إدلب والحل المفقود

2018.09.06 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تتسارع المعطيات الميدانية والسياسية المتعلقة بمصير محافظة إدلب شمال غرب سورية لتعبر عن مدى تعقيد المشهد وتضارب المصالح بين عدة لاعبين سواء في الإقليم أو على الساحة الدولية، ما يعيد طرح الأسئلة المرتبطة بإمكانية إيجاد أرضية لحل سياسي في البلاد ينسجم مع شبكة المعادلات القائمة وما رشح عنها من خرائط نفوذ تبدو معظمها حتى اللحظة مؤقتة بانتظار توافقات كبرى على مستوى المنطقة.

تصريحات الأطراف الفاعلة في الصراع السوري لا تأتي بجديد على صعيد المواقف المعلنة على الأقل، فبينما تواصل طهران تأكيدها على أنه لا بديل عن عملية عسكرية في إدلب لإنهاء وجود من وصفتهم بالإرهابيين، تأرجح الموقف الروسي بين الوعيد –ترجمته الهجمات الجوية- وترك نافذة ضيقة لإمكانية إيجاد تسوية ممكنة بالتفاهم مع أنقرة تتركز بشكل أساسي على أن تتحمل تركيا أعباء تفكيك وإنهاء "هيئة تحرير الشام" بالتعاون مع فصائل المعارضة، الأمر الذي يبقى صعبًا نظرًا للوقائع على الأرض.

حذرت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون من مخاطر شن عملية عسكرية واسعة على إدلب

بدورها حذرت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون من مخاطر شن عملية عسكرية واسعة على إدلب، نظرًا لما سينتح عنها من مآس إنسانية، مطالبة موسكو وطهران بعدم الاشتراك بها و"تحمل عواقبها"، إضافةً إلى تهديدات مكررة عبرت عنها تصريحات صدرت عن البيت الأبيض الثلاثاء، مفادها أن واشنطن ودولا أوروبية سترد بشكل سريع ومناسب في حال استخدم النظام السوري السلاح الكيماوي خلال المواجهة المحتملة شمال غرب البلاد.

كثيرة هي المؤشرات على أن المشهد في الشمال السوري لن يختلف عما سبقه من المناطق، وسينتهي إلى انتصار ميداني وسياسي جديد للروس وحليفهم الأسد بعيدًا عن مداه وحجمه، بالمقابل هناك وجهات نظر عديدة ترى أن عملية عسكرية واسعة في الشمال ترتبط بالرؤية الاستراتيجية لموسكو وواقعية أن تذهب إلى هجوم كاسح تدرك هي قبل غيرها حجم النتائج الكارثية له، خاصةً مع استحالة خيار التهجير، ما يجعل من سيناريو عمليات محدودة تتيح للروس السيطرة على الطرق الرئيسة وبعض المناطق في ريف المحافظة لتأمين قواعدها العسكرية في الساحل أكثر واقعية.

من الصعوبة بمكان التكهن بمآل الأمور شمالًا، ليس فقط لأن المعارك في حال اندلعت بشكل مفتوح سيكون من الصعب السيطرة والتحكم بمجرياتها من مختلف الأطراف، بل أيضًا لوجود آلاف المسلحين خياراتهم ضيقة جدًا في ظل موقف إيراني متصلب يجد في الساحة السورية الملعب الأفضل لتصدير أزماته وتصفية حساباته مع عديد الأطراف، وصولًا لتحسين شروطه التفاوضية بعد العقوبات الأميركية المتصاعدة على طهران.

اللافت فيما يخص ملف إدلب استمرار التصريحات التركية الهادئة التي تؤكد متابعة الاتصالات مع موسكو بشأن الوصول لحل سياسي، في حين استبق التصعيد الإيراني الاجتماع المرتقب للدول الثلاث الضامنة لمسار أستانا (روسيا/ تركيا/ إيران) المزمع عقده في طهران في السابع من الشهر الجاري، وهو ما يدفع للتساؤل حول جدوى هذا اللقاء، إلى جانب أسئلة أخرى تتعلق بحقيقة الموقف التركي ومدى التنازلات التي من الممكن أن يقدمها شمال غرب سورية.

بالتأكيد أنقرة ليست في أفضل أحوالها لتفرض سيناريو يقطع الطريق على الحرب شمالًا لاسيما في ظل خلافاتها مع واشنطن ومحاولتها التوصل لتوافق حيال ضفتي الفرات والملف الكردي عمومًا، إلى جانب سعيها لتعزيز تحالف سياسي اقتصادي مع روسيا بهدف التخفيف من حدة الإجراءات الأميركية الأخيرة ودفع الولايات المتحدة لإعادة تمتين علاقاتها بتركيا وفق أسس جديدة تأخذ بعين الاعتبار مصالح الأخيرة بناء على التغيرات الكبيرة التي طرأت على الشرق الأوسط خلال العقد الأخير.

تعقيدات المشهد السوري تجعل من إدلب بالمعنى الجيو سياسي أكبر بكثير من مساحتها الجغرافية البسيطة يعبر عنه "صراع بارد"  بين واشنطن وموسكو في البحر المتوسط يتمثل في تعزيز القدرات العسكرية للطرفين بشكل غير مسبوق، ويؤشر إلى أن المعارك القادمة في الشمال –في حال انفجرت- ستكون كغيرها عاجزة عن إنتاج حل سياسي، الأمر الذي بدأت موسكو تدركه أكثر فأكثر بفعل عودة الثقل الأميركي للمنطقة بشكل متزايد، أي أن دماء السوريين ستكون مجددًا مجرد وقود لصفقات إقليمية دولية لا تحمل أي بعد وطني.

الأخطر في مسار الأحداث المحيطة بالملف السوري أن المعطيات باتت تؤشر إلى إمكانية اندلاع صراعات أكبر

ربما الأخطر في مسار الأحداث المحيطة بالملف السوري أن المعطيات باتت تؤشر إلى إمكانية اندلاع صراعات أكبر سواء على الجغرافية السورية أو مناطق أخرى داخل المنطقة، يدعم ذلك الحشود العسكرية الكبيرة لـ واشنطن وموسكو في المياه الدافئة والتي تتجاوز حيز استعراض القوة أو توليد عوامل ضغط لتحسين أي شروط تفاوضية بين الطرفين، إضافة إلى تحليلات عديدة ضمن أكثر من مركز أبحاث دولي اعتبرت أن "الحرب في سورية وإن كانت نتيجة انتصارات الأسد وروسيا المزعومة تبدو وكأنها تسير نحو نهايتها إلا أن الواقع يشير إلى عكس ذلك ويفتح المجال لاندلاع حروب أكبر وأكثر ضراوة".

المؤلم يبقى في غياب شبه تام لدائرة الفعل السوري على الصعيد الثوري وانحساره في بضعة تصريحات لا تمثل أي فارق في مجريات الأحداث، ومرده إلى أن معظم عناوين المعارضة لا تعدو كونها مجرد أدوات غارقة في أوهام تسويات ترضي هوسها المريض بالسلطة والمال، وجعلت من تضحيات السوريين مناقصة لشراكاتها الأمنية والاقتصادية، لذا فإن "كنس النخب" التي خطفت قرار الثورة ربما يمثل الخطوة الأولى للدفاع عن واقعية حلم التغيير في هذه البلاد، دون إغفال الاستثناءات طبعًا.