إسقاط شماعة المعارضة وشماعة النظام

2018.12.02 | 00:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في قول أونوريه دي بلزاك "من السهل أن تجلس وتلاحظ، أما الصعب فهو أن تنهض وتعمل"، الحكمة الضرورية لمن يكتفي بمراقبة أخطاء وخطايا المعارضة السورية ويستمرّ فقط بتقريعها معتبراً ذلك مفتاح نجاته من مسؤولية ما آلت إليه اليوم أحوال البلاد، لتصبح المعارضة شمّاعة عجز بعض نشطاء الثورة عن القيام بواجب مبادرة وطنية إنقاذية تعيد السوريين إلى المشهد وتستعيد أدوات تحكّمهم بمصيرهم. تُشابه تلك الحال حال المعارضة السورية في السنوات التي سبقت الثورة، حيث كانت شمّاعة بطش النظام هي الحجّة الجاهزة التي تبرّر بها المعارضة عجزها عن كسر حاجز الخوف واستكانتها لدور هامشي يتيحه نظام الأسد ويتحكّم بمساحته ثم ينقضّ عليه. ومثلما تمكّنت شريحة الشباب الثائر مع انطلاقة الثورة السورية من إسقاط شماعة نظام الأسد في تبرير فشل المعارضة في جذرية القطع مع النظام والعمل لإحداث تغيير حقيقي في سوريا، لا بدّ لها أن تتجاوز واقع صناعة شماعة أخرى، هي شماعة المعارضة هذه المرة، لتُسقطها وتستعيد صياغة الثورة السورية من جديد.

وفي ذاكرتي عن طبيعة تفاعل المعارضة السورية مع المرحلة التي تلت ربيع دمشق قبل انطلاق الثورة السورية، وطريقة تعاملها مع العمل الممنهج لنظام بشار الأسد بهدف الإنهاء القسري لهامش الحريات

وفي ذاكرتي عن طبيعة تفاعل المعارضة السورية مع المرحلة التي تلت ربيع دمشق قبل انطلاق الثورة السورية، وطريقة تعاملها مع العمل الممنهج لنظام بشار الأسد بهدف الإنهاء القسري لهامش الحريات الذي أتاحته ضرورة محاولة شرعنة توريث السلطة من الأب إلى الابن، بعض الأمثلة الحية عن لجوء المعارضة لشماعة استبداد النظام وقمعه وشموليته للتكيّف مع حالة الإحباط واليأس والعجز بل وتبرير التراجع في نشاطاتها إلى الهامش الضيق الذي حدّده النظام وأجهزته الأمنية بدقة متناهية بحجّة ضرورة الحفاظ عليه والعمل التدريجي على توسيعه. على هذا الأساس رفض مثلاً التيار التقليدي في مجلس إدارة منتدى جمال الأتاسي مقترح عقد ندوة تناقش "المسألة الجامعية وقضية الطلاب في سوريا" إثر الحراك الطلابي الاحتجاجي في جامعات حلب ودمشق عام 2004، على اعتبارها تتجاوز الخطوط الحمراء التي وضعها النظام لتتقيّد وتلتزم بها نشاطات المعارضة واعتبر التيار الذي دفع باتجاهها وباتجاه التأسيس لمنتدى جمال الأتاسي للشباب دونكيشوتياً يصارع طواحين الهواء، بل وحمّله لاحقاً مسؤولية منع وإغلاق المنتدى. وبتلك المنهجية التي اعتمدت التزام فعل مؤسسات المعارضة بالسقف المتاح من النظام للحفاظ على استمراريتها ليصبح وجودها بحدّ ذاته هدفاً، بل وهدفاً أسمى من مهامها والمسؤوليات المنوطة بها، بتلك المنهجية اعترض أيضاً ذلك التيار التقليدي على تصريحات صحفية عبّرت من خلالها بصفتي رئيسة منتدى الأتاسي عن كون نظام بشار الأسد عصياً على الإصلاح، وعن ضرورة التفكير في أساليب وأدوات تتجاوز نهج المطالبة بالإصلاح التدريجي، ومع ورود مفردة "الثورة" في إحدى تلك التصريحات تمّت نصيحتي بالامتثال لما ورد في الحديث النبوي: "سيروا على سير أضعفكم".

حكايا عديدة عن تلك المرحلة يمكن أن تُروى وتُوثَّق في سياق مراجعة ممنهجة وشاملة عن كيف أصبح نظام الأسد الشمّاعة الضرورية التي تُعلّق عليها المعارضة أسباب ضعفها وفشلها وعجزها، لتبرّر من خلالها عدم قيامها بأي محاولات فعلية للوصول إلى الشارع السوري وفهم معاناته اليومية بعيداً عن ثنائية السلطة والنظام، ولتفعيل أشكال احتجاج لا تكتفي بالنخبوية التي اتسمت بها المعارضة بذريعة عمليات الحصار التي مارسها النظام عليها وعلى فعالياتها. وعند انطلاق ثورة آذار 2011، فاجأ الثوار الشباب المعارضةَ التقليدية قبل أن يفاجئوا النظام، فقد كسروا حاجز الخوف، وأسقطوا بذلك شمّاعة قمع النظام وإرهابه، وفنّدوا عبر حراكهم الشعبي جميع الحجج والتبريرات التي كانت تعتمدها المعارضة لتسويغ خمولها ودورها الهامشي.

نجد اليوم شريحة من نشطاء الثورة تلجأ هي أيضاً لشماعة المعارضة المتمثلة بمؤسسات قوى الثورة والمعارضة، لتضع على عاتقها مسؤولية تأخّر انتصار الثورة

ومع مرور سبع سنوات وثمانية شهور على انطلاقة الثورة السورية واستعصاء وصولها إلى أهدافها، نجد اليوم شريحة من نشطاء الثورة تلجأ هي أيضاً لشماعة المعارضة المتمثلة بمؤسسات قوى الثورة والمعارضة، لتضع على عاتقها مسؤولية تأخّر انتصار الثورة بعد أن سلّمتها زمام تمثيلها في المحافل الدولية. فتنشغل في معظم فعالياتها الحالية بتحليل أسباب فشل تلك المعارضة في تمثيل الثورة وفي بلورة برامجها وتنظيم صفوفها ونشاطاتها وتحديد استراتيجياتها والتكتيكات اللازمة لتوسيع رقعتها وصياغة الخطاب السياسي الضروري لكسبها مختلف شرائح الشعب السوري، لتنتهي تلك الفعاليات في غالبها كما بدأت ـ مع وجود بعض الاستثناءات المعدودة ـ وقد تصل في أحسن الأحوال إلى توصيات دون متابعة أو مراكمة، ولتستمرّ عملية الشجب والتنديد. ولكن هل يكفي تقريع المعارضة لتسترجع الثورة ألقها وتأخذ بأسباب انتصارها؟ لا أعتقد أن هناك من يجادل اليوم في الأخطاء والخطايا التي وقعت بها مؤسسات المعارضة في التعامل مع آليات عمل الثورة التي تختلف تماماً عن آليات عملها، حيث الثورة حالة شعبية عفوية تنطلق كالسيل الجارف ولا تهدأ حتى تحقّق مطالبها، أما المعارضة التقليدية وكذلك الرسمية فهي مازالت تعمل ضمن إطار "فنّ الممكن"، وذلك وفقاً لتوافقات وتفاهمات تكتلات سياسية لبعضها خلفيّته الفكرية والإيديولوجية، وتستمر بإعطاء الأولويات للتوجهات الدولية وتعتقد أنه بإمكانها اللعب على تناقضاتها في ظلّ غياب بوصلة وطنية جامعة، فتصبح آلية عمل المعارضة أبطأ من آلية عمل الثورة، بل وعلى افتراقٍ جوهري معها.

ربما لا يتسع المقام في هذا المقال لتفنيد الأسباب الذاتية والموضوعية لنقاط ضعف المعارضة وأخطائها، وليس ذلك موضوعه والهدف منه، بل هو جرس إنذار لنا جميعاً، لمن مازال مؤمناً بإمكانية انتصار الثورة السورية، أن لا بدّ من تجاوز تلك المرحلة: مرحلة الندب على ما أضعناه وأضاعته المعارضة السورية من فرص للثورة، ومرحلة التعبير عن القهر والخذلان، فلقد بات عجز مؤسسات المعارضة وإفلاسها، ذاتياً وموضوعياً، مكشوفاً إلى حدّ بعيد، وإلى الدرجة التي جعلت المجتمع الدولي يتجاوز المعارضة والنظام في كافة تفاهماته واتفاقياته المتعلقة بالقضية السورية.

لا بدّ من تجاوز تلك المرحلة: مرحلة الندب على ما أضعناه وأضاعته المعارضة السورية من فرص للثورة، ومرحلة التعبير عن القهر والخذلان

لن يعفينا من مسؤولية الحاضر وصناعة المستقبل الإغراق في جلد أنفسنا والمعارضة معنا، ولا الاستمرار بمراكمة عمليات الكشف والنقد التي قد تسمح لنا فقط براحة ضمائرنا، بل نحتاج إلى البدء بجهد جادّ ومنظّم، وربما شاقّ وممنهج، للعمل على فهم عميق للحالة الراهنة للثورة السورية بسلبياتها وإيجابياتها، بأزماتها وفرصها، بتفاصيلها اليومية ومجرياتها على الأرض وفي المنافي، والبحث في أسئلة لا أجوبة استباقية عليها حول آليات الخروج من حالة الاستعصاء، والانتقال إلى اجتراح الحلول العملية الأمثل التي تناقش وتطوّر الإمكانيات وتعالج على أساسها انحسار مدّ الثورة السورية، وغياب الفعل السياسي عن شريحة ثوار امتلكوا اليوم مقدرات القيادة. فالثورة تحتاج إلى أهل قوة وعنفوان ودأب وجَلَد وتحدٍّ، يسقطون شماعة المعارضة كما أسقطوا شماعة النظام، ويتجاوزون تقاسم الخيبات ويعيدون صناعة المشهد بعيداً عن المشهد الرسمي الذي يقزّم ويضلّل أهداف الثورة السورية، ليمسكوا ببنيتها ويصوغوا خطابها الذي يليق بها ويعبّر عنها من جديد.