إيران وإرثها الإيديولوجي في سوريا

2019.01.25 | 00:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لم يكن الارتباط العميق بين نظام الأسد وحليفيه ( روسيا وإيران) مقروناً بتداعيات ثورة آذار السورية 2011 ، وما تلاها، واستماتة بوتين وملالي إيران في تقديم الدعم المطلق بغيةَ الإبقاء على بشار الأسد ممسكاً بالسلطة في سوريا، بل الصحيح أن الثورة السورية قد فضحت مدى ارتهان دولة آل الأسد وتبعيتها السابقة لهذين الحليفين من جهة، كما فضحت – لمن جهل أو تجاهل – المعايير التي تعامل من خلالها نظام دمشق مع محيطه العربي والإقليمي من جهة أخرى.

ولئن رأى بوتين نفسه – كوريث للاتحاد السوفياتي – له الأحقية في جعل سوريا منطلقاً لعودة روسية من جديد إلى مسرح التنافس الدولي، للضغط على أمريكا ودول أوروبا وإجبارها على تقديم تنازلات لروسيا في مناطق أخرى من العالم( أوكرانيا – كوريا – قضية الدرع الصاروخية ...إلخ )، بهدف استعادة الهيبة المدثورة للروس، وعودتهم كقوة عظمى منافسة للولايات المتحدة الأمريكية، فإن الأمر يختلف بالنسبة إلى إيران، التي لا ترى في سورية شريكاً إقتصادياً وسياسياً، ولا ترى أن ما يربطها بنظام الأسد هو مجرّد منظومة مصالح مادية، سواء أكانت في الاقتصاد أم السياسة فحسب، بل إن الأرض السورية – وفقاً لطهران – ليست سوى الامتداد الحيوي للمشروع الإيراني القومي، والبوابة الأمثل للامتداد نحو الأفق العربي، بغية الهيمنة والتوسع. ولعلنا لا نحتاج إلى مزيد من القول حول استثمار قادة إيران للإيديولوجية الشيعية، واستخدامها – كوقود – في مشروعها القومي الذي بدا سافراً منذ وصول الخميني للسلطة 1979 .

ظهر حافظ الأسد طيلة سنوات الحرب العراقية الإيرانية، (1980 – 1988 ) كمستثمر بارع، فهو- من جهة أولى -  لم يخفِ انحيازه المطلق – سياسياً وعسكرياً – لإيران، كحليف طائفي

لقد ظهر حافظ الأسد طيلة سنوات الحرب العراقية الإيرانية، (1980 – 1988 ) كمستثمر بارع، فهو- من جهة أولى -  لم يخفِ انحيازه المطلق – سياسياً وعسكرياً – لإيران، كحليف طائفي، ولكن تحت شعار انحياز إيران للقضايا العربية والإسلامية، ومعاداة الصهيونية وما يدخل تحت هذا الشعار من عبارات الممانعة الزائفة، ولم يكن حافظ الأسد وحيداً – آنذاك – في هذا المسعى، بل شاطره هذا الموقف العديد من القوى السورية والفلسطينية والعربية التي كانت ترى في الخميني المنقذ أو المخلّص الأكبر، ولعل المفارقة تكمن في أن العديد من هذه القوى ذاتها، ترفع – اليوم – أشدّ شعارات العداء لإيران، دون أي إشارة إلى أسباب هذا التحوّل.

ومن جهة أخرى، فقد برع حافظ الأسد، أيضاً ، في ابتزاز دول الخليج، باعتبار نظام دمشق، حليفاً مُقرّباً من إيران، وقادراً على أن يكون صمّام أمان، وكابحاً لأي اعتداء إيراني على دول الخليج التي كانت مرعوبةً من الخطر الخميني، ومن فكرة تصدير الثورة. وبسبب تبعية قرارها السياسي، وافتقارها لاستراتيجية أمنية وطنية، رضخت دول الخليج – آنذاك – لجميع ابتزازات حافظ الأسد، الذي اعتاش على المال الخليجي طيلة ثماني سنوات. وحين رضخ الخميني ل( تجرّع كأس السم)، بقبوله وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب مع العراق في إيلول 1988 ، كان ذلك كارثة بالنسبة إلى نظام الأسد، الذي أمضى ما يقارب السنتين ونصف، مرّت خلالهما سوريا في أزمة شديدة تجّسدت في جانبين، قطيعة سياسية أوروبية وأمريكية، مع جفاء إقليمي عربي باستثناء نظام القذافي، بالإضافة إلى أزمة إقتصادية خانقة تمثّلت بشح الأسواق السورية من معظم مقومات الحياة، إلّا أن حرب الكويت ( كانون الثاني 1991 )، أتاحت لنظام الأسد أن ينهض من جديد.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ( 1992 )، والاحتلال الأمريكي للعراق ( 2003 ) الذي مكّن النفوذ الإيراني من السيطرة على جميع مفاصل الدولة العراقية، لم يعد اهتمام إيران محصوراً بالهيمنة السياسية والاقتصادية على سوريا فحسب، بل باتت تتطلع إلى التوغل في عمق المجتمع السوري، فبدأت بالأنشطة الهائلة للمراكز الثقافية الإيرانية المتزامنة مع تدفق الأموال الجاذبة للولاءات والذمم، مروراً ببناء الحوزات وحملات التشيّع، وليس انتهاءً بشراء ولاءات كبار الضباط ورؤساء فروع المخابرات، فضلاً عن استثمارات إقتصادية هائلة، وخاصة في مجال الخدمات والسياحة، في مدينة دمشق وريفها.

لا أعتقد أن أحداً من السوريين قد تفاجأ بالدعم الإيراني المطلق لدولة آل الأسد إبان انطلاقة الثورة السورية في آذار 2011 ، فالدولة السورية – وفقاً لطهران – هي امتداد حيوي وإستراتيجي، وبالتالي فإن زوال نظام الأسد من سورية سيفقدها أحد مرتكزاتها الأهم في المنطقة، إلّا أن هذه الرغبة الجامحة بالحفاظ على الحليف العضوي الطائفي في دمشق، قد تزامنت مع رغبة روسية مماثلة من حيث الشكل، ولكنها تختلف في المضامين، ولكن سيرورة الحرب الدائرة في سوريا جعلت الحليفين يؤجلان مضامين خلافهما، نظراً لحاجة كل منهما إلى الآخر، إذ لم يكن بمقدور إيران وميلشياتها الطائفية المستوردة من العراق ولبنان وأفغانستان، أن تحول دون انحسار نفوذ النظام وتآكل قواته وسرعة انهيارها، فكان لا بدّ من الاستعانة بسلاح الجو الروسي في أواخر أيلول 2015 ، والذي أفضى إلى تغيير المعادلة العسكرية على الأرض.

قدرة بوتين على الحسم العسكري، واحتواء معظم أشكال المقاومة المسلحة المناهضة لنظام الأسد، لم تمنحه الاحتواء الكامل للخواتيم السياسية

قدرة بوتين على الحسم العسكري، واحتواء معظم أشكال المقاومة المسلحة المناهضة لنظام الأسد، لم تمنحه الاحتواء الكامل للخواتيم السياسية، ولم يعد الروس قادرين على استثمار مُنجَزهم العسكري كما يريدون، في ظل ضغوط أمريكية تطالب الروس بالمساهمة الفعالة لإخراج إيران من سوريا، الأمر الذي يجعل من حليفي الأمس، خصمي اليوم، تارة بالخفاء، وتارة بالعلن، ولعل القتال الدائر بين الفيلق الخامس التابع لقاعدة حميميم، والفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد،إضافة إلى سعي الروس إلى تحجيم الأفرع الأمنية التابعة للنظام في درعا بسبب هيمنة ميليشيات إيران على نشاطها، أحد تجليات هذه الخصومة التي كانت مؤجلة.

إخراج إيران- كدولة داعمة للإرهاب - من سوريا، يبدو شعاراً مشتركاً لمعظم القوى النافذة في الأرض السورية ( أمريكا – أوربا – روسيا بطريقة ضمنية – دول الخليج )، ولكن على الرغم من الزخم الإعلامي الموازي لهذا الشعار، فإنه يبقى في أعين الكثير من السوريين فرضيةً تفتقر إلى عوامل مصداقيتها، ولعلّ أبرز هذه العوامل هو إدراك جميع الأطراف، وفي طليعتهم واشنطن، بعضوية العلاقة بين إيران ونظام الأسد، وإن فكفكة هذه العلاقة وتجريف الإرهاب الإيراني من سوريا، موازاة مع الإبقاء على نظام الأسد، يبدو أمراً خارجاً عن سياق المنطق السليم، ثم إن دفع بعض الدول العربية باتجاه إعادة علاقاتها الرسمية مع نظام الأسد، بذريعة احتواء بشار الأسد لانتزاعه من أحضان إيران، تزامناً مع مغازلة فاضحة لقوات الحماية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي pyd ، الذي يسيطر على الشمال الشرقي من سوريا، ما هو إلّا انضواء لهذه الدول في سياسة المحاور التي لا تخدم القضية السورية، بل تزيدها تعقيداً، وأعني الدخول في محور خليجي أمريكي قسدي تحت شعار التصدّي للتوغل التركي شرق سوريا. بقي القول: إن العمل على طرد إيران من سوريا، والحفاظ على شريكها العضوي بآن معاً، ما هو إلّا رغبة حقيقية بإطالة أمد الحرب، ومزيد من استنزاف سوريا بشرياً واقتصادياً، وكذلك إسهام مباشر في اتساع وعمق المأساة الإنسانية للسوريين.