الإحداثيات السياسية لمقالة جميل بايك

2019.07.08 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

نشرت صحيفة واشنطن بوست، قبل أيام، مقالة بتوقيع جميل بايك، القيادي في حزب العمال الكردستاني، الذي وضعت الاستخبارات الأميركية، قبل أشهر، جائزة نقدية لاغتياله أو الإدلاء بمعلومات تساعد على إلقاء القبض عليه.

صحيح أن واشنطن بوست مناوئة عموماً للرئيس ترمب، لكن الجائزة التي وضعت على رأس بايك وعدد من القياديين الآخرين للحزب الكردستاني، هي بقرار من المؤسسة الحاكمة وليس بقرار منفرد من الرئيس. فلا محل لتفسير نشر مقالة بايك بمحاولة الصحيفة القيام بمناكفة الرئيس. بل لا بد من قراءة الحدث في إطار التجاذبات بين الإدارة الأميركية والقيادة التركية من جهة، وفي إطار العلاقة التحالفية بين الأميركيين والفرع السوري للـ "العمال الكردستاني"، حزب الاتحاد الديموقراطي وجناحه العسكري "وحدات حماية الشعب" في إطار الحرب على تنظيم "الدولة"، من جهة أخرى.

من هذا المنظور، يأتي نشر مقالة بايك في ظل تأزم العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا على خلفية شراء الأخيرة صواريخ إس 400 الروسية التي تعترض عليها

باع ترمب أردوغان موقفاً مرغوباً منه، من كيس سلفه أوباما، من غير أن يعده بإبعاد شبح العقوبات القاسية التي يتوعد بها قرار صادر من الكونغرس

واشنطن وتهدد بفرض عقوبات قاسية على تركيا في حال تم إتمام الصفقة. كما أن المقالة، ومضمونها، يشكلان حلقة في سلسلة من المؤشرات إلى تغير محتمل، في الفترة القريبة القادمة، في مقاربة أنقرة للتعاطي مع الموضوع الكردي، ببعديه الداخلي والخارجي، بما في ذلك إعادة فتح قنوات التواصل بين الدولة التركية وعبد الله أوجلان الموجود في سجن جزيرة إيمرالي منذ نحو عشرين عاماً.

أما بالنسبة لموضوع الصواريخ الروسية، فقد حدث انفراج مؤقت في اللقاء الذي تم، في أوساكا اليابانية، بين الرئيسين ترمب وأردوغان، على هامش أعمال مؤتمر قمة العشرين. فقد كان لافتاً تبني ترمب لوجهة النظر التركية القائلة بأن إدارة أوباما رفضت بيع تركيا منظومة صواريخ باتريوت، فاضطرت تركيا للبحث عن بديل لدى الروس. لقد باع ترمب أردوغان موقفاً مرغوباً منه، من كيس سلفه أوباما، من غير أن يعده بإبعاد شبح العقوبات القاسية التي يتوعد بها قرار صادر من الكونغرس.

كذلك دافع ترمب عن حق تركيا في استلام طائرات إف 35 التي شاركت في إنتاجها ودفعت ثمنها سلفاً بمليارات الدولارات، من غير أن يؤدي هذا الموقف، بدوره، إلى حصول تركيا على تلك الطائرات. أقصى ما يمكن أن يأمله أردوغان من مواقف ترمب المعلنة هذه هو تأجيل فرض العقوبات لفترة زمنية محددة، لتبقى أنقرة تحت سيفها، بما في ذلك توقف واشنطن عن تزويد تركيا بقطع الغيار الضرورية لطائرات إف 16 التي تملكها تركيا. من جهة أخرى يبحث الأميركيون عن مخرج ما لتركيا من أزمة الصواريخ الروسية، وهو ما ألمح إليه السناتور الجمهوري ليندسي غراهام في زيارته لأنقرة الأسبوع الماضي.

انعكس الانفراج المؤقت بوضوح على الاقتصاد التركي فالتقطت الليرة أنفاسها واستعادت شيئاً من قيمتها أمام العملات الصعبة. وهو ما يمنح الرئيس التركي فسحة زمنية للملمة آثار خسارة انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول المباشرة، والعمل على ترتيب بيت السلطة الداخلي في مواجهة تحديات سياسية داهمة، على رأسها الانشقاقات المتوقعة، قريباً، عن حزب العدالة والتنمية لمصلحة حزبين جديدين يعمل على الاستعداد لإطلاقهما كل من رئيس الوزراء الأسبق أحمد داوود أوغلو، والوزير السابق علي باباجان المدعوم من الرئيس السابق عبد الله غل وطبقة رجال الأعمال من أصحاب الثروات الكبرى، والذي يحظى أيضاً بثقة الدوائر المالية الدولية.

أما فيما خص مؤشرات المقاربة الجديدة المحتملة للموضوع الكردي، فقد كان أولها رفع حالة العزلة الخانقة عن عبد الله أوجلان

أشار بايك في مقالته إلى البعد الإقليمي (السوري) للموضوع الكردي والدور الذي يمكن أن يلعبه أوجلان والحزب في حل الصراع في سوريا

في السجن والسماح له باستئناف تدخله في المشهد السياسي التركي، من خلال رسائله الموجهة إلى الرأي العام. كان لافتاً في مقالة جميل بايك قوله إن حزب العمال الكردستاني يتبنى بالكامل ما جاء في رسائل أوجلان، وأن هذا الأخير هو العنوان الصحيح للمفاوضات مع الدولة التركية بشأن حل القضية الكردية. وهذا ما يشير إلى سقوط أي مراهنات للإيقاع بين الحزب وزعيمه السجين، أو اصطناع تناقضات بين الطرفين.

كذلك أشار بايك في مقالته إلى البعد الإقليمي (السوري) للموضوع الكردي والدور الذي يمكن أن يلعبه أوجلان والحزب في حل الصراع في سوريا، أو بتعبير بايك "إن منظمتنا تسعى إلى تحرر جميع شعوب سوريا والتحول الديمقراطي الحقيقي للبلاد".

إذن يسعى بايك، ومثله أوجلان في رسالتيه، إلى لعب دور إقليمي، بتشجيع من واشنطن، يتجاوز موضوع الحل السلمي الداخلي في تركيا، إلى المساهمة في وضع تصور لسوريا ما بعد الصراع. نحن نعرف، على أي حال، أن واشنطن تضغط من أجل ضم "مجلس سوريا الديموقراطية" – المظلة السياسية لـ"قوات سوريا الديموقراطية" - إلى "هيئة التفاوض" السورية المعارضة المقيمة في السعودية، ليكون شريكاً في المفاوضات على مستقبل سوريا، وهو الأمر الذي كانت تركيا، طوال السنوات السابقة، تعترض عليه بشدة، على رغم موافقة موسكو أيضاً على انضمام جهة تمثل كرد سوريا إلى هيئة التفاوض.

ربما تسرعت أنقرة في محاولة استخدام أوجلان للتأثير على انتخابات الإعادة لرئاسة بلدية إسطنبول التي جرت في 23 حزيران الماضي، وانتهت بخسارة مرشح "العدالة والتنمية" خسارة صريحة لصالح مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو. لذلك، سيطوي النسيان تلك المحاولة الفاشلة، ليبقى الشيء الأهم ألا وهو فتح قناة التواصل مع أوجلان.

هل يريد أردوغان فعلاً استخدام هذه القناة لحل النزاع المسلح مع "الكردستاني" المستمر منذ أربعة عقود، أم أن اللوحة السياسية المقلقة التي ظهرت بعد الانتخابات البلدية في 31 آذار، وبخاصة في انتخابات إسطنبول في 23 حزيران، وبوادر الانشقاقات السياسية في جسم الحزب، والأهم منه بداية "انشقاق" اجتماعي في القاعدة الانتخابية للحزب، إضافة إلى توتر العلاقة مع الإدارة الأميركية، والوضع الاقتصادي الهش المنذر بالتفاقم، هي، بمجموعها، ما تدفع به نحو البحث عن خيارات سياسية جديدة يأمل لها أن تساعده على التغلب على كل هذه التحديات؟

إذا أردنا الاسترشاد بالتجربة السابقة لمسار الحل السلمي، بين 2013 – 2015، سنرى أن أردوغان قد ضحى، حينذاك، بفرصة ثمينة لحل قضية عمرها من عمر الجمهورية التركية، وكلفت تركيا خسائر باهظة في الأرواح والموارد، على مذبح حساباته السياسية الخاصة بالبقاء في السلطة. لكن الشروط تغيرت كثيراً اليوم، فاجتمعت كل التحديات الداخلية والخارجية، وكثير منها بسبب قرارات خاطئة، لتضع القيادة التركية أمام هامش ضيق جداً من الخيارات والبدائل.