الأسد المستعجل على «النصر»

2019.09.16 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لم تكن الهدنة التي أُعلنت في إدلب مؤخراً هدنةً من طرف واحد فحسب، بل إنها صدرت عن أحد مكونات هذا الطرف فقط، وهو روسيا. إذ تشير الأخبار الواردة من مصادر قريبة من قيادة قوات النظام في المنطقة إلى مفاجأتها بالإعلان وتذمرها منه ومحاولتها التحايل عليه.

قبل أيام من ذلك كانت قمة الرئيسين التركي والروسي قد أخفقت في التوصل إلى اتفاق بشأن إدلب، مما يستبعد فرضية أن تكون الهدنة نابعة من تفاهمات موسكو مع أنقرة، شريكتها في مسار أستانا. وعلى كل حال لم يُعرف عن الرئيس بوتين السعي إلى إرضاء حلفائه بل الاستمتاع بابتزازهم.

قد يكون هذا مدخلاً جيداً لتحليل الهدنة التي أعلنت عنها وزارة الدفاع الروسية. ويبدو أن الابتزاز موجه لـ بشار الأسد هذه المرة، وإن كان لا شيء يمنع من «بيع» الهدنة لتركيا كجائزة ترضية. أما لماذا يعمد بوتين إلى الضغط على دمشق الآن فهذا ربما يرتبط بملفين مباشرين:

الأول خلاف الأسد مع ابن خاله، مدير بيت مال العائلة، رامي مخلوف. قيل عن هذا الموضوع الكثير، غير أن خطوطه العريضة التي باتت في حكم المؤكد هي أن الأسد طلب من خازنه مبلغاً يتجاوز ملياري دولار أميركي، استجابة لمطالب روسية غير معروفة الأسباب، وأن مخلوف أبدى عجزه عن تأمين المبلغ فوراً، فغضب الأسد وأوعز لجهات معتمدة لديه في القصر الجمهوري أن تدقق حسابات جمعية «البستان» التي يرأسها رامي، ثم أقاله منها، وحل الميليشيات التي تمولها، بينما يستمر التحقيق مع بعض مديريها.

الأمر الثاني حصل قبل يومين من الهدنة. وقد شاع بطريقة لا تتناسب إطلاقاً مع أهميته، وهو الإعلان عن أن الأسد قرر تحويل القوات العاملة ضمن حملة «النمر» إلى فرقة نظامية في الجيش، هي الفرقة 25 مهام خاصة (مكافحة الإرهاب)، وتسمية العميد سهيل حسن قائداً لها. بخلاف أي تقاليد عسكرية، أعلن هذا التحول منشور لصفحة «قوات النمر الصفحة المركزية» على فيسبوك، وكأنه تجريبي! وسائل الإعلام الرسمية لم تغطّ الخبر ولم تنفِه، بينما أوردته قناة روسيا اليوم نقلاً عن ضابط، لم تذكر اسمه، من قوات النمر.

 

لإضاءة ما جرى على نحو أفضل، نخدش حجابين يحولان دون رؤية واقع النظام الحالي بشكل أدق.

لا يجادل أحد بأن النظام في موقع الأضعف تجاه روسيا وإيران وأن علاقته بهما غير متوازنة، لكنه ليس تابعاً مجرداً من أي إرادة

الحجاب الأول هو النظر إلى المعسكر الروسي-الأسدي- الإيراني على أنه حلف متين متماسك. لقد قيل الكثير عن الخلافات الروسية الإيرانية في سورية، وعن تسابق الدولتين على «اقتسام الكعكة»، غير أن قليلاً من الجهد بُذِل لفهم طبيعة علاقات النظام بكل من طهران وموسكو خارج دائرة الاستتباع المحض. لا يجادل أحد بأن النظام في موقع الأضعف تجاه الطرفين، وأن علاقته بهما غير متوازنة، لكنه ليس تابعاً مجرداً من أي إرادة. فمن ناحية أولى لا يحوز النظام صفة الإخلاص التي يتسم بها الأتباع المصنوعون من نمط الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف. وهو مستعد لبيع حلفائه، جزئياً، في حال توافرت الصفقة المناسبة، وللعب بينهم طالما أن احتمالاً كهذا ليس واقعياً. ومن جهة ثانية لم يفقد النظام اعتداده بقواه الذاتية كلياً، طالما أن حاضنته الطائفية تؤمّن له عصب المقاتلين وأنه يسيطر على بقايا دولة. أما حاجته إلى «حلفاء» فهي أمر طبيعي مؤقت، في رأيه، بالنظر إلى أنه يتعرض لمؤامرة «كونية»!

الأدلة على ما سبق كثيرة، وتستحق التوقف عندها وتحليلها.

الحجاب الثاني هو أن الاستمرارية الظاهرة لحكم الأسدين، في ما نطلق عليه «النظام السوري» عادة، دفعت إلى إغفال بعض التمايزات الدقيقة بين الأب والابن. ما يهمنا من هذه الاختلافات هنا فارقٌ بنيوي بين دكتاتورية الاثنين. فمن المعروف، من ثلاثة عقود من حكم حافظ الأسد، ميله إلى تقسيم حكم البلد إلى «إقطاعات» يتولاها رجال موثوقون، يتلقون منه توجيهات عامة عند تعيينهم، ثم تُطلق أياديهم في المؤسسات لتحقيق الأهداف المطلوبة منها عموماً، مع غض النظر عن فسادهم فيها بوصفه أمراً طبيعياً، ما لم يتعدوا خطوطاً حمراء مختلفة يعرفونها بالترعرع في مدارج النظام والتدرب على تلقف إشاراته المخفية.

أما السنوات الهادئة التي قضاها بشار الأسد في حكم البلاد، في العقد الأول من الألفية، فتقول شيئاً مبايناً عن نوع دكتاتوريته التي كانت أشد مركزية بخلاف المتوقع. يدل على هذا العدد غير المسبوق من المراسيم التي أصدرها، وتناقض بعضها بالنظر إلى تغير توجهه في المجالات العديدة التي يصعب أن يحيط بها رجل واحد. كان الأب قد جنّب نفسه الظهور بهذا الشكل لأنه «وكّل» الزراعة والصناعة والاقتصاد والتربية والأمن العسكري ولبنان... إلخ لمسؤولين متخصصين ومديري ملفات سيستطيع التنصل من أخطائهم عندما تتجاوز الحدود، وإقالتهم ومساءلتهم، والظهور بصورة أب الدولة والحاكم المنقذ.

بشار ليس من هذا النوع. فمن إرشاد الفريق الديني الشبابي إلى معالم الدين الصحيح حتى «الملاحظات» التي قال المخرج نجدت أنزور إنه أبداها تجاه فيلمه «دم النخيل» مؤخراً؛ يفتي الابن في كل شيء تقريباً. صحيح أن مثل هذا وأكثر قيل عن أبيه، غير أن ذلك كان كلاماً موجهاً للإعلام، ويدخل في صناعة عبادة شخصه وتأليهه. لكن المستبد العجوز كان، على العموم، أدهى من أن يصدّق دعاية نظامه!

بالعودة إلى إدلب يبدو أن بشار، الذي لا يتمتع بصبر أبيه المعروف، استعجل إعلان الانتصار، وخاصة إثر السيطرة المتلاحقة على بلدات وقرى ريف حماة الشمالي وصولاً إلى خان شيخون. ولذلك رأيناه، خلال أيام قليلة، يمسك بمفتاح خزنته، مطيحاً بمخلوف إلى هامش غير مؤذ، ويضع يده المباشرة على مجموعات النمر شبه الميليشياوية شبه المستقلة، القوة العسكرية الأبرز للنظام، بإلحاقها بالجيش الذي هو قائده العام، بما يعنيه ذلك من تثبيت أكتافها وإعادة هيكلتها ونقل ضباطها إلى قطعات أخرى متى أراد.

يبدو أن شيئاً هنا لم يعجب القيصر، الذي لم تكن الأموال المطلوبة قد وصلته على كل حال، فقال: لتكن هدنة... فكانت...