إلى من تهمّه العدالة

2019.02.20 | 00:02 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يرى البعضُ أنّ الحقيقة بالنسبة لأيّ منّا، ليست إلّا مقدار معرفتنا بما تبدّى لنا من جوانبها المختلفة، وأنّ قلّة منّا تلتزم حدود التواضع ولا تدّعي الإلمام بكلّ مفرداتها، وثمّة من يعتقد بأنّ الحقيقة أعقدُ كثيراً من أن يدركها أيُّ كان حيّ، لكن بالمقابل، ثمّة من يعتقد بأنّه يمتلك الحقيقة ويضع يده عليها وينطق بها.

أثارَ خبرُ اعتقال الشرطة الألمانيّة قبل أيّام معدودة ضابطاً وصفّ ضابطٍ منشقّين عن قوّات النظام السوري، قريحة من يعرف ومن لا يعرف للحديث عن المسألة، بل والغوص في حيثّيات اعترافات المقبوض عليهما، وتحليل أسبابها وتداعياتها، والتكهّن بما ستصل إليه من نتائج قضائيّة تحقيقات المدّعي العام الألماني معهما. أكثر من ذلك ثمّة من بدأ ينشر معلومات عن اعترافات قدّمها المقبوض عليهما، أدّت بدورها إلى القبضِ على أشخاص آخرين، وكأنّ الناشر كان حاضراً مع النائب العام عند مباشرته إجراءات التحقيق، أو كما نقول بالعاميّة المحليّة (مِتْراكين الوسايد!).

نصف وجهة النظر كانت الأكثر حذراً والأقلّ ثقة في طبيعة ما يجري، وبالتالي الأهدأ صخباً في إطلاق الأحكام والمواقف

طبعاً لا ينسى المرء الكمّ الهائل من الآراء الشخصيّة والتمنّيات التي ملأت فضاء وسائل التواصل الاجتماعي، كما لا ينسى حجم التشفّي وحجم الإهانات الموجّهة ليس لهما فحسب، بل ولكلّ ضابط أو موظّف انشقّ عن النظام السوري في يوم من الأيام، كذلك حجم الشتائم والمسبّات بأقذع العبارات التي طالت أُسر الموقفين وأعراضهما، والطامّة الكبرى تكمن في أنّ بعضاً من أبطال هذه الملاحم ممن يحسبون أنفسهم مدافعين عن حقوق الإنسان.

بدا للمراقب لمجمل ردود الأفعال الصادرة بشكل عام حول هذا النوع من القضايا، توزّعها بين وجهتي نظر ونصف. وجهة النظر الأولى تعتبر الحدث نصراً للعدالة، باعتبار أنّ أي شيء على طريق محاسبة أحدٍ ممن ارتكب انتهاكات بحقّ أي إنسان، هو أمر جيّد وخطوة في الاتجاه الصحيح. أمّا وجهة النظر الثانية فتعتبر أنّ المقبوض عليهما كانا قد عبّرا عن موقفهما الفعلي من الثورة باكراً بانشقاقهما عن النظام، بل أكثر من ذلك بانحيازهما لثورة الشعب السوري المحقّة والعادلة، وبالتالي فإنّ توقيفهما خطوة في الاتجاه الخاطئ، لأنها تأخذ على أيدي الأشخاص غير المذنبين، بينما يفلت المجرمون الحقيقيون من العقاب.

نصف وجهة النظر كانت الأكثر حذراً والأقلّ ثقة في طبيعة ما يجري، وبالتالي الأهدأ صخباً في إطلاق الأحكام والمواقف. ويزعم كاتب هذه السطور أنه من أصحاب نصف وجهة النظر هذه، وينطلق في تحليل طبيعة هذا الأمر من اعتبارات عدّة، بعضها وأهمّها اعتبارات قانونية، وبعضها اعتبارات أخلاقيّة، وبعضها الآخر سياسيّ الطبيعة.

لاعتبارات السياسة، يجب البقاء على حذر تامّ في اتخاذ مواقف من هذا القبيل، فرئيس جهاز الأمن الوطني السوري علي مملوك – الذي يمكن اعتباره الرجل الثاني في التسلسل الهرمي بالمسؤولية الجنائيّة المحتملة عن الجرائم ضدّ الإنسانيّة وجرائم الحرب المرتكبة في سوريا بعد بشّار الأسد - كان قد سافر مرّة واحدة على الأقل إلى أوروبا، والتقى العديد من المسؤولين الأوروبيّين والإقليميّن في العديد من المناسبات. إذن ليس من الحكمة في شيء إطلاق تكهّنات من قبيل أنّ قطار العدالة الدولية بات على السكّة لمجرّد اعتقال هذين الشخصين، ولنا في الرئيس السوداني عمر البشير عبرة سيّئة، وهو الذي صدرت بحقّه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائيّة الدوليّة.

للاعتبارات الأخلاقيّة، علينا الحذر أكثر في إطلاق المواقف والآراء، فقد ثبت بالدليل القاطع أنّ كثيراً من المحسوبين على الثورة - بعد عودتهم إلى حضن النظام - كانوا عملاء مخبرين خرجوا لأداء مهامّ محددة، وعند انتهاء مهامهم عادوا إلى مواقعهم الطبيعيّة. كذلك يعرف كثيرون منّا أن نسبة لا بأس بها من العاملين في صفوف النظام حتى الآن، لم يشارك أعضاؤها في سفك الدماء، ولم يقبلوا بما فعله ويفعله بحق السوريين. كذلك علينا أن نتوخّى الحذر في إطلاق التصنيفات على الأفراد، فحقيقة صحّة أحكامنا تتعلّق وتتحدّد بمدى سعة وشمول وكثافة ودقّة معلوماتنا عنهم، والأقلُّ خطراً في مثل هذه الحالات تقييم المواقف لا تقييم الأشخاص، فالمواقف تكون غالباً أكثر وضوحاً وقابليّة للقياس والمحاكمة تبعاً للظروف التي صدرت فيها وتبعاً للسياق الذي حصلت ضمنه، وبالتالي يمكن إطلاق أحكام القيمة عليها بثقة أعلى وباقتراب أكبر من الموضوعية.

للاعتبارات القانونيّة علينا أن نكون أكثر حذراً وأشدّ حرصاً كذلك، وهذا كلّه من مقتضيات العدالة أساساً، ومن مقتضيات احترام حقوق الإنسان التي نتحدّث جميعنا بها، ونعتبر أنفسنا قد قمنا بثورة من أجل الوصول إلى الاحترام الكامل والتطبيق الفعلي لها.

لقد غابت عن ذهن كثير منّا، قاعدةٌ أساسيّة موجودة في كل دساتير العالم، وفي القانون العرفي الدولي، وهي تلك التي تقول بأن كلّ متهم بريء إلى أن يدان بحكم قضائي مبرم.

تنص المادة (11) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ما يلي:

  1. كلُّ شخص متَّهم بجريمة يُعتبَر بريئًا إلى أن يثبت ارتكابُه لها قانونًا في محاكمة علنية تكون قد وُفِّرت له فيها جميعُ الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه.
  2. لا يُدان أيُّ شخص بجريمة بسبب أيِّ عمل أو امتناع عن عمل لم يكن في حينه يشكِّل جُرمًا بمقتضى القانون الوطني أو الدولي، كما لا تُوقَع عليه أيَّةُ عقوبة أشدَّ من تلك التي كانت ساريةً في الوقت الذي ارتُكب فيه الفعل الجُرمي.

يعني مقتضى هذا المبدأ، أنّ أي شخص يتمّ توقيفه أو توجيه تهمة ما له أو الحكم عليه حتى، لن يُصبح مداناً، إلى أن يستنفد طرق الطعن كلّها أمام المحاكم التي تتوفّر على الضمانات الحقيقيّة لإجراء محاكمة عادلة بما فيها العلانية والتقاضي على درجات والحق الكامل في الدفاع عن النفس. فلا مبرّر إذن للعجلة في اتخاذ المواقف وإعلان النتائج وإطلاق الأحكام، يجب أن نترك الأمر لأهله، وبعد ذلك لنا أن ندلي بآرائنا.

بقي أن نقول إنّ العدالة الجزائيّة ليست مطلقة، ولم يصل البشر في أي يوم منذ بدء الخليقة، إلى القناعة التامّة بأنّ ما يقومون به يشكّل العدالة المطلقة، لهذا كانت تتمّ الإحالة دوماً، إلى العدالة الإلهيّة عبر المعتقدات والأديان المختلفة. فعلى سبيل المثال، قد يثبت أمام القضاء الألماني – الذي لا يوجد من يشّك بنزاهته واستقلاليته وحياديّته - أنّ أحد الموقوفين المذكورين أو كلاهما، بريء مما نُسب إليه من تُهم، لكن لا يعني هذا الأمرُ مطلقاً بأنهما لم يرتكبا أيّة انتهاكات بحقّ أحد من السورييّن أثناء فترة عملهما، كما أنّ إدانتهما بالتهم المحددة المنسوبة إليهما، لن تعني أنّهما كانا قد ارتكبا الانتهاكات والجرائم في كلّ عمل أو سلوك أو تصرّف أو قرار اتخذاه من موقع مسؤوليتهما عندما كانا على رأس عملهما قبل الانشقاق عن النظام السوري.

للاعتبارات الأخلاقيّة، علينا الحذر أكثر في إطلاق المواقف والآراء، فقد ثبت بالدليل القاطع أنّ كثيراً من المحسوبين على الثورة - بعد عودتهم إلى حضن النظام - كانوا عملاء مخبرين

ثمّة عبارة يعرفها المحامون والقضاة وأساتذة الحقوق تقول بأنّ: "الأحكام القضائيّة هي عنوان الحقيقة في القضايا التي بتّت فيها بلزوم". ومقتضى القول إنّ ما يحوز هذه الحجيّة المطلقة في اعتبارات القانون هو ما تمّ البحث به بشكل مفصّل ودقيق ولازم للبتّ بالقضية المعروضة، أمّا ما تتطرّقُ إليه أحياناً بعض الأحكام القضائيّة من مسائل لا لزوم لها للبتّ في المعروض عليها من قضايا، فهي ليست حجّة على الكافّة، ويمكن إثارتها مجدّداً وإعادة البحث فيها. كمثال على ذلك يمكن طرح مسألة التطرّق إلى ملكيّة منزل ما أو متجر ما بشكل عرضي في حكم جنائي ما، فهذا الحكم لا يمكن اعتباره مستنداً نهائياً قاطعاً يحدد ملكية هذا المنزل أو المتجر.

إضافة إلى ذلك كلّه، ثمّة من يشكّك أساساً في مفهوم العدالة ذاته وفي مدى اقتدار الأنظمة الوضعية على تحقيقه، ويسوق أصحاب هذا الرأي لمساندة حججهم بعضاً من تلك الأحكام القضائيّة التي ثبت بعد أعوام على صدورها وتنفيذها أنّها كانت جائرة، أو غير مبنيّة على أسس صحيحة، وبالطبع ما تمّ اكتشافه كان في الدول الديمقراطيّة التي تحتمل أنظمتها السياسية والقانونية إمكانية الكشف عن هكذا أخطاء بشريّة.

قد تكون بعض المسائل التي يمكننا الحديث عنها أو طرحها صادمة للكثيرين بكلّ بساطة، وقد لا يتقبّلها عقل البعض أو قلبه ووجدانه، لكنّها تبقى حوادث ومواقف وقضايا موضوعيّة، شئنا ذلك أم أبينا. من بعض هذه المسائل الهامّة على المستوى الوطني، التدنّي المُخجل في المستوى الاحترافي القانوني – وفق المعايير الدوليّة على الأقلّ - لعمل الغالبيّة العظمى من المنظّمات الحقوقيّة السورية، العاملة في شأن حقوق الإنسان، وجمع الأدلّة على الانتهاكات المرتكبة في سوريا، منذ انطلاق الثورة السوريّة وحتى اليوم. لا يعرف كثير من العاملين في هذا الحقل القانوني الشائك التمييز بين القانون الإنساني الدولي وبين القانون الدولي لحقوق الإنسان، والبعضُ لهم أسماءٌ رنّانة، ومنهم من يُشار إليه بالبنان. لم تستطع عشرات المنظّمات العاملة بهذا الشأن على مدار السنوات الثماني المنصرمة، تأسيس مركز واحد قادر على بناء ملفّ قضيّة جنائيّة وفق معايير المحكمة الجنائيّة الدولية، أو وفق معايير أيّ قانون جنائي في أيّ دولة يأخذ نظامها القانوني والقضائي بمبدأ الولاية القضائيّة العالميّة.

لن يكون إثبات هذا الزعم مدار بحثنا أو نقاشنا الآن، لأنه يحتاج إلى أكثر من مقال وإلى أكثر من وجهة نظر، ومبادئ العدل والمنطق والتواضع أيضاً، تفرض علينا حصر الحديث بحدود معرفتنا في هذا المجال، وتتطلّب منّا عدم الانسياق بعيداً في السبيل الذي سلَكَهُ من ننتقدهم، فيما ذهبوا إليه من تعميم وأحكام مطلقة.

خلاصة القول: ليس كلّ ما يلمعُ ذهباً، فليس كلّ ما نقرؤه أو نسمعه أو نشاهده، أو حتّى ما نقوم به بأنفسنا حقيقيّ بشكل مطلق ودائم. علينا أنّ نتعلّم الإنصات حيث يجب ذلك، علينا أن نتعلّم بذل بعض الجهد لتحرّي الحقائق، علينا ألّا نستسهل إصدار الأحكام وإلقاء التقييمات جزافاً دون معرفة أو دراية بالموضوع الذي نتحدّث به، علينا بكلّ بساطة أن نتواضع بعض الشيء. رحم الله الشيخ المكين ابن العميد إذ قال:

 ملأى السنابل تنحني بتواضع      والفارغات رؤوسهنّ شوامخ.