إيران في الميزان

2018.07.02 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

الأشهر الأولى للانتفاضة العربية في تونس وليبيا ومصر واليمن، كانت (قناة العالم) الإيرانية تسمّي ما يحدث: /النهضة الإسلامية/ ومحطة (برس تي في) التابعة لها: (the Islamic rise/ الانتفاضة الإسلامية). ما وراء ذلك لم يكن واضحاً. أهو لأنها "دولة إسلامية"، أم لأنها تحمل اسماً إسلامياً، أم أنها فعلاً تعتبر أن هناك نهضة إسلامية!!! معروف أن إيران فشلت في تسويق دولتها على أسس وخطط دينية، تماماً كما فشلت إسرائيل في تسويق الكيان الصهيوني تحت اسم (الدولة اليهودية)، وتماماً كما حصل في فشل "داعش" في تسويق "الدولة الإسلامية في العراق والشام".

ما إن بدأت الأحداث في سورية، حتى شعرت إيران بالإرباك باستخدام مصطلح "النهضة الإسلامية"، وسعت فوراً إلى إلغائه واستبداله بـ"الإرهاب" إعلامياً؛ كما أنها عملت على شيطنة ذلك الحراك الاجتماعي السلمي في سورية، وبرمجت السلطة هناك لاستخدام مفردات كـ "الطائفية والإرهاب والخيانة والعمالة والمؤامرة". ومعروف أيضاً كيف أُخذ إعلام النظام على حين غرة تجاه ما يحدث، وما أصابه من إرباك وتعثر؛ فما كان من إيران إلا أن استلمت زمام الأمور، وسعت إلى إدارتها ليس فقط تخطيطياً واستراتيجياً وعسكرياً واقتصادياً بل حتى إعلامياً عبر زج عملائها في الإعلام اللبناني ليحتلوا المنابر ويرافعوا عن النظام المتعثر في وجه ثورة شعبية.

قاد الإيرانيون الأمور من الألف إلى الياء وتعهدوا المسألة عبر ما سموّه علناً "استشارات"، إلى إدخالهم حزب الله وقوات عراقية؛ وصولاً إلى تنفيذ قواتهم عملية الاحتلال في المناطق التي يدعي النظام أنه يسيطر عليها.

بالعودة إلى التاريخ قليلاً وبرصد شكل العلاقة التي أرادها حافظ الأسد مع إيران، وكيف تطورت لتكون على ماهي عليه في عهد وريثه، كانت العقدة بالنسبة لحافظ الأسد أقليته وطائفيته. الأمر لم يكن مشكلة بالنسبة لسورية، وخاصة أنها اعتادت على ذلك تاريخياً (سلطان الأطرش وفارس الخوري وغيرهما أمثلة صارخة على تحمل سورية لهذه المسألة)، أما بالنسبة للأسد، فلابد أن ذلك كان عقدة لابد من تجاوزها.

عندما كان لبنان ساحة مستباحة؛ والأسد الأب هو المتعهد الأساس للقوى المتواجدة على الساحة، كان غير مسموح أن يزاحمه أحد على ذلك التعهد؛ وخاصة بعد إزاحة سعد حداد وأنطوان لحد و"اتفاق 17 أيار" من الطريق.

لم تكن حرب تشرين التعميدية المتفق عليها كافية لتجاوزه تلك العقدة، وما كانت طروحاته القومية الخلابة إلا زيفاً اتضحت طبيعته بالممارسة الإقليمية الضيقة؛ فقرر أخيراً أن يترفع عن المسألة إعلانياً وظاهرياً وكلامياً، ولكنها بقيت في داخله تأكل شرعيته. أتاه الفرج عبر نصيحة من (موسى الصدر)، الذي اقترح عليه عام 1973 لقاء الخميني؛ حيث كان الأخير في العراق. ومنذ ذلك الوقت بدأت علاقته بما سيصبح "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" وذلك عبر بناء حلف شيعي- علوي غير معلن يغطيه شعار "المقاومة والممانعة" والتي أزاحت عقدة الأسد.

قبل انتفاخ لعبة "المقاومة والممانعة" الخبيثة، مرت العلاقة بعد مجيء الخميني إلى السلطة عام 1979 بمراحل مد وجزر. صحيح أن الأسد وقف مع إيران في حربها مع بلد عربي متحدياً مشاعر الدول العربية والإسلامية وجماهيرها وشعارات القومية العربية، إلا أن التجاذب والتنابذ بين الشريكين كانا واضحين. قبيل عام اثنين وثمانين، وعند الحاجة الماسة لإيجاد وكلاء غير "سعد حداد" و"أنطوان لحد" في الجنوب اللبناني أراد الأسد أن يكون له اليد العليا في تشكيل ميليشيا تقوم بالواجب المكلف به في حماية الشمال الإسرائيلي المهدِّد بالخطر كما ذكر "بن غوريون" في مذكراته... إيران من جانبها، وعبر الأموال التي كانت تضخها، وبحكم شيعيتها وشيعية الميليشيا التي كانت تنوي إنشاءها؛ أرادت أن تكون يدها العليا.

عندما كان لبنان ساحة مستباحة؛ والأسد الأب هو المتعهد الأساس للقوى المتواجدة على الساحة، كان غير مسموح أن يزاحمه أحد على ذلك التعهد؛ وخاصة بعد إزاحة سعد حداد وأنطوان لحد و"اتفاق 17 أيار" من الطريق. كان على إيران (وكجزء من تمدد مشروعها الذي أطلق عليه العاهل الأردني " الهلال الشيعي") إما أن تتكابش مع الأسد الأب أو تنسق معه. وكان الخيار الأخير، الذي طوّر علاقة متكافئة بينهما. كانت ذروة الصراع بينهما عام 86 مع اندلاع حرب بين "حزب الله" و"حركة أمل" المنتميان إلى شريحة واحدة، ولكن لمرجعيتين مختلفتين؛ وكانت الغلبة لـ"أمل" وللمرة الأخيرة، حيث دخل الأمريكيون على الخط بعد خطف حزب الله لرهائن أمريكيين، كان الأسد عرّاب خروجهم من الارتهان.

ترك الأسد الأب مسافة بينه وبين الإيرانيين لإحساسه الغريزي بأن هيمنته على لبنان قابلة لمواجهة المخاطر، فإيران تنشط بشكل رهيب ضمن المكون الشيعي في الجنوب، وتضخ أموالاً لا قدرة لديه على مجارتها... كان لابد من التنسيق المشترك ولكن لا غلبة لجانب على آخر، رغم الضيق الذي كان ينتابه بأن إيران تتمدمد في حديقته الخلفية (لبنان).

الوضع على هذا الحال حتى عام 1998 عندما سعى الأسد الابن_ ربما برغبة من أبيه كي يجرَبه، أو بلعبة من مكان ما، أو الاثنين معاً_ إلى سحب ملف لبنان من يد عبد الحليم خدّام. كانت حالة عدم الارتياح واضحة بين الأسد الابن وخادم والده "خدّام،". عام (2000)، ومع وفاة الأسد الأب، أضحى الملف اللبناني بالمطلق بيد الأسد الابن؛ وهذا جعل خدّام يفقد توازنه ويشعر بالخطر، وما كان أمامه إلا أن يسلمّ بتسمية الأسد الابن رئيساً ويسعى إلى تخريب ما بين يديه عبر خوف وانعدام خبرة الأسد الابن الرئيس الجديد.

خلال أعوام (98 و99) وأول (2000)، أضحت مرجعية الأسد الابن في لبنان (حزب الله)، وأصبحت مرجعية حزب الله في دمشق الأسد الابن؛ وكل ذلك بتخطيط وتنسيق إيراني عالي المستوى، ورغم النصائح بالابتعاد أو حتى التوازن؛ ولكن نظراً لضعف قدرات الأسد الأب في أيامه الأخيرة، وعقدته في الاستمرار بحكم سورية أبدياً؛ لا بد أنه لم ير بداً من وجود ظهير إقليمي يدعم ابنه. وكانت تلك فرصة إيران في التمدد وفي شراء سورية عبر ضخ أموال طائلة وشراء ذمم المؤثرين حول بشار. ولابد من القول ها هنا بإن اللواء محمد ناصيف الذي كان يحفظ دماغ حافظ الأسد عن ظهر قلب قد سعى إلى إنجاز الأمر بأقل الخسائر على طريقة ما يحدث للقنافذ في فصل الشتاء؛ فهي إن التصقت ببعضها البعض، تؤذي نفسها بشوكها؛ وإن تباعدت، تبرد. حافَظَ محمد ناصيف على هذا التوازن؛ ولكن ذلك ما كان مشبعاً لإيران؛ فتمدد حزب الله، وأصبح القوة التي لا يقف أحد في وجهها في لبنان - حتى الحريري - وبدأ ابتلاع سورية بشار.

كانت 2011 هدية من السماء بالنسبة لإيران، لتضع يدها بالمطلق على بشار الأسد. أتى (جليلي) المسؤول الإيراني حاملاً خطة (الستار الحديدي) مباشرة بعد اندلاع الحراك في درعا؛ ووضعها بين يدي بشار الأسد الذي كان مربكاً جداً. صعب أن تُنسى تلك التصريحات التي أطلقتها مستشارته السياسية وفيها الكثير من الوعود التي نسفتها بالمطلق خطة الجليلي "الستار الحديدي". مباشرة دخلت مفردات "المؤامرة" و"الطائفية" و"الإرهاب" في المعادلة؛ وبدأ الضرب بيد من حديد لكل صوت يخرج. عبر اعتماد خطة "الستار الحديدي" تم إلغاء أي رأي عاقل أو نصيحة عربية أو إقليمية. حتى خلية الأزمة التي كانت تبحث عن حل من نوع ما، تمت تصفية أهم اثنين فيها: آصف شوكت وحسن وتركماني.

انفردت إيران بالساحة، وزجت بمستشاريها وبقوات ميدانية من حزب الله والعراق في المعركة مباشرة؛ وليس بعد ستة أشهر من بدء الحراك في سورية، كما أُشيع. كل قرار أو رأي أو خطوة أو إجراء تم اتخاذه، كانت يد إيران فيه هي الطولى.

انفردت إيران بالساحة، وزجت بمستشاريها وبقوات ميدانية من حزب الله والعراق في المعركة مباشرة؛ وليس بعد ستة أشهر من بدء الحراك في سورية، كما أُشيع. كل قرار أو رأي أو خطوة أو إجراء تم اتخاذه، كانت يد إيران فيه هي الطولى. كان أهم ما أججته إيران في سورية هو الحالة الطائفية مستخدمة ماكينات إعلامية خبيرة أخذت زمام الرسالة الإعلامية من الأيدي المحلية المربكة المهزومة، واستقدمت أبواقاً لبنانية مدربة ومستعدة لهذه اللحظة منذ زمن. وصلت الأمور بإيران أن تضع على لسان حزب الله عبارة مفادها أنه "لولا حزب الله لسقط النظام"، وذلك بعد "القصير". وما كان حزب الله ليجرؤ على إطلاق عبارة كهذه لو لم يكن لإيران أغراض سياسية بعيدة المدى في هذا المجال.

كانت آخر حلقة في مخطط إيران خروجها العلني عبر التواجد في الجولان السوري شخصياً؛ لتقول لإسرائيل: "ها نحن على حدودكم؛ لابد لمشروعنا النووي أن يُفكرَّ به بطريقة مختلفة". وفي المواجهة الأخيرة مع الثائرين على النظام في القنيطرة وحوران، لن تجد إلا قوات إيرانية ومن حزب الله فقط. ربما رسالة إيران الأخرى لإسرائيل تقول: "لنتقاسم النفوذ في بلاد العربان". وهناك رسالة إيرانية أخرى للعالم تقول: "أيها العالم؛ إضافة للمشروع النووي، المسألة السورية، وبشار باليد الإيرانية.. نحن المرجعية".

معروف أن "أوباما" دلًل الملالي وكأنهم أهله، فكان أن مرر لهم صفقة النووي. هنا استشعرت إسرائيل أن الثمن الذي دفعه الملالي ليس كما يجب. بدأ الأمر بعلاقة متوترة بين أوباما ونتنياهو. كرس الأخير معظم "سياسته" الخارجية على نسف هذا الاتفاق- حتى عبر مداخلة في الأمم المتحدة حول خطورة نووي إيران- في تلك الأثناء استفحل التمدد الإيراني في سورية؛ ولا أحد يحرك ساكناً تجاه الموضوع؛ لتتحول إيران في سورية إلى /الآمر الناهي/.

يأتي عهد ترامب، ويتم فتح ملف إيران في سورية على مصراعيه، لا حمايةَ للسوريين من نار الملالي، ولكن لنسف المشروع النووي. يُخرج ترامب أمريكا من الاتفاق مقدماً رزمة من الأسباب، ورزمة شروط أمريكية مهينة للملالي؛ وتبدأ حملة إخراج إيران من سورية؛ أو على الأقل إبعادها عن حدود الجولان السوري المحتل عشرات الكيلومترات. في تلك الأثناء وبضوء أخضر روسي كانت مواقع إيران في سورية هدفاً لطائرات إسرائيل. يبدأ الشقاق الفعلي بين القوتين الحاميتين لنظام الاستبداد في دمشق، وتداعياته غير معروفة المآلات تماماً حتى الآن؛ ولكن المؤكد هو أنها لن تكون كما سبق؛ فالعلاقة مع إسرائيل وأمريكا حتماً أغلى على قلب بوتين من علاقة مع إيران يقف العالم في وجه حقارتها باستثناء بعض الانتهازية الأوربية.

ويبقى السؤال، متى يعتبر أهل سورية معارضة وموالاة إيران قوة عدوان واحتلال لسورية.

وعربياً، متى يأتي العربان إلى نجدة سورية وأهلها قبل أن يصل المرض الإيراني غرف نومهم؟ لا انسجاماَ مع ما تريده إسرائيل، لأنه، إذا تصرف الملالي ما يروق لإسرائيل (وهم جاهزون) فلن يضيرها تفشي المرض الإيراني في ديار أعدائها الأساسيين. وإقليمياً، أيضاً، على تركيا أن تعرف أن ما يتم هو على حسابها في جزء كبير منه. وأخيراً، دولياً، إذا كان العالم جاهزا ليتحمل احتراقاً لا ينتهي في منطقة الشرق الأوسط وحول آبار النفط تحديداً، فليستمر بصمته ومداراته وسكوته على إيران. وإن كان يتطلع إلى نهاية للإرهاب، فالوقوف في وجه مشروع إيران الجهنمي هو الخطوة الأولى لوقف هذا الجحيم.