إذا عُرِفَ السبب بَطُلَ العَجَب...

2018.05.16 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

عندما استولت مجموعة من حزب البعث في سوريا على مقاليد السلطة في انقلاب عسكري في 8 آذار 1963، كان المجتمع السوري يشهد بروز عديد من القوى المدنية والسياسية التي لم تتمكن سنوات الوحدة مع مصر 1958 – 1962 من إجهاض مخاضاتها تماماً، وذلك رغم مختلف أشكال ومستويات القمع الذي أسس لمدرسة إقليمية سيئة الذكر والتذكر، حيث كانت بقايا ثقافة العمل المدني تحاول أن تستعيد أنفاسها. وأتى حكم الحزب الواحد، المصحوب ببعد عسكري واضح ومهيمن، لترسيخ ثقافة إقصاء الجماعات السياسية أو المدنية الأخرى، ومصادرة الحيّز العام وحلّ النقابات والأحزاب وإغلاق الصحف. 

وتعزّزت هذه السياسة بانقلاب 1970، الذي سماه أصحابه بالحركة التصحيحية، والذي قضى، فيما قضى عليه من مؤسسات وهياكل، على الحزب كمؤسسة عقائدية، محوّلاً "البعث" إلى بيروقراطية تسلطية تستند أساساً إلى المفهوم الأمنوقراطي للعمل السياسي أكثر مما تعتمد على مبادئ أو توجهات إيديولوجية محددة، وذلك مهما كان الخلاف مشروعاً عليها وحولها.

وبعد ذلك، وفي سنة 1970، جاء انقلاب مجموعة عسكرية أخرى تدين نظرياً بالولاء لنفس الحزب. ومن خلال هذا الانقلاب، انتقلت ممارسة الحكم من الحزب الواحد المهيمن على مفاصل السياسة والاقتصاد والمجتمع، إلى العائلة الواحدة التي ما زالت تنفرد بنفس النوع من الهيمنة مع إضافات حداثوية متناسبة طرداً مع تطور المفهوم. 

وفي هذا الإطار، استمر وتعزّز الحجْرُ السياسي / الأمني على عمل ونشاط كل التيارات السياسية الأخرى كما على عمل ونشاط كل الجماعات المدنية التي كانت تحاول أن تعيد إنتاج نفسها من تحت رماد مرحلة الوحدة الفاشلة والمدمّرة. تطورت إذاً هذه العقلية الأمنوقراطية لإدارة البلاد بكافة مفاصلها. ومع السعي الحثيث والمنهجي لإفقاد حزب البعث من مضمونه الإيديولوجي، وتحويله إلى بيروقراطية أمنية، بدا واضحاً بأن هذه السياسة تمتد إلى مختلف قطاعات المجتمع لتأطيرها وذلك من خلال إنشاء ما اصطلح على تسميته بالمنظمات "الشعبية".

أفصحت أحداث السبعينيات والثمانينيات عن طريقة عنفية متطورة في معالجة الأزمات السياسية تمّ تتويجها بمجزرة حماة سنة 1982

وقد أفصحت أحداث السبعينيات والثمانينيات عن طريقة عنفية متطورة في معالجة الأزمات السياسية تمّ تتويجها بمجزرة حماة سنة 1982. فانكفئ عن المشهد جميع الناشطين المدنيين والسياسيين وسادت ثقافة الخوف والشك. وتكوّن، جيل سياسي كامل في الخفاء والتشتت والفردية والشك والخوف. 

وقد أسس هذا الواقع لتتطور النخبة المعارضة ـ والتي هي تكوينياً خارج أطر السلطة ـ بشكل مشتت ومنقسم. بالمقابل، وفي إطار سعيها إلى تدجين جزء من هذه النخبة، عمدت السلطة إلى تطوير ثلاثة أساليب لمساعدتها في هذا التوجه وتحقيق إخضاع، ولو نسبي، الجزء الأكبر منها. 

فتم الاعتماد أساساً على مفهوم الاستقطاب الأيديولوجي أو المفاهيمي، حيث ساعدت الدوغمائية المستخدمة من قبل دعاة ودعاية النظام الجديد على استقطاب جزء من النخب من جهة، وأدخلتهم في منظومة إدارية غير مفسدة بالضرورة من الناحية المالية ولكنها تعطي سلطة وهمية مشوّهة تصبح بالتأكيد مشوهة من الناحية الفكرية من جهة أخرى. وعن قناعة، ولو نسبية، عمل المنتمون إلى هذه الفئة المحدودة مع أجهزة ومؤسسات النظام مبررين خطواته الإقصائية والقمعية عبر الصمت حيناً أو عبر إيجاد مسوغات عدة تستند إلى قاعدة قول حقٍ يُراد به باطلٌ حتماً. ويمتد وجود هذه الفئة وظيفياً حتى يومنا هذا، بل ويتعزّز. 

نجحت السلطة عبر القمع وعلى أنواعه المختلفة في خلق بيئة يسودها الخوف المصحوب بالشك في الآخر

وبطريقة مختلفة، ربما تترافق أو لا تترافق مع الأولى، تم العمل على إفساد فئة أخرى. وقد أخذ هذا الإفساد أشكالاً عدة أهمها التوظيف في مناصب مُدرة للمنفعة المالية أو المنح على أنواعها داخل وخارج البلاد. وانخرطت في آليته فئات واسعة من النخب الثقافية التي كان لها أن تلعب دوراً سياسياً ومجتمعياً ريادياً في الحد من هيمنة الفكر المؤطر حزبياً وأمنياً. كما نجحت السلطة عبر القمع، وعلى أنواعه المختلفة، في خلق بيئة يسودها الخوف المصحوب بالشك في الآخر، ولو القريب جداً، حيث تهيمن على كل النشاطات العامة والتي من خلالها كان يمكن للنخب الثقافية والسياسية أن تعبّر عن مكنونات أفكارها وتمارس دوراً رائداً في تحفيز قدرات المجتمع المدني. ومن خلال هذه الآلية،  تم الزج بعدد منهم في المعتقلات، أو أُجبر آخرون على اللجوء إلى الخارج والابتعاد عن مجالهم الطبيعي للتأثّر والتأثير، أو أن البعض اختار الصمت والانعزال.

على هامش هذه التوجهات الثلاث، الاستقطاب والإفساد والقمع، نمت مجموعة "هامشية" على أطراف المجتمع، حافظت على حريتها النسبية وحاولت عبر بعض الأساليب "الملتوية" في أن تستمر في إنتاج خطاب ملتزم بمبادئ الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. 

في أيامنا هذه، نستغرب موقف بعض النخب من مواضيع مبدئية وأخلاقية، على اعتبار التصوّر النظري الذي يقوم على اعتبارها ملتزمة بحدود دنيا من المعايير الإنسانية. إلا أن الرجوع الى العمل الدؤوب الذي امتد على مدى عقود سابقة، يجعلنا نتأكد بأنه إذا عُرِف السبب، بطُلَ العجب.