الأزمة الفنزويلية والثورة السورية

2019.02.01 | 23:02 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ثمة أزمة في فنزويلا ذات جوانب متعددة ومركبة دستورية سياسية اقتصادية واجتماعية، هي ليست ثورة كالثورة السورية، وليست انقلاباً كما جرى في مصر، نحن أمام أزمة داخلية عميقة طرحت من جديد التساؤلات عن أسباب رد الفعل الدولي الأمريكي الغربي تحديداً القوى والمختلف تماماً عن رد الفعل الخجول وحتى المتواطىء تجاه الثورة السورية. ومعاناة الشعب الثائر في مواجهة نظام الأسد الذي ارتكب جرائم وفظاعات القرون الوسطى بأسلحة القرن الحادي والعشرين على مرمى ومسمع من العالم.

لا بد في البداية من القول أن ثمة سبب مركزي داخلي للأزمة الفنزويلية، رغم أن التدخلات الخارجية، حاضرة طبعاً، ويتمثل بفشل القيادة اليسارية الحاكمة من هوغو شافيز إلى نيكولاس مادورو في الاستفادة من القدرات والثروات الوطنية الهائلة لأجل رفاه الشعب، وتوفير الحياة الكريمة له، ولا يعقل أن تصل الأمور في بلد نفطي غني إلى ما وصلت إليه من انهيار اقتصادي صادم، وعجز فئات واسعة من الناس عن توفير لقمة العيش والحياة الكريمة لأسرهم ولأطفالهم.

في سياق الفشل نفسه نحن أمام تأسيس لسلطة أو نظام حكم استبدادي ضرب بعرض الحائط التوافق الوطني، تجاوز بل انتهك روح الدستور والديموقراطية القائمة على حكم المؤسسات، وفي النهاية تصرف بشكل أحادي بعيداً عن التوافقات الوطنية العريضة أو الاحتكام إلى الشعب بشكل حرّ شفاف نزيه وديمقراطي.

وعند النظر إلى طريقة التعاطي أو رد الفعل الخارجي على الأزمة نجد انحيازاً واصطفافاً دولياً كبيراً إلى جانب المعارضة، ليس فقط من قبل أمريكا والدول الغربية، إنما من معظم الدول اللاتينية المنضوية في المنظمة الأمريكية التي اتخذت الموقف نفسه تقريباً مع استثناءات بسيطة ومعدودة، بينما وقفت الأنظمة الاستبدادية في الصين روسيا وإيران إلى جانب الرئيس الفاشل المستبد مع استثناءات ديموقراطية لافتة يمكن فهمها وتفسيرها أيضاً تحديداً من قبل تركيا المكسيك وجنوب إفريقيا.

لا شك أن الموقف الأميركي كان حاسماً في تشجيع المعارضة الفنزويلية، وتوحيد صفوفها وحشد التأييد لها سواء فى منظمة الدول الأمريكية، أو في الغرب بشكل عام

لا شك أن الموقف الأمريكي كان حاسم في تشجيع المعارضة الفنزويلية، وتوحيد صفوفها وحشد التأييد لها سواء فى منظمة الدول الأمريكية، أو في الغرب بشكل عام، إلا أن الدول اللاتينية عموماً لم تكن على وفاق تام مع الحكومة الفنزويلية التي اتبعت سياسات طائشة فاشلة وباتت العلاقة أسوأ في الفترة الأخيرة مع المد اليميني الذي اجتاج القارة بعد حقبة اليساريين ووصولهم للسلطة، فى دول عدة إثر انتخابات حرة نزيهة حتى لو تم الانقلاب عليها، كما شهدنا في فنزويلا نفسها ونيكاراغوا من قبل الرئيس أورتيغا وعائلته.

بالنسبة لأمريكا فقد اعتبرت تاريخياً القارة الجنوبية بمثابة الحديقة الخلفية لها، ورغم أنها دعمت أنظمة ديكتاتورية ورعت وهندست انقلابات عسكرية على أنظمة ديموقراطية فى السبعينيات من القرن الماضى، إلا أنها لم تمنع وتصد المد الديموقراطي بعد ذلك، خاصة مع سقوط الاتحاد السوفيتي في التسعينيات ثم فترتي الرئيس باراك أوباما الذي مارس الانفتاح على القارة مع تفهم النزعة الاستقلالية لها على قاعدة المصلحة المشتركة الجدية والحقيقية، رغم أن أمريكا -أوباما نفسها لم تكن على وفاق تام وخاضت عدة أزمات مع فنزويلا شافيز ثم مادورو.

إدارة ترامب اليمينية الأكثر تطرفاً استغلت الأزمة الداخلية الأخيرة للإطاحة بخصمها مادورو، خاصة مع التحولات اليمينية في الدولة الجنوبية الأكثر تأثيراً في القارة أي البرازيل، إلا أن الموقف الأمريكي لا ينطلق فقط من النظرة المتطرفة لإدارة ترامب، لكن أيضاً من المصالح الأمريكية وعودة التنافس مع الصين – وروسيا - والرغبة في تحجيم نفوذهم في حديقتها الخلفية.

لذلك لم يكن غريباً أن تؤيد الدول الاستبدادية مادورو لعدائه مع أمريكا -ترامب كما للمصالح الجدية في فنزويلا، سواء الحضور الاقتصادي القوي للصين والنفطي لروسيا. وأعتقد أنها كانت ستؤيد النظام الاستبدادي في كل الأحوال انطلاقاً من أرضية فكرية - سياسية، لكن بدا غريباً ومفاجئاً أن تؤيد أنظمة ديمقراطية مثل تركيا المكسيك وجنوب إفريقيا، وإن لدوافع مختلفة، نظام الرئيس مادورو.

تملك الدولة الإفريقية الجنوبية الحديثة حساسية فائقة تجاه أي سياسة غربية، قد تأخذ طابعاً استعمارياً أو إملائياً كما تبدو ميالة دائما إلى اتخاذ سياسات مستقلة عن الغرب

تملك الدولة الإفريقية الجنوبية الحديثة حساسية فائقة تجاه أي سياسة غربية، قد تأخذ طابعاً استعمارياً أو إملائياً كما تبدو ميالة دائما إلى اتخاذ سياسات مستقلة عن الغرب، والمكسيك من جهتها تعاطت مع الأزمة من زاوية خلافاتها مع أمريكا ترامب وتوجسها من احتمال القيام بخطوة مماثلة ضدها، أما تركيا فتملك علاقة جيدة سياسياً واقتصادياً مع كاراكاس، إلا أن السبب الرئيسي لموقفها -الخاطئ على أي حال- يكمن فى التوجس من السياسات الأمريكية التي لا تتورع عن نشر الفوضى والفتن، والأهم ربما الخشية الدفينة من احتمال تطبيق نفس السيناريو الفنزويلي على تركيا نفسها، والقبول مثلا برئيس حزب الشعب المعارض كمال كليتشداراوغلو زعيماً لها كما قال حرفياً دولت بهشلي الزعيم القومي وحليف الرئيس أردوغان.

وفى تفسير اختلاف السياسة الأمريكية الغربية بين الأزمة الفنزيلية والثورة السورية، فهذا عائد إلى العنصرية وحتى الفوقية الغربية تجاه القضايا العربية والإسلامية، فالغرب اتخذ موقفاً متشدداً تجاه روسيا فى أوكرانيا بينما لم يمانع تدخلها المدمر في سوريا، بل إن وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري لم يتورع عن ابتزاز وتهديد المعارضة والثوار السوريين بالقوة التدميرية الغاشمة للاحتلال الروسي.

تركيا فتملك علاقة جيدة سياسياً واقتصادياً مع كاراكاس، إلا أن السبب الرئيسي لموقفها -الخاطئ على أي حال- يكمن فى التوجس من السياسات الأمريكية

سبب آخر يتمثل باعتبار الولايات المتحدة أمريكا اللاتينية بمثابة حديقتها الخلفية، بينما نحت للانكفاء عن المنطقة العربية -الإسلامية منذ زمن أوباما -بدرجة أقل في زمن ترامب نفسه- حتى أن أوباما المنكفئ غير المكترث بجرائم الأسد، لم يمانع في تسليم سوريا العراق والمنطقة كلها للهيمنة الإيرانية، طالما أنها تلتزم بالخطوط الحمر الأمريكية الشهيرة الثلاث، لا لتهديد أمن اسرائيل، لا لتهديد حرية تدفق النفط والملاحة فى المياه الإقليمية، ولا لكسر حدود سايكس بيكو.

فى كل الأحوال تملك الأزمة الفنزويلية جذوراً داخلية عميقة، هى اندلعت على مراحل وموجات حتى زمن باراك أوباما المنفتح على قارته الجنوبية، وقبل التدخل النشط لإدارة ترامب التى لم تكن السبب الرئيس لاندلاعها، لكن قد تكون أحد عوامل إنهائها دون تدمير البلد، أو خلق أزمة مفتوحة تفيض على المنطقة برمتها، التى باتت أكثر قرباً من واشنطن وسياساتها، بعد فشل اليسار ووصول الأحزاب اليمينية للسلطة فى معظم دولها.

سورياً اندلعت الثورة لأسباب وعوامل عميقة تاريخية سياسية اقتصادية اجتماعية، اللامبالاة الأمريكية الغربية وغض النظر عن الأسد وجرائمه لن تهزمها، هي منتصرة حتماً ولو بعد حين، كما لا يتصور عاقل أي دور أو حضور لنظام الأسد فى مستقبل سوريا، وربما التدخل الغربي الأخير عبر العقوبات الأوروبية وقانون قيصر الأمريكى -الذى عرقله أوباما- مجرد تعبير ولو متأخر عن هذه الحقيقة ولكن بعد المماطلة المتعمدة لإعطاء النظام الكيماوي الفرصة لتدمير سوريا العظيمة وإشغالها بنفسها لسنوات وربما عقود قادمة.