الأسد وإعادة الإعمار، إسرائيل والنظام الإقليمي

2019.01.02 | 00:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يجادل الكثيرون بأهميّة إعادة الإعمار في سوريا، والبعض منهم يذهب إلى القول بأنّ هذه المسألة ستكون إحدى الأدوات الحاسمة في عمليّة التغيير السياسي في سوريا، ويحاججون بأنّ دول الخليج العربي، وقبلها أميركا ودول الاتحاد الأوروبي، لن تساهم في هذا الأمر بدون انتقال سياسي.

الحديث بهذا الأمر شائك، وتحكمه الكثير من العوامل والاعتبارات، لعلّ أهمّها، السؤال الأساس الذي يقول: هل حقيقة كانت هناك رغبة دوليّة في إسقاط نظام الأسد؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال بشكل صحيح، تعطينا قدراً كبيراً من الثقة في تقدير الموقف، لذلك سيكون من أساسيات البحث عن الإجابة، وضع المحاور الرئيسة لعمل داعمي كلا طرفي الصراع موضع النقاش، أي النظام السوري من جهة، والشعب ممثّلاً بالمعارضة السياسيّة التي تصدّرت المشهد لتمثيله من جهة ثانية.

نبدأ من أصدقاء النظام، فهم لم يخفوا منذ اليوم الأوّل للثورة السورية وقوفهم بجانب النظام ولو استدعى الأمر خوض حروب كبرى، وما الفيتو الروسي المنفرد والروسي الصيني المشترك، إلا شكل من أشكال التعبير السياسي عن هذا الموقف، يضاف إلى ذلك التدخّل الإيراني ومن بعده التدخّل الروسي، الذي غيّر موازين القوى بشكل هائل، وحسم الصراع العسكري.

"أصدقاء" الشعب السوري، منذ اليوم الأوّل كان موقفهم مجرّد فقاعات إعلاميّة لا ترقى إلى مستوى العنف الهائل الذي استخدمه النظام

أمّا "أصدقاء" الشعب السوري، فمنذ اليوم الأوّل كان موقفهم مجرّد فقاعات إعلاميّة لا ترقى إلى مستوى العنف الهائل الذي استخدمه النظام. كان المنعطف الحاسم الذي أثبت عدم وجود الرغبة الدوليّة بتغيير النظام، الموقف المتخاذل من استخدام النظام لسلاح الجوّ في تدمير القرى والمدن فوق رؤوس ساكنيها، ومن ثمّ السكوت المخزي عن استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية، وما تلاه من استخدام مستمر ومتواصل، لجميع أنواع الأسلحة المحرّمة دولياً والأسلحة العشوائيّة الضرر.

تعطينا هذه العلامات الفارقة إشارة واضحة على انعدام الرغبة في تغيير النظام السوري، إن لم يكن على توافق دولي غير معلن للإبقاء عليه، لتحقيق غايات محدّدة وخاصّة بكلّ بلد على حدة، ويمكننا أن نتحدّث بكثير من التفصيل عن مصلحة إسرائيل أو غيرها من دول المنطقة بهذا الشأن.

لعلّ الموقف الدولي من الانقلاب العسكري في مصر، والموقف من الانقضاض على الثورة اليمنيّة، ودعم الديكتاتور الراحل علي عبد الله صالح، والموقف من الثورة الليبية ودعم الجنرال حفتر في ليبيا، تعطينا أكبر الأدلّة على أنّ الرغبة الدوليّة اتّجهت لتعزيز النظام الإقليمي، لا لتغييره.

كانت المجتمعات الغربيّة أكثر من اضطهد واحتقر اليهود كقوميّة على مرّ التاريخ

لهذا كلّه، سيكون الحديثُ عن إعادة تأهيل نظام الأسد سياسياً ومن ثمّ اقتصاديّاً، أمراً طبيعيّاً ومن مستلزمات استكمال نهج المحافظة عليه، للمحافظة على طبيعة النظام الإقليمي في المنطقة ككل، والحجر الأساس في هذه المسألة هو أمن إسرائيل والمحافظة عليها، ولا ننسى أنّ وجود إسرائيل ككيان في المنطقة، كان أحد أشكال حلّ أزمة عدم قبول الوجود اليهودي في أوروبا، وما مقولة الثقافة الغربيّة المستندة إلى شقّيها اليهودي والمسيحي، إلّا تسطيح وتسخيفٌ لجوهر العلاقة هذه، لقد كانت المجتمعات الغربيّة أكثر من اضطهد واحتقر اليهود كقوميّة على مرّ التاريخ، وما الهولوكوست عنّا ببعيد.

من يظنّ أنّ من مصلحة إسرائيل بناء أنظمة ديموقراطيّة في جوارها، إنّما هو مصابٌ بوهمٍ لا حدود له حول طبيعة هذا الكيان، فإسرائيل لا تختلف في تكوينها وتركيبتها الداخليّة عن أيّ نظامٍ عربيّ، سوى في أنّها تستخدم أدوات الديموقراطيّة للإبقاء على كيانها، بينما يستخدم الحكّام العرب أدوات التسلّط والاستبداد. 

إسرائيل دولة عنصريّة قائمة على هاجس الأمن من العدوّ الخارجي، وبالتالي على الجيش الذي يؤمّن لها الحماية، وهي قائمة كذلك على الاستثمار في تخلّف وغباء إن لم نقل عمالة حكّام دول جوارها. ما يحمي الشعبَ الإسرائيلي من عسف التسلّط والديكتاتوريّة، هو ارتباط دورة دولة إسرائيل الاقتصاديّة بالغرب الذي أنشأها أولاً، وبحاجة الغرب لهذه الدولة بعيداً عن حدوده ثانياً، وبقلّة عدد سكّانها مقارنة بأية دولة عربيّة، وتدنّي نسبة التكاثر السكّاني ثالثاً. لو كان عدد اليهود في إسرائيل كافيا لإحداث التوازن الديموغرافي مع العرب، لوجدنا ثقافة البراميل المتساقطة فوق حيفا ويافا وتل أبيب، كما هي فوق حلب وحمص والغوطة، سائدة بلا جدال.

إنّ تغيير النظام الإقليمي، والانتقال إلى نظامٍ جديد يمكّن شعوب المنطقة من التعبير عن إرادتها بشكلٍ حرّ، وبالتالي من تحقيق تطلّعاتها في بناء مستقبل مزدهر، وهذا يعني بكلّ بساطة إيجاد الأرضيّة المناسبة لخلق تنافس حقيقي وتهديد طبيعي لإسرائيل، وهو أمرٌ غير مقبول. 

يفترض هذا كلّه، ضرورة الإبقاء على حالة ضياع الهويّة الوطنيّة لدول الجوار، وضرورة إبقاء عنصر الفشل البنيوي في كيانات هذه المجتمعات والدول، وأيّ ضامن لهذا الأمر أفضل من الديكتاتوريّة والاستبداد؟ إنّ استثمار إسرائيل في استدامة أنظمة الاستبداد العربيّة، ضرورة داخليّة لاستمرار وجود إسرائيل ذاتها.

يقودنا هذا إلى سؤال مهم، لماذا سيحتاج نظام الأسد لإعادة الإعمار؟ فهل من عاقل يصدّق أنّه يفكّر في استرضاء الناس، حتّى أشدهم ولاءً وإخلاصاً له؟ إنّ من يفكر هكذا لا يعرف نظام الأسد إطلاقاً. الأولويّة المطلقة لهذا النظام، كانت على مدى تاريخه الذي بدأ بشكله الحالي مع حافظ الأسد، تأبيد وجوده بأيّ ثمن. 

يقوم هذا النظام على ركيزة واحدة لا غير، السيطرة على الدولة وعلى المجتمع من خلال القمع، وبالقبضة الأمنيّة الحديدية. لا قيمة لشيء في سوريا غير الأمن والمخابرات. هذا هو الهاجس الوحيد لدى نظام الأسد، وهو القيمة الوحيدة القادر على إنتاجها، وهي الأداة الوحيدة التي يسيطر بها على كلّ مفاصل الدولة بما فيها الجيش، وعلى كلّ مفاصل المجتمع.

لا يحتاج نظام الأسد إلى إعادة الإعمار أبداً، حتّى ولو توفّرت لديه السيولة أو لو تلقّى تمويلاً من الدول المانحة

لا يحتاج نظام الأسد إلى إعادة الإعمار أبداً، حتّى ولو توفّرت لديه السيولة أو لو تلقّى تمويلاً من الدول المانحة، لأنّ من يهجّر نصف عدد سكّان البلاد، ويقتل ربع عُشرهم على الأقلّ، ويعتقل ما يقرب من نصف عُشرهم خلال السنوات الثماني المنقضية، ليس لديه أدنى اهتمام بمصيرهم، وسواءٌ عنده أسكنوا في بيوت أم في خيام، وسواءٌ عنده أعادوا من منفاهم القسري أم لا، بل بالعكس، إنّ عدم عودتهم أفضل، لتبقى هذه القضيّة عامل ابتزاز لدول الجوار القريب المحيط ولدول أوروبا أيضاً. سيتركُ نظام الأسد في كلّ محافظة من المحافظات التي ثار أبناؤها عليه، نسبة كبيرة جدّاً من أبنيتها وشوارعها ومؤسساتها مدمّرة، كي تبقى عصاً غليظة فوق رؤوسهم، تذكّرهم كل لحظة بمصير من يتجرّأ ويطالب ليس بحقوقه الإنسانية فحسب، بل بأبسط احتياجاته اللازمة لاستمرار الحياة.

قد يكون من مصلحة حلفاء الأسد وداعميه، السير بعمليّة إعادة الإعمار، لأنها ستجلب لهم بالتأكيد مليارات الدولارات، وسيكون أكبر المستفيدين بلا شكّ هو الديكتاتور الروسي بوتين، فروسيا بوتين كسوريا الأسد، مزرعة يحكمها طاغية وأهلها مقسّمون بين عبيد وأقنانٍ وأنصاف سادة، لا يوجد أبداً في بلدان الاستبداد سادة أحرار، فهؤلاء مصيرهم القبر أو السجن أو المنفى، وحتى المنافي ضاقت بهم ولحقهم القتلة إلى حيث يقيمون. كذلك سيكون من مصلحة إيران إعادة الإعمار، لاسترداد جزء مما أنفقته خلال سنوات دعمها اللامحدود لهذا النظام، وحتماً سيكون القسم الأكبر من هذه الأموال من نصيب ملالي طهران وجنرالات الحرس الثوري، ولن يعود بأيّ نفع على الشعب الإيراني المنهوب المنكوب مثل شعوبنا العربيّة.

الخلاصة، إنّ هذا الثمر من ذاك الزرع، ونظامٌ الأسد من ذاك النظام العربي بل والإقليمي كلّه، وهذا النظام سيعيدُ ترميم أحد أهمّ أجزائه. لقد فضّلَ بشّار الأسد على حكّام المنطقة، عندما لقّن شعوبهم قبل الشعب السوري، دروساً لن تُنسى لمن يفكّرُ بالخروج على الطاعة. لقد كان بشار وزبانيته رأس حربة في فريق الأنظمة، الذي حارب باحترافيّة منقطعة النظير ضدّ الشعوب، فلماذا لا يغسلون يديه من دمائنا، ولماذا لا ينصبونه من جديد على رجليه؟ لم يكن نظام الأسد الحارس الأمين ليس لدولة إسرائيل وحدودها فحسب، بل ولفكرة إسرائيل ذاتها.

ستتمّ إعادة إعمار نظام الخراب المستفحل، وعلى شعوب المنطقة أن تفكّر بأساليب أكثر تطوّراً من الثورات، لقد ولّى زمن الشعوب، إنّه زمن الاستبداد.