الإهانة: علمٌ وفنٌ وأخلاق

2018.06.28 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

للفيلسوف الألماني الخطير آرثر شوبنهاور كتاب منطقي حجاجي عنوانه: ((فن أن تكون على صواب دائماً))، وكان يمكن أن يضع له عنواناً آخر أكثر اختصاراً، وأقوم دلالةً، وهو: ((فن المماحكة))، لأنه يقوم على تحديد مغالطات الخصم، وكشف أساليب تضليله، ثم استخدام (الحِيَل) التي عدّد منها ثمانياً وثلاثين حيلة، لعكس مغالطاته ضده، وقلب الحجة عليه، وتقوم هذه (الحيل) جميعاً على استراتيجية عسكرية وحيدة: غلبة الآخر بتجريده من السلاح (الحجة) تجريداً تاماً.

لكن يبقى السؤال ماذا سيفعل المرء إذا افتقر لكل حُجة، ولم تسعفه أية حيلة، فعجز، رغم كل هذا التعليم، عن كبت الخصم وإخضاعه؟

عندها وضع لنا شوبنهاور الكتاب التالي: ((فنُّ الإهانة Die Kunst zu beleidigen))، وهو كتاب لم يُترجم إلى العربية، ولم يُشِر إليه أحد من الباحثين العرب حتى الآن، بمن فيهم مترجم كتاب ((فن أن تكون على صواب دائماً))!

وأقتبس من كتاب ((فن الإهانة)) جملة واحدة تلخص فحواه، وتجيب عن السؤال المطروح أعلاه: ((إذا نفدتْ منك الحجج فالجأ إلى الإهانة، فالقِحة تتغلّب على كل حجة))!

ذكرني هذا الكتابٌ التعليمي الفريد بكتاب ((الأمير)) للمفكر الإيطالي ميكافيللي،

حكم الأسد لم يقم أساساً إلا على مبدأ (الإهانة)، لأنه افتقد (الشرعية) منذ اللحظة الأولى، وإذا لم تكن ذا شرعية فالجأ إلى (الإهانة).

وقد قيل عنه بحق: إنه من أهم الكتب التي تقدّم دروساً في العمل السياسي، وأما علماء الأخلاق فقالوا عن فصوله التي بلغت ستة وعشرين فصلاً: إنها مناسِبَةٌ فقط للطغاة الأشرار. ومن أجل ذلك فقد بادر أحد المترجمين، فيما يُقال، لوصف فضائل هذا الكتاب، ولبيان أهميته لوالي مصر محمد علي باشا، فأمره بترجمته، وبعد أن قرأ المترجم عليه فصلين من الترجمة، قال الباشا: حسبك! أعرف أكثر منه. وفعلاً كان أداء محمد علي باشا في حكمه مصر أكبر برهان في أنه يعرف أكثر من ميكافيللي، وأنه أكثر خبرة منه!

وأتخيل هذا الحوار بحذافيره بين مترجمٍ يشرح أهمية كتاب شوبنهاور ((فن الإهانة))، وبين حافظ الأسد، وسوف يكون جواب الأسد هو جواب الباشا نفسه بلا زيادة ولا نقصان.

ذلك أن حكم الأسد لم يقم أساساً إلا على مبدأ (الإهانة)، لأنه افتقد (الشرعية) منذ اللحظة الأولى، وإذا لم تكن ذا شرعية فالجأ إلى (الإهانة)، ففي وطأتها يُذهل المهان عن الشرعية، وعن المستند، وعن الحجة، ويُشغل بذاته عن كل ما يمتُّ إلى ذلك بصلة.

إذن: فلتطمَّس سورية بالإهانة، حتى يتمكن القائد الانقلابي من ازدراد البلد بكل تلذّذ وشراهة.

وقد أثبت أن (الإهانة) لديه سجيةٌ راسخة في نفسه، تتجاوز كلّ حدٍّ، وتفوق كلّ تصوّر، حتى إنها تركت شوبنهاور فاغراً فمه! مدهوشاً مذهولاً مصعوقاً! فمن أين له أن يرقى به الخيال لتدل (الإهانة) بدلالة المطابقة على (الإبادة)، ومن أين له أن يتخيل نظاماً يفرض على شعبه خيارين لا ثالث لهما: (الإبادة المعنوية)، أو (الإبادة المادية). ومن أين له أن يتصور رجلاً قادراً على اجتراح أفدح البوائق لمحقِ أتفه العوائق.

وفعلاً. لقد رأى هذا الانقلابيُّ الشعبَ حذاءً شديد الضيق فوسّعه بالمسيرات، ورأى البشر مجرد أبواق فحشاهم بالهتافات، وقرأ قول دويستوفسكي: "عبادة الله أقل إهانة. إنهم يختارون عبادة الله حتى لا يعبدوا البشر"! فاستنتج منها وجوب تثبيت عبادته، وأطلق شعار (إلى الأبد). وسلّم في سنة 1974وزارة الإعلام لرجل يدعى أحمد إسكندر أحمد، لتكون مهمته الوحيدة الفريدة بناء صورة الرئيس، الأب، الإله، القائد إلى الأبد، واستمر في هذه الوزارة إلى آخر لحظة من عمره سنة 1983، لأنه كان يسهر على تثبيت صورة الفاني بوصفه خالداً.

ولما قال فاقد الشرعية متلطّفاً: (أنا فلاحٌ بن فلاح)، زمجرت أفعاله: (أنا فرعون بن فرعون)، وفجأةً نبتت أصنامه في كل أنحاء القطر،

لكي يعيش المواطنون صار عليهم أن يوطّنوا أنفسهم على الرضوخ لسحق كرامتهم سحقاً، والدوس عليها ودرسها، وطحنها طحناً!

كأنها الفطر! وانبثقت صوره الهائلة التي غطّت واجهات مبان ضخمة بكاملها، ودبّ تحتها العوام كالهوام بتضاؤل وامّحاق، وغدت هذه الصور رتائم تذكرهم به في كل لحظة، حاضراً موجوداً ماثلاً جاثماً رابضاً متجلياً! وتدفع عنهم شائبة السهو، وتنزّههم عن نقيصة الغفلة.

ولكي يعيش المواطنون صار عليهم أن يوطّنوا أنفسهم على الرضوخ لسحق كرامتهم سحقاً، والدوس عليها ودرسها، وطحنها طحناً! ونستثني منهم أولئك الذين حكّتهم جلودهم، فتململوا ولم يرضخوا، وسكنتهم العَرَامة فجهروا ولم يسكتوا، وحين لم يقدر الأسد على خنق كلماتهم في حلوقهم، خنق الحلوق ذاتها، أو غيّبها وأخفاها.

وهكذا غدا الخوف من (الإهانة) المحرّك الأعظم لدى غالبية أفراد الشعب، واختلفت تدابيرهم من فرد لآخر. أدركتْ ثلة أن نجاتها وسعادتها في ألّا تعرف النظام، وفي ألّا يعرفها! فتقوْصَرتْ على نفسها، وراحت تتشبه بالملامتيَّة، أولئك المتصوفة الذين يخفون أحوالهم وأسرارهم فلا يتميّزون عن باقي البشر بشارةٍ أو زيّ، ولا بظهور أو بروز، فغيّبوا أنفسهم بأنفسهم، وأخملوا ذكرهم بأيديهم، وكانوا كسيارةٍ لها ناقل سرعة ذي ست حركات أو أكثر، فآثرت المشي ببطء على الغيار الأول، لكيلا تثير الانتباه! وكان انزواؤهم وعزلتهم، وقلة إنجازهم جُدرَ حمايتهم.

وارتمت ثلةٌ أخرى في أحضان النظام، فانطبق عليهم قول الإمام علي أكثر من غيرهم: ((الناس في الذّل من خوف الذّل))! كانوا يرومون تحصين أنفسهم من (المهانة)، التي انبثَّت في كل مناحي الحياة بلا استثناء، ولكنهم كانوا يبنون أسوارهم بما يقتلعونه من أساساتهم.

الأستاذ والموجه في المدرسة، وفي سيارة التكسي، وورشة الدهان!

التاجر والصناعي في المتجر والمعمل، وفي مكتب أبو كفاح!

القاضي في الملهى والمرقص! وفي مكتب أبو ثائر

الشيخ في الجامعة والمزرعة! وفي مكتب أبو المجد.

المحاضر في الجامع والمقهى! وفي مكتب أبو خلود.

الضابط البار في البار!

صف الضابط والمتطوع في البرّاكة أو في عش الورور!

تباروا جميعاً في أن يغدوا مُبَرشَمين مَحبورين، مُلجَمين مسرورين! عسى أن يَطَؤوا حظيرة (الأزلام) أولاً، ثم يرتقوا إلى فصيلة (الطغاة) الطغاة الصغار ثانياً، وحرص كل واحد منهم على أن يغدو (معلّماً) بالمدلول التشبيحي، وصارت بغية روحه أن يُخاطَب بكلمة (المعلّم( التي تعني أنه حاز كل أمنيَّة، وغدا من ذوي الحصانة، وأهل الكرامة! حتى الشيخ صار أتباعه يقولون عنه: جاء (المعلم)، وذهب (المعلم)، وهذا ما يريده (المعلم).

ويالهولِ المشهد الختامي بعد هذا الارتماء والاحتضان! الحمار يطل بعينيه الواسعتين من كل مكان تحت لبدة الأسد.

ثلاثون سنة و(الإهانة) ثابتة ثباتاً تهريجياً!

ثلاثون سنة من التحفّظ الكئيب لئلا تهب نسمة كرامة!

ثلاثون سنة والقائد الخالد يغني أغنية وحيدة:

"أن تتبرز وتأكل

أن تتبول وتشرب

تلك هي حياتك".

كلمات مفتاحية