إسقاط سوريا أم إسقاط النظام!

2018.08.06 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ما قبل "أطفال درعا" ليس كما بعد "أطفال درعا"؛ وما قبل مجزرة بانياس ليس كما بعدها؛ وما قبل استخدام السلاح الكيماوي ليس كما بعده؛ وما قبل حلب ليس كما بعده... سلسلة تكاد لا تنتهي، ولن تنتهي إلا بأحد أمرين: {إما سوريا أو نظام الأسد}. ولتكون /سوريا/ هناك مستلزمات، وليكون /نظام الأسد/ هناك مستلزمات. وأن يكون الاثنان معاً، أو مزيج بينهما كـ (سوريا الأسد)، فهذا ضرب من المستحيل. فإما أن يكون هو أو تكون هي.

لسورية شعب وأرض وتاريخ ولغة وثقافة واعتراف دولي، لسورية شعب كل فرد فيه بكى أو تألم، شعب رأى طائرات الأسد تهدم مدنه وقراه وتقتل أطفالاً وشيوخاً ونساء، شعب رأى سجاني الأسد يقتلونه تحت التعذيب ويرسلون ورقة وفاة (بالقصور الكلوي أو القلب أو القهر)، شعب رأى "نظام الأسد" يستخدم كل أنواع الأسلحة –بما فيها المحَرّم- ليقمعه، شعب رأى بعضه يُحَمًل بباصات ويُنقل إلى التشرد، شعب رأى مَن يزج بشبابه ليقتلوا أبناء بلدهم، ويعوضهم بدريهمات، شعب أضحى يرى إجرام إسرائيل عادياً مقارنة بما اكتوى به من "نظامه"، شعب رأى الأجنبي يستبيح سورية بميليشياته وطائراته ليحمي "نظام الأسد" لا البلد.

احتاج نظام الأسد قوة ميدانية وجوية، فتوفرت له، واحتاج حماية سياسية لمواجهة كل قانون أو قرار دولي للدفاع عنه، فتوفر له. واحتاج حيادية ورخاوة من ادعوا أنهم بصف هذا الشعب، فتوفر له

قاوم هذا الشعب، ولكنه عجز عن اقتلاع من فعل به وبسوريا ما فعل؛ ببساطة لأن يداً خارجية حالت دون ذلك. احتاج نظام الأسد قوة ميدانية وجوية، فتوفرت له، واحتاج حماية سياسية لمواجهة كل قانون أو قرار دولي للدفاع عنه، فتوفر له. واحتاج حيادية ورخاوة من ادعوا أنهم بصف هذا الشعب، فتوفر له. واحتاج ماكينة جبارة لنسف مصداقية وتشويه مَن يقاومه، فتوفر له. واحتاج هزالةً وفساداً وغباءً وانتهازية بمن يعارضه، فتوفر له.

بعد أن أمّن الكثير من الجغرافيا، وأنجز معظم المطلوب ليبقى، بقي عليه وعلى مَن يسعى لإعادة عجلة الزمن بما حملت، وإعادة تأهيله أن ينجز له بعض القضايا أو يزيح عن كاهله بعض ما حمل ليصل إلى ما ابتغى؛ وليكون "نظام الأسد" أو "سوريا الأسد". كي يبقى، لا بد من نفي أو إلغاء أو طمس حقائق تكشفت بالدم والدمار والبشر والحجر والشهادات والوقائع والأرواح. فهل يستطيع التوحش الروسي والخبث الإيراني والتواطؤ الأمرو- إسرائيلي أن يفعل كل ذلك؟!

إذا ما بدأنا بما تقول عنه روسيا مؤخراً بعودة الجغرافيا إلى سيطرة نظام الأسد؛ فهي والعالم يعرفون أن من أعاد تلك الجغرافيا ليس الأسد، بل روسيا وإيران. فهما هنا إما أن يُقرّا بأنهما قوتا احتلال فيحملان كل الأعباء، أو يعترفا بأنهما مَن فعل ذلك، فينتهي؛ بحكم فقدانه صك السيطرة على الجغرافيا. يقول الروس بعودة اللاجئين، فهل انتفت الأسباب التي دفعت هؤلاء للنزوح؟ وإلى أين سيعود هؤلاء؟ إلى بيوت مدمرة؟ إلى فقر وعوز وبيئة مَن بقي فيها يتمنى الخروج منها؟ وكيف يعودوا، وهم يعرفون أن ميليشيات الأسد لا تعتبرهم إلا جراثيم وخونة ومتآمرين؟ كيف يعود هؤلاء ومن قتل فلذات أكبادهم ما يزال جاهزاً لقتل المزيد؟ كيف يعودوا، وعم يعرفون أن "داعش" جاهزة لذبح من لا يعبد الأسد؟

كيف سيتمكن الروس من مسح سجل مَن قتل أو تسبب بقتل ما يقارب المليون سوري وسورية تعذيباً واغتصاباً وتغييباً؟

كيف سيتمكن الروس من مسح سجل مَن قتل أو تسبب بقتل ما يقارب المليون سوري وسورية تعذيباً واغتصاباً وتغييباً؟ مَن يعيد بناء نصف سورية المدمر؟ مَن يعيد إحياء اقتصاد مدمر؟ والأهم، من يرمم ذلك النسيج الاجتماعي الممزق؟ وهل يتم ذلك بإعادة تنصيب مَن فعل ذلك، كمكافأة على جرائمه؟ وإذا ما تمكن الروس من فعل ذلك عنوة، فهل بإمكانهم- والعلاقات الدولية ليست سمناً وعسلا- أن يمرروا جرائم الحرب وملفاتها التي ارتكبها نظام الأسد؟

يعرف الروس أن "نظام الأسد" الذي باع لهم ورهن جزءاً من سوريا، قد باع لغيرهم أيضاً. وهذا سر بعض التوتر بينهم وبين إيران. إذا كان الروس أيضاً غافلين أو متغافلين عن الأطماع الإسرائيلية في سوريا، فإنهم واهمون. ولا أدري إن كانوا في وارد أن يُسجل في تاريخهم "وهب مَن لا يملك لمن لا يستحق"- كما كان "وعد بلفور" أساساً. توافق أو تواطئ الروس مع الأمريكيين في الشمال الشرقي السوري، والشمالي مع تركيا، لن يعفيهم من وقفة أمام التاريخ.

وإن كان الروس يفكرون بأن جرائم "نظام الأسد" بعيدة عنهم، وهم بحلٍ منها، ولا تطالهم، يكونوا واهمين أيضاً: فالساكت أو المدافع عن جريمة، كمرتكبها. وهذا ما يسجله عليهم ليس أصدقاءهم بل أولئك المتحالفين والمتواطئين معهم الآن. ولطالما أشار الروس إلى "نظام الأسد" بـ "الدولة السورية" كي يبرروا وجودهم في سورية؛ فلن يفيدهم إذا كانت هذه "الدولة السورية" مرتكبة كل هذه الجرائم بحق شعبها؛ حيث تنتهي مصداقية تلك "الدولة" وتسقط شرعيتها لأنها ليست أمينة على شعبها؛ فكيف لها أن تعقد مواثيق.

بحسبة بسيطة- قد تبدو ساذجة- تغيير السلطة أبسط بكثير من تغيير الشعب؛ وإسقاطُ سوريا لن يُبقي الأسد.

نعم؛ ما قبل أطفال درعا وحلب والبيضا والكيماوي والتهجير وداعش وماعش وفاحش، ليس كما قبلها؛ ولكن لجهة أن الجرائم لا تسقط بالتقادم أو النسيان أو البلطجة الدولية أو المؤامرات والتواطؤ؛ وخاصة إذا كان القرار أن يشرب السوريون من ماء النهر ذاته. وإذا كان التاريخ يعيد نفسه، فإنه في المرة التالية يكون مهزلة. وفي الحالة السورية، المهزلة دم ودمار وتشرد وحرب لا تنته. ولا أدري إن كان الروس يتطلعون إلى ذلك. وإن كانوا، فحارات موسكو وبيترسبيرغ وسوتشي لن تكون بعيدة عما يشبه الغوطة ودرعا وحلب والبيضا. بحسبة بسيطة- قد تبدو ساذجة- تغيير السلطة أبسط بكثير من تغيير الشعب؛ وإسقاط سوريا لن يبقي الأسد.