استشراء الفساد في نظام الأسد

2019.09.21 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

عانت سوريا من الظلم والفساد، في ظل استبداد (الفئة المستأسدة الحاكمة ) وعرّابِها الذي تمسّك بمركزيّة الإدارة، وحوّل الجيش عن وظيفته الأساسية، من الدفاع عن الدولة إلى الدفاع عن أمنه الشخصي، مستعيناً على ذلك بشبكة من الجاسوسية الأخطبوطية، وبفرض رقابة مشدّدة على المطبوعات .

لقد جسّد الحكم المستأسد الاستبداد، إذ عدّ كلّ ما في سوريا، ومن فيها، ملكاً له . واشتد الركود الاقتصادي والتخلّف.

سورية.. حملات مكافحة الفساد المزعومة

نسمع أخباراً عن إقالة عدد من المسؤولين الحكوميين السوريين، وإحالتهم إلى القضاء بتهمة الفساد، كان من بينها خبر عن إقالة حوالي 20 من كبار ضباط وزارة الداخلية، وعدد موازٍ من المديرين العامين وكبار موظفي الدولة السورية مع إحالة ملفات بعضهم إلى الهيئات الرقابية لمحاسبتهم ومعاقبتهم.

مثل هذه الأمور ليست جديدة في سوريا. فحملة مكافحة الفساد وصلت أوجها عندما طالت رئيس حكومة النظام واثنين من وزرائه، كما أننا نتذكر جيداً نشاطات، ما كان يسمى، لجان التفتيش عن الكسب غير المشروع، وهيئات المحاسبة والسؤال من أين لك هذا؟!

هذه الحملات عرفت في التاريخ السوري، هجمات وهمية ، كانت تشتد كلما اشتد المرض، وكلما ازداد تفاقم الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلاد، إلا أن الأمور لا تلبث أن تعود كما كانت, وربما أشد وطأة, ونعود جميعنا إلى حالة من الترقب والانتظار, وأيضاً الأمل أن تمكننا هجمة جدية وواسعة ضد الفساد من التخلص نهائياً من هذه الآفة اللعينة!!

ولا يخفى على أحد, أن الفساد منتشر في سوريا, انتشار الفطر, وقد أصبح, مع الزمن، وباءً مستشرياً ينخر في خلايا المجتمع كافة، وبشكل خاص في كل مؤسسات الدولة ودوائرها.

هذه الحملات عرفت في التاريخ السوري، هجمات وهمية ، كانت تشتد كلما اشتد المرض، وكلما ازداد تفاقم الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلاد

وبما أن الفساد يعرف بعبارة بسيطة واحدة بأنه استغلال المنصب العام لخدمة المصالح والمنافع الشخصية، فإن انتشاره الواسع والكبير في سوريا يتناسب طرداً مع كبر حجم الدولة السورية، واتساع دورها وعمق تداخلاتها في إدارة المجتمع وأنشطته المختلفة، الاقتصادية والاجتماعية، واستغلال الصلاحيات العامة لفرض مناخ خاص لنمو وتطوير السوق السوداء (صرف وتهريب العملات الأجنبية، تهريب البضائع والسلع، تجارة الجنس والمخدرات .. إلخ).

وفي حين نلاحظ حالة الرشاوى لشرطي المرور مثلاً أو لمعقب المعاملات الرسمية، نظراً لواقع الحياة البائسة التي يعيشها أمثال هؤلاء الموظفين الحكوميين، فأجورهم لا تكفي حاجاتهم،  فإن الأمر يغدو خطيراً عندما نرى كيف يُستغل المنصب الحكومي لتمرير الصفقات والمناقصات، ولإبرام العقود غير المشروعة. وكيف تصبح السلطة وعاءً لتجميع وتكديس الثروات، تتم من خلالها عملية اقتطاع وتحويل جزء من الأموال العامة لحسابات الشخصيات الحكومية .

والأسوأ من ذلك كلّه، عندما ترى كيف تصبح قيم الفساد أحد شروط اختيار الأفراد لتولي المسؤوليات السياسية والإدارية وكيف تغزو هذه القيم العقول والضمائر، فتغدو في الثقافة الشعبية مظاهر إيجابية تدل على الشطارة والحنكة والذكاء؛ في مواجهة القيم النبيلة، قيم الحق والنزاهة والعدل، التي أصبحت، على ما يبدو، سمات الشخصية الضعيفة والساذجة وقليلة الحيلة!!

وما يزيد الطين بلة، حين يصل الفساد في سوريا إلى سلك القضاء، فيدك بذلك، آخر معقل من معاقل الدفاع عن صحة المجتمع وسلامته. وما ينفطر له القلب، ويثير الشجون والألم، أن هذا المرض الخبيث، قد التهم فعلاً، قطاعاً مهماً من سلك القضاء السوري، ليس بسبب ضعف الحماية الموضوعية، لضمائر القضاة وقيمهم، في ظل تردي أجورهم ومستويات معيشتهم، فحسب؛ وإنما أيضاً، بسبب تلك العلاقة الخاطئة والمَرَضية، التي عرفتها بلادنا، لعدة عقود خلت، بين القضاء والسياسة. حيث أخضع قانون الطوارئ والأحكام العرفية المؤسسة القضائية للمؤسسات التنفيذية، فاسحاً المجال، على طول الخط، لفرض الإرادة والمصالح السياسية على حساب الحق والقانون، ضارباً عرض الحائط بدور القضاء في تكريس سيادة القانون وقيم الخير والعدالة.

ومن المفيد، في هذا الصدد، إدراج قصة تُروى عن (ونستون) تشرشل، وكان رئيساً لوزراء بريطانيا، وقتئذ، حيث وضعت أمامه تقارير تشير إلى مدى تفشي ظاهرة الفساد في البلاد. فبادر بعد اطلاعه على محتوى هذه التقارير، إلى سؤال المعنيين عنها: أين واقع القضاء في ما تعرضونه عليّ؟! وعندما جاءته الإجابة بأن الفساد لم يصل إليه حتى الآن. تنهد وأضاف على الفور: إذاً ، ما زالت الأمور بخير.. فكل شيء، طالما القضاء بخير، يمكن تصحيحه!

ومما لاشك فيه أن داء الفساد يصيب معظم بلدان العالم، لكن بدرجات ومستويات مختلفة، حيث نلمسه في العديد من الدول المتطورة، ظاهرة جزئية ومحدودة (وكلنا يتذكر الفضائح التي طالت بعض المسؤولين الحكوميين في أوروبا وأميركا: نيكسون وميتران وكلينتون وساركوزي.. إلخ). ورغم محدودية وضيق انتشار ظاهرة الفساد في مثل هذه البلدان، فإن الصحافة الحرة لا تلبث أن تكتشفَها، وتلاحقُها أجهزة الرقابة، وتخضع للمحاسبة أمام القضاء، كما ينبذها الرأي العام والضمير الحي كونها في نظر الثقافة الشعبية جزءاً من القيم السلبية البغيضة.

على ضوء ما سبق يمكننا القول إن الفساد في سوريا هو ظاهرة سياسية بامتياز، ومعالجتها لن تكون مثمرة وناجحة إلا بعد استئصال شأفة الفساد المستأسد وجذوره

أما في سوريا، التي تغيب فيها الحريات وسيادة القانون والصحافة الحرة؛ فإن الفساد يصبح، مع الزمن، حالة سياسية واجتماعية متفشية، وجزءاً عضوياً من تركيبة الدولة ومقومات بنائها، وتربة حاضنة لنمو الروح الانتهازية وتسلل الشخصيات الفاسدة إلى مواقع القيادة وإلى المناصب السياسية والإدارية. فنجد أنفسنا، كأننا أمام شبكة مترامية الأطراف، لا هدف لها ولا غرض ، سوى تسخير الصلاحيات والمسؤوليات العامة في خدمة الامتيازات الخاصة والربح وسرقة المال العام، مستندة بذلك إلى غياب الحريات العامة وإلى تفشي روح وأساليب التسلط والقهر والإرهاب التي أقصت المواطنين عن ممارسة حقهم في المشاركة بالشأن العام وحجبت دورهم في المراقبة والاحتجاج على مظاهر الفساد ومسلكيات أزلامه.(قاسيون والساحل والمقاولات الضخمة والنفط والاتصالات كانت مما طالها الاحتلال المستأسد منذ وقت طويل) .

على ضوء ما سبق يمكننا القول إن الفساد في سوريا هو ظاهرة سياسية بامتياز، ومعالجتها لن تكون مثمرة وناجحة إلا بعد استئصال شأفة الفساد المستأسد وجذوره الضاربة عميقاً في المجتمع والدولة، وبناء العلاقة الطبيعية بين السلطات الثلاث التنفيذية والقضائية والتشريعية، بما يفسح في المجال لفصل القضاء عن المصالح السياسية، ولتوفير التربة الخصبة لنمو دور القضاة الطبيعي في تكريس سيادة القانون وقيم الحق والخير والعدل في المجتمع، جنباً إلى جنب، مع ضرورة إشاعة الحريات العامة في البلاد، وبشكل خاص حرية انتخاب واختيار الأشخاص الأكفياء والمنزهين عن الأغراض الشخصية، إلى المناصب العامة، إضافة إلى حرية التعبير والرأي والنشاط السياسي. فمناخ الحرية هو المناخ الوحيد القادر على تصحيح كل الأخطاء، وعلى مراقبة الأداء العام لكل مسؤول، وفضح أي سلوك يتجاوز الصلاحيات والمسؤوليات العامة، مع ضرورة تحسين الوضع المادي لكل العاملين في الدولة بما يوفر حداً من الأجور يتناسب مع متطلبات المعيشة، ويقيهم من الانحرافات الأخلاقية التي تفرضها وطأة الحاجة لمستلزمات وشروط الحياة.