إلى متى يبقى السوريون: "الإخوة الأعداء"؟!

2018.12.25 | 23:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

عاش السوريون حرباً باردة شنّها نظام البعث على المجتمع والدولة منذ انقلابه عليهما واستلامه السلطة سنة 1963. تلك الحرب، كانت على أكثر من جبهة داخليّة؛ سياسيّة، اقتصاديّة، ثقافيّة، إعلاميّة، تربويّة، قانونيّة...، ارتدت لبوس حالة الطوارئ والأحكام العرفيّة التي بدأت في نفس سنة انقلاب البعث على السلطة، واستمرّت حتى اندلاع الثورة السوريّة على نظام البعث - الأسد. خلال هذه الحرب، اندلعت حروب خارجيّة أخرى سنة 1967، 1973، 1982 أضافت المزيد إلى ويلات المواطن السوري وبؤس أحواله.

صحيح أن الثورة السوريّة على نظام الأسد الابن أجبرت الأخير على إعلان وقف العمل بقانون الطوارئ والأحكام العرفيّة، إلاَّ أنه جعلَ الحربَ الوحشيةَ بديلاً عن حربه الباردة على السوريين، تلك الوحشية التي كلّفت السوريين خسائر في الأرواح والأموال ما يزيد ويفيض عن خسائر السوريين في كل الحروب التي مرّوا بها مع الإسرائيليين والفرنسيين وقبلها مع العثمانيين. هذه الحرب الشنيعة التي ما زالت مستمرّة، أفرزت حروباً جانبيّة، النظام السوري من جهة، والقوى الإقليميّة من جهة أخرى، كانت ضالعة في اختلاق أسبابها وإذكاء أحقادها. ومعلوم أن أوّل الضحايا في أيّة حرب، هي الأخلاق، وثاني الضحايا هو العقل، فمع غياب الأخلاق والعقل، تسود الغرائز، وتستفحل الأحقاد، ويزداد منسوب الانحطاط، وتشتد سلطة الحضيض وقانون الغاب بين البشر. فضلاً عن ذلك، تتفاهم التشوّهات السياسيّة والثقافيّة، بحيث تنقلب المبادئ، وتسود ازدواجيّة المعايير،

فشلُ الأكراد في إقناع العرب بأن قضيتهم وطنيّة وعادلة وديمقراطيّة، ضمن الفضاء والإطار الوطني السوري. وفشلُ المعارضة في فهم أحقيّة مطالب الكرد، بوصفها حقوقا وطنيّة وسياسيّة مشروعة وعادلة منصوص عليها في القوانين والأعراف الدوليّة

والانتقائيّة في التقييم وتحوير المفاهيم وفق مقتضيات المصلحة والمنفعة الشخصيّة أو الحزبيّة أو القوميّة أو الدينيّة والطائفيّة. لكن، رغم ما سلف ذكره، ومهما تأجج سعير الأحقاد والكراهيّات القوميّة والدينيّة والطائفيّة...، التي هي وقود أيّة حرب، تبرز ضرورة وأهميّة الاحتكام للعقل، بهدف محاولة كبح ولجم الغرائز والأحقاد، وصولاً إلى الخروج من أنفاق ومستنقعات الحروب بأقلّ الخسائر الممكنة.

الواقع السوري، بكل ما فيه من مآسٍ وويلات وكوارث، صار محكوماً بما يمكن تسميته "قانون الفشل". فشلُ النظام في أن يكون نظاماً، يدير دولة ومجتمع. وفشلُ المعارضة في أن تكون معارضة، قادرة على تغيير النظام بالسبل السلميّة، والعنفيّة أيضاً، أو أقلّه تكون متجاوزة لأساليب وذهنيّة وأعراف وتقاليد النظام. فشلُ العلمانيين في ألاّ يكونوا مطايا وأتباع الإسلاميين. فشلُ الأكراد في إقناع العرب بأن قضيتهم وطنيّة وعادلة وديمقراطيّة، ضمن الفضاء والإطار الوطني السوري. وفشلُ المعارضة في فهم أحقيّة مطالب الكرد، بوصفها حقوقا وطنيّة وسياسيّة مشروعة وعادلة منصوص عليها في القوانين والأعراف الدوليّة. كذلك فشلُ المعارضة في إقناع الكرد بأنها ليست صدًى لرؤية وذهنيّة النظام أثناء التعاطي مع الملفّ الكردي في سوريا، وأن المعارضة لا تنظر إلى هذا الملف بالمنظار التركي! فشلُ الإسلاميين السياسيين في الإقناع بأنهم براء من إنتاج قوى التطرّف والإرهاب الإسلاموي. وفشلُ النظام بأن يكون وطنيّاً، لا يرهنُ قراره وإرادته للخارج الأجنبي (روسيا، إيران)، وفشل المعارضة بأن تكون وطنيّة، لا ترهنُ إرادتها وقرارها للأجنبي (أميركا، تركيا، قطر، السعوديّة...). هذا الفشل المتبادل والذي استولد بعضه بعضاً، كان وما زال يخلق وينتج مبررات وجود الأطراف الضالعة فيه. وسط هذا الفشل العام المبرم الذي يُحكمُ حصارهُ على الجميع، الكل يتحدّث عن انتصاراته، وهم المهزومُون أخلاقيّاً وسياسيّاً وميدانيّاً.

هذا ما نحن عليه كسوريين، عرباً وكرداً، نظاماً ومعارضة. أو هكذا أرى أحوالنا كسوريين، بحيث ننظر بعين العداوة لبعضنا البعض، ونعتبر عدو الطرف - المكوّن - الشريك الآخر، هو الصديق أو الحليف لأنفسنا. فصار السوري الإسلامي يرى تركيا ونظامها أقرب إليه من شقيقه السوري الكردي أو العلماني. وصار بعض الكرد ينظرون إلى النظام على أنه أفضلُ من تركيا ومن المعارضة الموالية لها. ويبدو أن الحروب التي عشناها، لم تكن كافية، حتى نجد أنفسنا منهمكين في إضافة حروب جديدة، ليست حروبنا، بل حروب الآخرين على أرضنا، نحن أوّل وأبرز ضحاياها، ووقودها أيضاً.

شَمَتَ الكثيرُ من المعارضين السوريين بـ"قوات سوريا الديمقراطيّة" على خلفيّة قرار ترامب؛ الانسحاب من مناطق شرقي الفرات، على أن ذلك غدر بالأكراد من قبل الداعم الأميركي. وهذا صحيح. ولكن الصحيح أيضاً، أن هؤلاء الشامتين لا يتخذون من هذه الحادثة درساً لهم أيضاً على أنه سيأتي اليوم الذي ربما تتخلّى فيه تركيا وقطر عنهم، لصالح الانفتاح على النظام والتصالح معه. ومؤشّرات ذلك، باتت تلوح في الأفق. كذلك يتناسى هؤلاء الشامتون أنهم قضوا هذه السنوات السبع في إقناع الأمريكيين بدعمهم، وحلولهم محلّ "قوات سوريا الديمقراطيّة"، وفشلوا.

كذلك أنصار حزب الاتحاد الديمقراطي و"قوات سوريا الديمقراطية" كانوا يشمتون بـ "الباصات الخضراء" التي كانت تقلّ عناصر وعوائل المقاتلين في الفصائل الإسلاميّة المسلّحة المعارضة للنظام، ولم يحسبوا حساباً أنهم ربما يدخلون في مرحلة أصعب من تلك التي دخلها مَن كان على متن تلك "الباصات الخضراء"، وفي تلك المحنة الإنسانيّة العصيبة.

وسط هذه الأجواء المسمومة وهذه التمزقات الأهليّة والاجتماعيّة - السياسيّة - الإيديولوجيّة التي تعيشها سوريا، ما زال كل طرف من الأطراف المتصارعة متمترساً في خندق حليفه أو داعمه الخارجي (الأجنبي)؛ الإقليمي أو الدولي. كل طرف ينظر للشريك الوطني السوري بنظّارات الجهة الإقليميّة الداعمة له. كل طرف معتصم بدوغمائيّته القوميّة والسياسيّة والطائفيّة، ويريد فرض الهزيمة على الطرف الآخر، مهما كانت الكلفة. كل طرف لا يعتبر هزيمةَ الشريك هزيمةً له، أخلاقيّاً وسياسيّاً وإنسانيّاً أيضاً. ولا أحد يسأل: كيف يمكننا أن نجنّب المنطقة المزيد من الحروب؟! كيف يمكننا اعتبار سياسة منتصف الطريق؛ سياسة لا غالب ولا مغلوب، أسَّ وأساسَ الحوار الوطني للخروج من هذا الاختناق والانسداد القاتل؟! ذلك أن حزب الاتحاد الديمقراطي، غير مستعدّ لخلق نظّارات حزب العمال الكردستاني، أثناء النظر لسوريا وتركيا والمعارضة السوريّة، حتى لو انطبقت السماء على الأرض، وحاله هنا، كحال حزب معارضة تركيّة أكثر من كونه حزباً معارضاً لنظام الأسد. كذلك المعارضة السوريّة الموالية لتركيا، العسكريّة والسياسيّة، غير مستعدة للتخلّي عن النظّارات التركيّة أثناء النظر للقضيّة الكرديّة بشكل عام، وقضيّة العمال الكردستاني بشكل خاص، ولا تريد التخلّي عن وهم أن مشكلة تركيا مع هذا الحزب، هي المشكلة المصيريّة أو العقدة المصيريّة الوجوديّة للمعارضة السوريّة، أيضاً حتى ولو انطبقت السماء على الأرض!

من الكارثي والمرعب ألاّ نرى ولا نسمع صوتاً مختلفاً ضمن حزب الاتحاد الديمقراطي، يشذّ عن خطاب ورؤية العمال الكردستاني، وتحالفاته الإقليميّة. كذلك من الكارثي

عندما ينتقد حزب الاتحاد الديمقراطي المعارضة السوريّة أنها طوع أمر وقرار الداعم التركي، وهذا صحيح، هذا الحزب، يتناسى أنه طوع أمر وقرار العمال الكردستاني ومشاريعه أيضاً

والمرعب ألاّ نرى ضمن المعارضة السوريّة أصواتاً جريئة تطالب أنقرة بعدم اعتبار المقاتلين السوريين بنادق تحت الطلب، وأن الفصائل السوريّة المسلّحة ليست "ميليشيات انطوان لحد" التي كانت تقاتل اللبنانيين والفلسطينيين المعارضين لإسرائيل. لا أحد يسأل؛ ما ذنب المقاتل السوري المعارض لنظام الأسد، أن يذهب ضحيّة صراع تركي - كردي عمره 100 سنة تقريباً. ولا أحد يسأل: لماذا؟ ولمصلحة مَن، إراقة دم المقاتل الكردي في صراع مع المعارضة السورية؟!

عندما ينتقد حزب الاتحاد الديمقراطي المعارضة السوريّة أنها طوع أمر وقرار الداعم التركي، وهذا صحيح، هذا الحزب، يتناسى أنه طوع أمر وقرار العمال الكردستاني ومشاريعه أيضاً. وعندما تتهم المعارضة النظام السوري بأنه طيع أمر الداعم الإيراني والروسي، وهذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً أن المعارضة السوريّة، حالها من حال نظام الأسد، لجهة الإذعان والطاعة العمياء لولي النعمة التركي. بمعنى آخر، الكل متساوون في التبعيّة والولاء لجهة غير سوريّة. ولعل أبرز ما ينطبق على أحوال كل الأطراف - الأتباع الضالعين في المحرقة السوريّة قول أبو الأسود الدؤلي: "لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله.. عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ".

ليس قدرُ السوريين أن يكونوا الإخوة - الاعداء. ليس قدرهم أن يولدوا ويموتوا في ظل استبداد وفساد وإفساد نظام آل الآسد. ليس قدرهم أن يكونوا بيادق على رقع شطرنج الآخرين. ليس قدرهم أن يكونوا وقود وحطب حروب الآخرين. ليس قدرهم أن يكون بديل النظام الفاسد الذين حكمهم على امتداد ستة عقود، معارضة فاسدة. آن لهم أن يقرروا مصيرهم بأيديهم، وأن يكونوا أصحاب قرارهم السياسي والوطني. وتجنيبُ منطقة شرق الفرات الحرب، هو امتحان هامٌ وكبير في هذا الإطار. الحوار الذي يؤجّل الحرب، ربما يكون مدخلاً يطبل مفاعيل الحرب. الداعم التركي لن يدوم طويلاً للفصائل الإسلاميّة السوريّة، كما لم يدم الداعم الأميركي لـ"قوات سوريا الديمقراطيّة". والداعم الكردستاني لن يدوم طويلاً لحزب الاتحاد الديمقراطي. يمكن للأخير، ومن حقه تبنّى أفكار أوجلان ومشاريعه. ولكن من الواجب عليه ألاّ يسمح لنفسه أن يتم تسييره بالكونترول من جبال قنديل.

يجب التوقّف عن تعذيب هذه الأرض السوريّة أكثر، عبر التوقّف عن دفن المزيد من القتلى والضحايا، من كل الأطراف، تحت ثراها. سوريا لا تستحق من السوريين، بجميع خنادقهم ومشاربهم، إنتاج المزيد من الحضيض والأنقاض، بدلاً من إنتاج التنوير والنهوض والاصلاح والتنمية والحلول الإبداعية والحضاريّة.