الأسطوانة الدولية المشروخة وخَدَر المعارضة

2018.11.11 | 00:11 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في المؤتمر العام للمجلس الوطني للمقاومة الإيرانية في أواخر حزيران من هذا العام، 2018، والذي ينعقد سنوياً "تضامناً مع الشعب الإيراني والمقاومة الإيرانية في نضالهم لأجل تحقيق الحرية والديمقراطية في إيران واستتباب السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وتعميق العلاقات مع الدول العربية المتضررة من نظام الملالي"، والذي اكتسب حينها أهميّة خاصة بعد اندلاع الانتفاضة الإيرانية في أكثر من 140 مدينة بجميع أنحاء إيران، كان مشهد ارتفاع وتيرة الخطابات الرنّانة لدول صنع القرار، بالنسبة لنا نحن السوريين، مشهداً مكرّراً مُستَهلَكاً، خَبرناه في بداية الثورة السورية في آذار عام 2011.

في بداية المشهد يدعموننا، يناصروننا، من خلال كلمات وخطابات تخدّرنا وتُطربنا، وتكاد تعيد لنا الثقة بأن صنّاع القرار حول العالم يؤيّدون حقاً مطالبنا وحقوقنا بمبادىء الإنسانية والديمقراطية والكرامة والخلاص من السفّاحين ومجرمي الحرب ومنتهكي حقوق الإنسان، ثم تبقى تلك الكلمات رهن ورهينة المنابر دون أي سعيٍ عَمليٍّ لتنفيذها، لتصبحَ بعد ذلك بعيدةً عن أقلّ قدر من المصداقية. ويشارف المشهد الدولي في بوادر نهاياته على الخوض في "بازارات" وتسويات تضمن المصالح الدولية المتقاطعة على حساب حقوق الشعوب.

كرروا العبارة السحرية: أن "لا مستقبل لنظام ولاية الفقيه في إيران"

في اليوم الأول من المؤتمر، شاركت شخصيات أمريكية وأوروبية في منصات أربع لندوة بعنوان: "الانتفاضة من أجل التغيير في إيران"، ومنهم لينكولن بلومفيلد المساعد السابق لوزير الخارجية الأمريكي في الشؤون العسكرية، ليندا تشاوز مديرة العلاقات العامة السابقة للبيت الأبيض، لوئيس فري المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي FBI، روبرت جوزف السفير والمبعوث الأمريكي الخاص لعدم انتشار الأسلحة النووية حتى عام 2007، ستروان استيفنسون الرئيس السابق للجنة العلاقات مع العراق في البرلمان الأوروبي. أجمع خلالها المشاركون، وخصوصاً الأمريكيون، على ضرورة دعم الانتفاضة الإيرانية والمجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، وكرروا العبارة السحرية: أن "لا مستقبل لنظام ولاية الفقيه في إيران"، وأن "العقبة الرئيسة أمام السلام والاستقرار في الشرق الأوسط ليست سوى الدكتاتورية الإيرانية القاتلة في طهران"، إذْ "طالما كان النظام الإيراني الراعيَ الرئيس للإرهاب في العالم". 

كانت تمثّل تلك الفترة منعطفاً هاماً وكاشفاً لنا نحن السوريين، فقد كانت درعا، مهد الثورة السورية، ترزح تحت وطأة عروض الاستسلام والهزيمة المفروضة من قبل الاحتلال الروسي الذي يحاول جاهداً أن يتلبّس لَبوس "الضامن" لما يُسمى ب "اتفاقيات خفض التصعيد"، بينما يجسّد هو واحتلال نظام الملالي، الضامنَين الأساسيَين لبقاء مجرم الحرب بشار الأسد على رأس السلطة. كانت فترة كاشفة وحاسمة حيث صمتت الولايات المتحدة الأمريكية، بل ورفعتْ يدها، وتخلّت عن اتفاق خفض التصعيد الذي كانت حجر الأساس فيه، على الرغم من انتشار الميليشيات الإيرانية وتجذّرها بثوب قوات الأسد هناك في جنوب سوريا.

المشهد المكرر ذاته، والخطابات الطنّانة نفسها، ويعلو التصفيق ويشتعل الحماس لدى أصدقائنا في المقاومة الإيرانية، ونحن السوريين الذين خضنا هذه التجربة، تجربة بيع الأوهام ثم التخلّي، لا يمكن أن نصمت دون أن ندقّ جرس الإنذار. لم يكن فعلُ التحذير الذي قرّرنا العمل به للوفاء لتحالفنا الطبيعي مع المعارضة الإيرانية، فعل استسلامٍ لليأس والإحباط، بل كان فعل دعوةٍ إلى ضرورة الاعتماد على القوى الذاتية دون التعويل المطلق على المجتمع الدولي، وذلك لأجل ضمان الاستمرارية في طريقٍ لا يمكن الرجوع عنه: طريق الحرية والديمقراطية لبلادنا وشعوبنا. 

كان التحذير واجباً خصوصاً في ظلّ وضوح المؤشرات المتناقضة التي خَبرتها المعارضة السورية في خطابات دول صنع القرار، حيث يحدّثون عن العقوبات، مجرّد عقوبات على الحرس الثوري الإيراني يعتبرون أن من شأنها أن تُرغم نظام الملالي على التفاوض، في الوقت الذي أثبتت فيه التجربة السورية أن العقوبات الدولية لم تأتِ يوماً بنظام الأسد إلى طاولة المفاوضات طيلة السنوات التي استمرّ فيها بارتكابه المجازر وجرائم التهجير والإخفاء القسري والكيماوي بحقّ الشعب السوري.

يؤكّد ما سبق، على سبيل المثال، حديث روبرت جوزف (المبعوث الأمريكي الخاص لعدم انتشار الأسلحة النووية): "هذه العقوبات ليست الطلقة الذهبية للقضاء على هذا النظام في ظلّ قدرة شركات الحرس الثوري على التأقلم معها"، ثم يستأنف: "ليس هناك خيار سوى العقوبات، لكن بنفس الوقت لم تؤدّ تلك العقوبات إلى إضعاف النظام، ولذا يجب أن يتمّ التغيير في إيران بشكل آخر"! ويتمثّل هذا الشكل الآخر حسب رأيهم ب "دعم المعارضة الإيرانية لإحداث التغيير داخل إيران". وبالطبع لا يمرّ هذا الدعم دون البدء بوضع العراقيل والشروط التعجيزية، الواحدة تلو الأخرى، في وجه المعارضة، فيلمّحون إلى "وجود نزاعات داخل المعارضة الإيرانية فرّقتها، وهناك تيارات أخرى داخل إيران يجب التعامل معها". إذاً هي نفس الدعوة إلى ضرورة توحيد المعارضة التي سبق وخرموا آذاننا بها في مؤسسات قوى الثورة والمعارضة السورية حتى جاؤوا بمنصّات تتبع للاحتلال الروسي لتصبح جزءاً من الوفد الممثّل للثورة السورية، وتدفع باتجاه حلّ المحتلّ الحليف لنظام الأسد.

يضربون عرض الحائط بحقّ الشعوب في قطع الطريق أمام استمرار حكم مجرمي الحرب بل وحقّها في محاكمتهم

ومن الحديث عن "ضرورة ردع شرّ النظام الإيراني وعن انعدام الحلّ إلا بإسقاطه"، إلى التصريحات المناقضة المتكررة والمستمرة والأخيرة حول مجرّد العمل على "الحدّ من سلوك هذا النظام"، وفي أحسن الأحوال توقّع المزيد من الخيارات لمواصلة الضغط من أجل "تغيير سلوكه". حديثٌ يتناغم مع التصريحات والتسريبات الأمريكية الحالية التي تقول بالاستعداد للقبول بالأسد مقابل شروط ينبغي عليه تنفيذها، ومنها: "عدم رعاية الإرهاب أو توفير ملجأ آمن للإرهابيين، وإزالة جميع أسلحة الدمار الشامل، وقطع العلاقات مع النظام الإيراني وميليشياته ومغادرتها الأراضي السورية، وعدم تهديد الدول المجاورة"، بل ويزيد جيمس جيفري، مبعوث أمريكا لسوريا: "نحن بحاجة إلى حكومة لا تستخدم الأسلحة الكيماوية ولا تلقي البراميل المتفجرة وتتوقف عن محاولة قتل شعبها. إذا كان الأسد قادراً على خدمة حكومة مماثلة، فليتابع في الحكم، ولكنني أشكّك جداً في ذلك. إذاً يستند ذلك إلى شروط وليس إلى الشخصية"! وبمثل هذه التصريحات، يضربون عرض الحائط بحقّ الشعوب في قطع الطريق أمام استمرار حكم مجرمي الحرب، بل وحقّها في محاكمتهم، فيتركون الأبواب مواربة غير موصدة في وجه السفّاحين، لزوم عقد الصفقات وإقامة البازارات.

لا بدّ أن نتخلّص من الخَدَر الذي يصيبنا كلما عاودت الأسطوانة الدولية المشروخة العزف على مسامعنا، وأن نعيد الاعتبار لأولوية توحيد جهودنا وتنسيق قوانا وتجميعها والاعتماد على أنفسنا في مواجهة تحالفات الأنظمة الحاكمة، تلك الأنظمة التي تمارس الابتزاز على المجتمع الدولي من خلال وضعه أمام خيارَين: الإرهاب أو الحفاظ على صيغة استقرار حكم هذه الأنظمة القائمة على الاستبداد والترويع وجرائم الحرب. فيختار المجتمع الدولي الخيار الأسهل، ويتخاذل ويتواطأ، ويصبح لزاماً علينا الحذر والمواجهة عند الوصول إلى مرحلة استخفاف وتمادٍ تختزل قضايانا إلى تقاسم سلطات كما فعل مع القضية السورية عندما اختزلها إلى قضية إصلاحات دستورية وانتخابات، فيما المطلب الأساسي هو التأسيس لهيئة حكم انتقالي، لا مكان للأسد ومجرمي الحرب فيها.

يليق بنا فعلاً أن نؤسّس لجبهة موحَّدة، تُعمّق الوعي بضرورة رفضنا لأنصاف الحلول ولإعادة تأهيل الأنظمة المغتصبة للسلطة، والمجاهرة بجذرية أهدافنا وثباتنا على طريق واحد لا بديل عنه، هو طريق التحرير وإقرار العدالة والحق في محاكمة مجرمي الحرب وعلى رأسهم منظومة الأسد ونظام الملالي.