشمل قوات الجيش ودوائر الأمن. ومع ذلك، يتعيّن على جميع المؤسسات الحكومية، بما فيها دوائر الاستخبارات، أن تتصرف بما يتماشى مع معايير حقوق الإنسان والمعايير المهنية، وأن تعمل تحت قيادة عليا تكون محل ثقة الجمهور، وتخضع لسلطة هيئة الحكم الانتقالية؛

(د)    الالتزام بالمساءلة والمصالحة الوطنية. ويجب النظر في الجوانب المتعلقة بالمساءلة عن الأفعال المرتكبة خلال هذا النزاع. ومن اللازم أيضاً إعداد مجموعة شاملة من أدوات العدالة الانتقالية، تشمل تعويض ضحايا هذا النزاع أو ردّ الاعتبار إليهم، واتخاذ خطوات من أجل المصالحة الوطنية والعفو."

أي باختصار: انسحاب قوات النظام إلى ثكناتها، وإلغاء الميليشيات والفصائل العسكرية وتسليم الجميع سلاحه، وإدماج السوريين منهم بالجيش، والإفراج عن جميع المعتقلين، والتزام أجهزة الأمن بمعايير حقوق الإنسان، وتغييير قيادتها لتحل محلها قيادة سورية تكون "محل ثقة الجمهور"، وتخضع "لسلطة الحكم الانتقالي"، والالتزام بـ"المساءلة" و"العدالة الانتقالية" لتأسيس "مصالحة وطنية" على أساسها. 

هل هنالك حاجة للحديث عن الطرف الذي سيجبر الأجهزة الأمنية الوحشية في سوريا على التزام معايير حقوق الإنسان؟ هذا يبدو الآن أكثر من أي وقت مضى مجرد نكتة سمجة

أولاً من الواضح أن مفهوم البيئة الآمنة أساساً مبني على تشكيل هيئة حكم انتقالي، أي أنه سيكون من منتجات عملها، وليس العكس، وهو أمر يسبق تشكيل لجنة دستورية بمراحل، ليس فقط وفق بيان جنيف1 بل أيضاً وفق القرار 2254.

وثانياً إن مفهوم العدالة الانتقالية أحد أركان أربعة في هذه البيئة الآمنة، هل هنالك من يتوقع أن يتم قبول العدالة الانتقالية من قبل الروس؟ إلا إذا كانت ستطبق على طرف واحد!  لا هيئة الحكم الانتقالي مطروحة الآن من قبل فريق رياض2 (بغض النظر عن الكلام الإعلامي) وقبلها بكثير تم إسقاط "العدالة الانتقالية" من النقاش السياسي في جنيف وتجاهلها بإقناع من ديمستورا أن هذا "يستفز النظام" فيما على المعارضة أن تتكتك لـ"إحراجه" و"حشره في الزاوية" بحيث لا تتيح له فرصة التملص من الانخراط في الحل السياسي! طيب إذا كانوا تنازلوا عن مناقشة هذا الملف المصرح به في كل قرارات مجلس الأمن خوفا من عدم انخراطه في الحل السياسي، هل يتوقع أحد الآن أنهم سيكونون أكثر استجابة للمطالبة بذلك؟ لا يحتاج الأمر إلى إجابة، فهو أوضح من أن يتم التفكير فيه وحسابه.

ثالثاً، هل هنالك حاجة للحديث عن الطرف الذي سيجبر الأجهزة الأمنية الوحشية في سوريا على التزام معايير حقوق الإنسان؟ هذا يبدو الآن أكثر من أي وقت مضى مجرد نكتة سمجة، ومثلها نزع أسلحة الميليشيات الإيرانية، من يصدق أن النظام لديه الرغبة أو قادر عليها إذا كان الخيار له أساساً؟ ومن يعتقد أن يمكنه إجبار إيران على حل هذه الميليشيات بسهولة بمجرد أن الانتخابات تقتضي "بيئة آمنة"؟!  

ماذا بقي قابلاً للتحقيق من البيئة الآمنة؟ لا شيء للأسف، وبالتالي الانزلاق نحو الاعتقاد بأن شرط "البيئة الآمنة" هي الملاذ الأخير للنجاة مجرد هراء، وعلى المفاوضين "البواسل" أن يعرفوا بأنهم قشرة الموز التي زلقتهم من الانتقال السياسي نحو اللجنة الدستورية والبيئة الآمنة لن تتوقف هنا، وستكمل بهم المسير إلى "حضن الوطن" ..