الإسلاميون في أزمة.. فماذا عن الإسلام والمسلمين؟

2019.05.27 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

نشرت مؤسسة أوبتيمار لأبحاث الرأي العام تقريراً حديثاً عن علاقة الأتراك بدينهم، الإسلام، أثار تعليقات كثيرة في وسائل الإعلام التركية. وكان المعطى الأبرز الذي استقطب أكثر التعليقات والتحليلات هو أن 89,5% فقط ممن استطلعت آراؤهم أجابوا بـ"نعم" على سؤال: "هل تؤمن بوجود الله ووحدانيته؟".

ربما لا يعني هذا الرقم شيئاً بالنسبة للقارئ العربي الذي قد يظن أن علمانية الدولة التركية، إضافة إلى وجود قطاع اجتماعي "علماني" كبير نسبياً، يفسر هذا الرقم. لكن واقع الحال أن علمانية الدولة لم تمنع وصول حزب إسلامي إلى السلطة، وبقاءَه فيها طوال السنوات السبع عشرة الماضية، وحصول هذا الحزب على نصف أصوات الناخبين، تقريباً، في أكثر عمليات الاقتراع الشعبي، طوال الفترة المذكورة. كما أن القطاع الاجتماعي الموصوف بالعلماني ليس كتلة من الملحدين، بل إن أكثريتهم الساحقة هي من المؤمنين، وقادة حزب الشعب الجمهوري الأكثر منافحة عن علمانية الدولة، يذهبون إلى الجوامع لأداء صلاة يوم الجمعة، ويصومون رمضان. فالقطاع الاجتماعي "العلماني" متمسك بعلمانية الدولة أكثر من كونه معادياً للدين، وإن كان يناصب الإسلام السياسي العداء، ولا ينظر بعين الود إلى الجمهور الذي ينتخب حزب العدالة والتنمية وغيره من الأحزاب الإسلامية أو الجماعات الإسلامية. وهي مشاعر متبادلة بين الطرفين.

بل أكثر من ذلك: لا تقتصر ظاهرة الابتعاد عن الدين الذي عبر عنه الرقم المذكور على جمهور الأحزاب العلمانية (كما توضح معطيات تفصيلية في تقرير "أوبتيمار")، بل هناك ملحدون ولا – دينيون، أيضاً، في البيئة الاجتماعية المحافظة التي تصوت في الانتخابات، عادةً، لحزب العدالة والتنمية. ففي العام الماضي أطلق بعض كتاب الصحف الإسلاميين ما يمكن وصفها بصفارات إنذار بشأن ظاهرة آخذة في الاتساع في بيئة العائلات المحافظة من القاعدة الاجتماعية لـ"العدالة والتنمية"، هي ظاهرة تخلي بعض أبناء وبنات تلك العائلات عن دين الإسلام، قسم منهم باتجاه الإلحاد، وقسم آخر باتجاه "اللا – دينية" التي تعني الإيمان بكيان عُلوي ما، أو خالق ما، مع عدم الإيمان بأي دين.

في العام الماضي أطلق بعض كتاب الصحف الإسلاميين ما يمكن وصفها بصفارات إنذار بشأن ظاهرة آخذة في الاتساع في بيئة العائلات المحافظة من القاعدة الاجتماعية لـ"العدالة والتنمية"، هي ظاهرة تخلي بعض أبناء وبنات تلك العائلات عن دين الإسلام

وثمة ظاهرة موازية هي تخلي فتيات عن ارتداء الحجاب بعد عمر من التمسك به. وثمة مدونة على الإنترنت اسمها "لستِ وحدك" تروي فيها فتيات تجاربهن الشخصية في الإقلاع عن ارتداء الحجاب، والأسباب التي دفعتهن لاتخاذ هذا القرار. ومن بين تلك الأسباب الكف عن الإيمان بدين الإسلام وأي دين آخر.

تنوعت تفسيرات المحللين الأتراك لهذه الظاهرة المتصاعدة في المجتمع المحافظ في تركيا، فمنهم من ربط الأمر مباشرةً بالسياسة، بالقول إن ممارسات السياسيين الإسلاميين التي تتعارض مع القيم الإيجابية للدين هي ما جعل أولئك الشبان والفتيات يعيدون النظر، ليس فقط في تأييدهم لأولئك السياسيين، بل في إيمانهم الديني ذاته.

وهناك من ربط الأمر بانتشار وسائل تكنولوجيا الاتصالات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي التي وسعت مجال نظر الجيل الجديد على آفاق فكرية غير مسبوقة. وهناك من رد الظاهرة إلى مصائر الحركات الإسلامية عبر العالم التي كان لها دور بارز في رسم المشهد العالمي في الألفية الجديدة، وما شاع في الرأي العام العالمي من ربط بين الإرهاب والإسلام.

قد تكون جميع التفسيرات المذكورة، أو بعضها، تفسيرات صحيحة بالنظر إلى تنوع دوافع الأفراد وراء ابتعادهم عن الدين، أو ربما هناك عوامل مفسرة أخرى لم يرصدها المعلقون.

إذا كانت هذه هي الحال في تركيا الغنية، نسبياً، بوسائل رصد وتحليل التغيرات العميقة في المجتمع، وبوسائل إعلام تساهم في تشكيل الرأي العام، فلا أحد يعرف شيئاً عن تغيرات مماثلة يحتمل وجودها في مجتمعاتنا الممنوعة من التعبير عن نفسها ومن كشف ما يعتمل في أعماقها، مع العلم أن حضور الإسلام في الرأي العام طاغٍ، والإسلام السياسي فاعل مهم وقوي في المشهد السياسي في البلدان العربية وبلدان إسلامية أخرى. وزاد هذا الحضور فاعلية بمناسبة ثورات الربيع العربي، وصولاً إلى المثال الحدي: إقامة دولة الخلافة في العراق والشام، قبل سقوطها بعد خمس سنوات.

إذا كانت هذه هي الحال في تركيا الغنية، نسبياً، بوسائل رصد وتحليل التغيرات العميقة في المجتمع، وبوسائل إعلام تساهم في تشكيل الرأي العام، فلا أحد يعرف شيئاً عن تغيرات مماثلة يحتمل وجودها في مجتمعاتنا الممنوعة من التعبير عن نفسها

كذلك هناك حرب تشنها بعض الأنظمة العربية ضد الإسلام السياسي، الإخواني بشكل خاص، في مصر وليبيا وبعض دول الخليج، مما يجعل الإسلاميين في صدارة المشهد السياسي في كل مكان. وقد استقطب "اعتذار" الداعية الإسلامي السعودي المعروف عائض القرني، على إحدى محطات التلفزيون، عن ممارساته الدعوية السابقة في إطار حركة الصحوة الإسلامية، اهتماماً واسعاً من الجمهور، على رغم معرفة الجميع بالظروف القاهرة التي تكمن وراء هذه "التوبة" العلنية.  

هذه التجارب التي أدت إلى كوارث اجتماعية، في حالاتها القصوى، لا بد أن تترك آثاراً سلبية متباينة على علاقة المجتمعات المعنية بدين الإسلام، وليس فقط بالحركات الإسلامية. صحيح أن خطاب المظلومية الذي ستعززه التطورات الراهنة قد يكون له مفعول معاكس لدى البعض، أي المزيد من التمسك بالإسلام، لكن الظلم الذي مارسته حركات إسلامية حيثما تمكنت، في سوريا والعراق بخاصة، بحق المجتمعات المحلية التي حكمتها بالحديد والنار، من المحتمل أن يؤدي أيضاً إلى حالات ابتعاد عن الدين، قد لا يتسنى لنا معرفة حجمها.

ما نعرفه هو أن هناك أعداداً من العائلات المسلمة قدمت طلبات لتغيير دينها إلى أحد المذاهب المسيحية، رغبة منها في تيسير الحصول على لجوء إنساني في الدول الأوروبية. صحيح أن الأمر يتعلق بدافع براغماتي، لكنه مع ذلك غير مفهوم بهذه البساطة. ليس سهلاً، بالمعنى السيكولوجي والاجتماعي، على مسلم بالولادة أن يغير دينه، مهما كانت علاقته بالدين ضعيفة، وبخاصة أنه يعتبر "مرتداً" وفقاً لتعاليم الإسلام. ومع العلم أن هناك مئات الآلاف ممن حصلوا على حق اللجوء من غير أن يفعلوا ذلك. أي أنهم غير مضطرين لتغيير دينهم.

بعيداً عن التقييم، إيجاباً أو سلباً، يمكن القول إن الإسلام السياسي هو في أزمة عميقة لدرجة تأثيرها على إيمان المسلمين بدينهم. الأزمة فرصة للمراجعة، لكن الإسلاميين يظهرون كأبعد الناس عن مراجعة فكرهم وخطابهم ومسالكهم.