الاعتزاز بالنفس

2018.07.25 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في إطار مسار "التحديث والتطوير" الذي هلَّ على سوريا في بداية الألفية الثانية، بدا أن عملية "التصحير" الفعلي هي جزءٌ أساسي من هذا المسار. فإضافة إلى تصحير الثقافة والإعلام طوال سنوات "التصحيح" (1970 ـ 2000)، صار من الضروري في إطار "اللبرلة" الانتقائية والمشوّهة، تحويل فعل التصحير إلى مبدأ يُعمل به طولاً وعرضاً في مختلف القطاعات المجتمعية كما السياسية والاقتصادية والديموغرافية. واتجهت بلديات المدن الكبرى إلى تحطيم النسيج المجتمعي المحلي بطريقة منهجية عبر مشاريع "نهضوية" تؤول في مجملها إلى دفع السكان "التقليديين" إلى النزوح خارج أطرهم التاريخية واللجوء إلى ضواحٍ مُشادة حديثاً أو عشوائياً تُبعدهم عن بيئتهم. ومن أهم ما أُنجِزَ في هذا المجال، تخريب القديم من مراكز المدن كدمشق وحلب وحمص، عبر مشاريع "تنموية"، كما دُمّرت حماه طبعاً عبر القصف البري والجوي. وازدهرت هذه الطباع الحضرية بشدة مع "تحرير" أسواق الاستثمار السياحي في المجال الزبائني حصراً. وفيما تبقى من مراكز المدن التاريخية ولم يجر تدميره، صار من اللازم السعي إلى تحويلها هي أيضاً إلى الاستخدامات المُدرّة للأموال في الإطار المحصور بفئات محدودة للغاية من أصحاب الحظوة والرضى المادي والمعنوي. وحيث صار من الصعب تخريب أوابد أوسع مساحةً وأكثر عدداً في إطار الميل إلى الاستثمار في الآثار التي لا يمكن تهريبها لضخامة أحجامها، فقد ابتدعت الجهات المعنية أشكالاً جديدة من "المحافظة" عليها واستغلالها من خلال تحويلها إلى مطاعم وفنادق.

ومن جهة أخرى، وعلى الرغم من أن البلاد تحتفل بعيد "الشجرة" رسمياً وتُنظّم الاحتفالات الرسمية و"الشعبية" للإشارة إلى أهمية الأشجار مناخاً وجمالاً، إلا أن العمل على قطع الأشجار كان قائماً على قدم وساق ومنشار. حتى يخال للأنثروبولوجي المتمعن بأن هناك عداء بنيوي بين القائمين على المدن والنبات. فتوسيع الشوارع لاحتواء عدد أكبر من العربات المستوردة عبر الوكالات الحصرية كان يتم عبر تجريف أشجارها القديمة والتي لربما هي الشيء الوحيد المُتبقي لهذه المدن من ذكريات عهود "الرجعية" التي سبقت "ثورات" انقلابية أتت بمن يكره البشر والحجر والشجر.

في حلب مثلاً، تم توسيع عصبين رئيسيين من شوارعها هما شارع الملك فيصل وشارع المطران هيلاريون كبوجي. وحيث كان للمارة من الناس العاديين أن يتظللوا بأشجار هذين الشارعين الوارفة، وجد "عقلاء" التنظيم البلدي بأنه عليهم تصحير المكان لكي تتمكن السيارات من التحرك براحة بعيداً عن هذه العوائق الطبيعية المضرة للتحديث والتطوير. وكما كان لهذه المدينة أن تتعاون مع غازي عنتاب التركية إبان شهر العسل بين قيادتي البلدين (2000 ـ 2010)، فقد استوردت إشارات مرورية ذكية تُشير إلى الوقت المتبقي لانتظار انتقالها من الأحمر إلى الأخضر وبالعكس. كما أن الموظف الجهبذ، تنبّه إلى أن شارعاً بعرض 20 متراً في وسط حي سكني يحتاج إلى معبر مشاة، فرسمه بألوان زاهية، واستورد، إمعاناً في الفساد، أجهزة يمكن للمشاة أن يستعملوها بهدف إيقاف السير للعبور.

في ليلةٍ ليلاء، أردت اجتياز هذا الطريق الذي لم يعد شارعاً، فضغطت الزر العجيب، وسمحت لي الإشارة بالعبور، "فتمخترت" كمواطن صالح مع صديقتي لنعبر هذا النهر العظيم، لأسمع صوت فرملة تشبه أفلام ستارسكي وهاتش، لسيارة سوداء بنوافذ سوداء تغطيها صور أصحاب البيت جماعةً، ولتنهمر علي، في حضرة صديقتي، ما لذ وطاب من شتائم ذات أبعاد جنسية متطورة بالتوازي مع سلطة الأمر الواقع. ونزل من الوحش الأسود، وحشان في عمر الشباب وعضلات الثيران وتقدما باتجاهي بخطوات مليئة بالتصميم على تحرير كل شبر من أرضنا المحتلة جواً وبحراً وبراً. وأكملا ما سبق من معجم الكلمات المناسبة، فاضطررت كأي مواطن صالح يشعر بالخوف حتى وهو في بطن أمه، أن أوضّح موقفي "المتخاذل" أمام من توقعت بأنهم أصحاب الجنة والنار، على الأقل في الثواني المعدودة التي عشتها حينذاك. وطوّرت حجتي بأن شرحت لهما بأنني أعيش في بلاد الامبريالية والمؤامرات المُحاكة ضد حزبنا القائد وبأن سيارات تلكم البلاد الاستعمارية الواطئة، تتوقف أمام ما يشير لها لوناً بالتوقف، وحتى أنها تتوقف لمجرد أن يضع الماشي على دربها قدماً له على إسفلت الشارع.

وفي عمل هارموني رفيع، قام أحد الوحوش البشرية بالاستمرار في إغداق الشتائم، في حين قال لي الثاني، دون أن يُشوّش على الأول، بأن هاتيك البلدان هي "للحمير" من أمثالي. وأضاف رؤوفاً رحيماً بأن والله وتالله، إن لم أكن بصحبة "حرمة" لكان أوسعني ضرباً و"شحطني" إلى الفرع. وعادت أوركسترا الشتائم لتضم الوحشين وهما يتجهان إلى عربتهما التي كانت من المؤكد أنها متجهة إلى الجولان لتحريرها أو ربما، وهذا ما أجهله، مباشرة إلى القدس الشريف.

مرت لحظات من الصمت ابتعدت من خلالها عن النظر في عيون صديقتي، وتذكرت الجملة الحماسية التي يسمعها المعتقلون أثناء التعذيب: "اعتز بنفسك يا حقير"، لاستوعب حجم العطاء الذي أغدق علي به أزلام المعلم الأكبر. صمتٌ امتد حتى عودتي إلى حضن الاستعمار والامبريالية حيث تُحاك المؤامرات.