الإعلان الأمريكي: صفعة جديدة للعقلية الكوردية

2018.12.21 | 23:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لا مشاعر ثابتة في وصف الحالة الكُردية بُعيد الإعلان الأمريكي بالانسحاب لاحقاً، كُل شيء مُختلط. مشاعر الحقد والسخط على الأمريكان، والأخيرة نفسها كانت حتى قبل إعلان قرارها، كانت الأخ والحبيب. حين أقلت الطائرة الروسية السيد سيبان حمو قائد وحدات الحماية الشعبية من حميميم إلى روسيا، بدأت ألسّنة الاتحاد الديمقراطي والإدارة الذاتية بالترويج للاعتراف الرسمي للروس بهم وبمشروعهم، وبعد الصفعة الروسية لهم في عفرين بدأت ألسنة التبرير " أصلاً لم نكن على وفاق أو تحالف مع الروس".

من شبه المؤكد، ثمّة إستراتيجية عميقة وراء القرار الأمريكي المفاجئ. ولن يستفيد الكُرد من بعض الدعايات الفيسبوكية أو بعض المُحللين المُنتهي الصلاحية المُروّجين لبقاء القوات الفرنسية وشراكتها مع البريطانيين في إدارة المنطقة. وهي إعادة للفكرة ذاتها والانتقال من الترويج للعلاقات مع الروس، ثم سبهم، إلى الدعاية للأمريكان ثم نعتهم بالخيانة، وحالياً سيُلهى الشعب الكُردي بالدعم الفرنسي والإنكليزي. طبعاً فهم شعب العالم المختار والأوفياء الذين يحبُهم الجميع.

ثمة علاقة وطيدة نُسجت بين الاتحاد الديمقراطي والتحالف الدولي منذ بداية محاربة داعش. رافقه شعور القلق المتزايد لمرحلة ما بعد القضاء على الجيب الأخير للتنظيم في "هجين" وما حولها. قلقٌ لم يُصاحبه أيُّ تحرك لا على صعيد المصالحة الشعبية والحزبية، ولا لجهة ترتيب وترطيب الأجواء مع الإقليم ولا حتى على صعيد وضع أيَّ تصورً أو خطط للمواجهة المستقبلية. فقط زيادة في وتيرة الشعارات، والترويج لمفهوم التضحية بالصدور العارية لمن تبقى على قيد الحياة وبقي متشبثاً بأرضه ووطنه.

كانت كُل تلك المراكز تنشر وتشرح كيف إن تركيا لا تجرؤ على الاقتراب من حدود مقاطعتها في غرب الفرات، هاهي اليوم شرق الفرات تنتظر مصيرها المحتوم

يمتلك الاتحاد الديمقراطي عشرات المراكز البحثية بعناوين كبيرة وبراقة. وعشرات وسائل الإعلام بأنواعه، تُقدم تحليلات وشروحات تتعلق بكل شيء، إلا دراسة بعقل "بارد وهادئ" للواقع والغد الكُردي. فقدنا مدينة عفرين، وقبل الحرب التركية عليها، كانت كُل تلك المراكز تنشر وتشرح كيف أن تركيا لا تجرؤ على الاقتراب من حدود مقاطعتها في غرب الفرات، هاهي اليوم شرق الفرات تنتظر مصيرها المحتوم بعقلية تصلح لكل شيء إلا التنبؤ بالمشكلة والاستعداد لها.

منذ أيام. أعاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في لوحة توجز إنه لا يعرف الملل والكلل، بالتهديد باجتياح وطرد الاتحاد الديمقراطي وأجنحته العسكرية من شرق الفرات. قابله ماكينة الإعلام الخاص بحزب/ ب ي د/ للترويج بالتحالف الكُردي –الأمريكي، وعدم استطاعة تركيا إعادة وتكرار سيناريو عفرين في شرق الفرات. وتم تصوير النصر المؤزر بمجرد قولهم /لا/ لمن يصرون على أنهم حلفاؤهم الإستراتيجيون، بالرغم من حقيقة التصريحات والإعلان المُكرر للأمريكان عن التكتيك في العلاقة معهم.

في المقابل فإن أشهر عديدة مضت والتصريحات الروسية حول نية أمريكا بإنشاء كيان كُردي في شرق الفرات، على شاكلة وغرار إقليم كُردستان العراق، ساهمت في "دس السم" بين أمريكا وتركيا، وزاد الأمر تعقيداً زيادة إنشاء عدد نقاط المراقبة على الحدود. جاء الاتحاد الديمقراطي ليُعلن لتركيا عن كذب الأمريكان حول انتفاء أيّ علاقة بينهم وبين العمال الكُردستاني عبر زيادة وتيرة التظاهرات بالقرب من الحدود ورفع كُل ما يرمز للحزب الكُردي في تركيا من صور ورموز وشعارات. قابله زيادة الحدّية والانفعال التركي حيال شرق الفرات.

أعتقد أن تركيا ذاتها متضررة من الانسحاب الأمريكي. فهي أولاً: رغبت بتقطيع أوصال شرق الفرات عوضاً من الدخول في حرب برية مفتوحة مع جهة عسكرية متمرسة في حرب العصابات أو الحرب بين المدن وفي الأنفاق من جهة، ومن جهة ثانية تعلم جيداً الأثمان الباهظة للهجوم الجوي أو الصاروخي على المناطق المأهولة بالسكان، ولا ترغب بالدخول في متاهات هي بغنىً عنها. ثانياً: لن تتمكن تركيا من الدخول إلى منطقة تجد فيها النظام السوري، أو حلفائه من الروس والإيرانيين وقد فُتحت لهم أبواب شرق الفرات على مصراعيه، وهي التي سعت للدخول إلى المناطق الكُردية تحت غطاء التواجد الأمريكي.

الاتحاد الديمقراطي يُفضل وبضراوة التوجه صوب النظام أو روسيا أو إيران، على أن يتوجه صوب إقليم كوردستان العراق، والموافقة على نزول بشمركة روج آفا للفصل بينهم وبين الجانب التركي

خاصة وأنها تعيّ جيداً، أن الاتحاد الديمقراطي يُفضل وبضراوة التوجه صوب النظام أو روسيا أو إيران، على أن يتوجه صوب إقليم كوردستان العراق، والموافقة على نزول بشمركة روج آفا للفصل بينهم وبين الجانب التركي. علماً أن الأخيرة لا تمتلك أي رفض تجاه قوات البشمركة لعدم تسببها بحالة عداء مع الجانب والمكون العربي في شرق الفرات، وعدم نيتها التدخل في الشأن التركي – الكُردي داخل تركيا. ودخول قوات البشمركة سيتسبب بقلب نوعي للمعادلة الجيوسياسية في شرق الفرات، فهي قبل أيَّ شيء ستكون سداً منيعاً أمام التمدد الإيراني ونفوذه في المنطقة وقطع الطريق أمامها للوصول إلى المياه الدافئة والكريدور المأمول.

ليس أمام الاتحاد الديمقراطي خيارات عديدة، بعد الانتقال من جميع المعسكرات إلى المعسكر الأمريكي. فهي إن لجأت للنظام رُبما يكون سلاح /YPG/ أحد الشروط لحماية شرق الفرات، عدا عن حقول النفط التي سيطالب بها النظام. والحال كهذه ماذا تبقى لهم بعد كل الدماء والشهداء والخسائر التي قُدمت في حربها ضد داعش. واللجوء إلى الروس بعد درس عفرين لن يكون بأي شروط كُردية أو مفاوضات تفي دماء الكُرد حقها. أما اللجوء إلى إيران فهي كتجديد معركة "جالديران" من جديد بين تركيا وإيران، أو لن يجد الجانبان أيَّ حرجاً في الخروج باتفاق يُنهي تواجدهم في المنطقة.

الإدارة الكُردية للمنطقة. حلمٌ راود الكُرد منذ خمسينيات القرن الماضي. التضحية بها سيُعقد المشهد الكُردي كثيراً، خاصة وأن البديل المباشر والجاهز، دون الاتفاق الكُردي –الكُردي، سيجلب من المصاعب ما يُعقد مشهد القضية الكُردية أكثر. والبقاء بعقلية التفرد والإقصاء والإلغاء وفرض السطوة والقوة والعنف وسياسة كم الأفواه بالسلاح لن يجلب سوى المزيد من المآسي والدماء، وسيُضاف إليها هدم المناطق والأحياء المأهولة.

لا بديل عن قبول البشمركة وقوات النخبة العربية كفاصل بين تركيا المتشبثة بإنهاء أيَّ تواجد للاتحاد الديمقراطي، وبين الأخيرة التي ستتحمل وحدها مآلات المنطقة، ووحدها تملك إمكانية الخروج بمظهر المُحافظ على ما تبقى من المنطقة.

صفعة من جديد. والرد على الكف التي رمت الاتحاد الديمقراطي -والمنطقة برمتها إن لم يتدارك الأمر بسرعة جنونية- إنهم طُعنوا في الظهر. وهل ثمة مواثيق ووعود واتفاقيات حتى طُعنوا! أو هل من استفادة جناها الكُرد من الأمريكان حتى يصفوهم بالغدارين؟ السقف الذي جنته قوات سوريا الديمقراطية، ستدفعه المنطقة كُلها بالثمن البخس. عدا عن الــ/7/ آلاف من الشهداء في سبيل تحرير مناطق لم يُطلب ولم يُقدم المُهر لقاء ذلك. عدا تلك الدماء فليتفضل أولياء الأمر وشرحها لنا.