إدلب رهينة الاتفاقات الهشّة والمعارك المفاجئة

2019.06.08 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

منذ بدء انهيار مناطق الثورة في حلب شمالاً في ديسمبر/ كانون الأول 2016 وإقرار اتفاق خفض التصعيد والذي شمل منطقة إدلب والجيوب الثورية في الجنوب التي لم تسلم من العمليات العسكرية الروسية، وتعرضت تباعاً للتهجير فيما أطلق عليه عملية تأمين طوق دمشق، وصولاً إلى عملية تهجير درعا آخر المناطق الثورية جنوباً في يوليو/ تموز 2018، في نسف كامل لاتفاق خفض التصعيد والذي لم تعلّق عليه تركيا بحكم بعد المناطق عنها جغرافياً وعدم تأثيرها على أمنها القومي بشكل مباشر.

وانحسرت بعد ذلك المناطق الثورية بشكل كبير، لتُختصر في محافظة إدلب وما تبقى من ريف حماة الشمالي وريف حلب الغربي والتي هي مناطق صغيرة بالمقارنة، وأصبحت هذه المناطق تحت الرعاية التركية وفق الاتفاقات الدولية، والتي كانت بمثابة خط الدفاع الأمني الأول لتركيا عن حدودها الجنوبية وعن المناطق الواقعة تحت نفوذها في درع الفرات وغصن الزيتون، وتحاول تركيا ما استطاعت منذ ذلك الوقت أن تحافظ على هذه المكتسبات باتفاقات لم تكن صلبة البتة.

 

الاتفاقات الروسية التركية الهشة:

بدأت الاتفاقات حينما تمكنت روسيا من بناء تحالف مع تركيا، التي انحازت إلى طرفها على حساب علاقتها مع حليفتها التاريخية أمريكا التي دعمت الفصائل الانفصالية شرق سوريا، إلا أن تركيا حاولت طوال الوقت أن تمسك العصا من الوسط، وأن تلعب على التوازنات والخلافات الأمريكية الروسية، فهي تريد أن تكسب روسيا إلى جانبها دون أن تخسر أمريكا كحليف، وكانت البداية في اجتماع أستانا 1 في شباط 2017، وكان إطلاق مسار أستانا، التفافا بالمعنى الحرفي على المسار الدولي في جنيف وتجاوز لكل قراراته، وتمّ بناء عليه تشكيل وفد معارضة على القياس الروسي، ليمثّل "الثورة" في اجتماعات سوتشي التي اختصرت القضية السورية كلها في تغيير الدستور وتحولت كلّ مطالب الشعب السوري إلى عبارات سائلة أمام المطلب الدولي بتحقيق الحل السياسي الذي "يضمن توقف شلال الدم السوري" إلا أن هذه الاجتماعات وكل ما صدر عنها من قرارات بداية من اتفاق مناطق خفض التصعيد التي شهدت مجازر واسعة وحملات عسكرية كبيرة وصولاً إلى تهجير معظم تلك المناطق وانتهاء بالاتفاق الأخير حول تحييد إدلب عن أية عملية عسكرية والتي أظهرت بشكل جليّ هشاشة هذه الاتفاقات حيث كان هناك تباين في تفسير الدول الضامنة المتفقة "تركيا وروسيا وإيران" لبنود الاتفاق كلٌّ وفق رؤيته الخاصة.

بدأت الاتفاقات حينما تمكنت روسيا من بناء تحالف مع تركيا، التي انحازت إلى طرفها على حساب علاقتها مع حليفتها التاريخية أمريكا التي دعمت الفصائل الانفصالية شرق سوريا، إلا أن تركيا حاولت طوال الوقت أن تمسك العصا من الوسط، وأن تلعب على التوازنات والخلافات الأمريكية الروسية

فقد استغلت روسيا ما تصفه بوجود الإرهاب لاستكمال حملة القصف على المنطقة، بالإضافة إلى أن كلّ اجتماع بين الدول الضامنة كان يرافق بحملة قصف مكثفة على المنطقة من أجل الضغط على مخرجات الاتفاق، وكان آخرها الاجتماع الذي أقيم في مدينة نور السلطان الكازاخية، والفشل في تشكيل اللجنة الدستورية الذي فجّر هشاشة الاتفاقات كلها، وأعلن عن انهيار مسار أستانا وسوتشي واحتمالية العودة إلى جنيف، ما جعل روسيا تبدأ بالحملة العسكرية الأخيرة منذ بداية شهر أيار 2019 والذي قضمت خلالها بلدة كفرنبودة وأجزاء من منطقة سهل الغاب من ضمنها محطة وصول كل الثوار المهجّرين، مدينة قلعة المضيق.

بعد مدة من محاولات الفصائل الثورية في المنطقة، اعتماداً على الحامل المناطقي بشكل أساسي، للصمود في وجه الحملة العسكرية؛ بدأت الإمدادات تصل إليهم من الدولة الضامنة تركيا، التي شهدت علاقتها بأمريكا تحسناً مفاجئاً في ذات الوقت وانتقلت الفصائل من وضع الدفاع إلى الهجوم.

 

التوافق الأمريكي التركي:

جاءت ثمار التوافق الأمريكي التركي سريعة في المنطقة، فبعد تحول الفصائل من الدفاع إلى الهجوم استطاعت خلال أيام استعادة السيطرة على عقدة ريف حماة الشمالي، بلدة كفرنبودة، التي كلفت روسيا مئات الصواريخ والغارات الجوية، ومئات القتلى من العناصر في صفوف الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري وقوات النمر وجيش الدفاع الوطني، بالإضافة إلى آخرين من الفيلق الخامس المشكّل روسياً بشكل أساسي من مناطق المصالحات، إلا أن المعركة لم تنته.

وقد تمكنت روسيا من استعادة السيطرة مرة أخرى على البلدة، لكنّ التوجه الدولي العام، والأمريكي بشكل خاص، كان باتجاه عدم السماح لإدلب بالسقوط في يد روسيا، ودلّ على ذلك التقارب الأمريكي التركي الذي تمثّل في الحديث عن صفقة طائرات "إف 35" الأمريكية، واستيراد تركيا للنفط من كردستان العراق الذي يعني بالضرورة تخليها عن النفط الإيراني وبالتالي خسارة إيران لتركيا كسوق اقتصادية في المنطقة يمكن أن تساعدها في مواجهة العقوبات الأمريكية، وهو جزء مما تسعى إليه أمريكا.

وقد تمكنت روسيا من استعادة السيطرة مرة أخرى على البلدة، لكنّ التوجه الدولي العام، والأمريكي بشكل خاص، كان باتجاه عدم السماح لإدلب بالسقوط في يد روسيا، ودلّ على ذلك التقارب الأمريكي التركي الذي تمثّل في الحديث عن صفقة طائرات "إف 35" الأمريكية

إلا أن روسيا أصرت على المعركة، رغم محاولات تركيا الحثيثة لإقناعها بوقف الحملة فقد قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار في اجتماع مع القادة العسكريين للفصائل الثورية أن روسيا رفضت كل المقترحات التركية لوقف المعركة لكنّ المحاولات ما تزال مستمرة، وهذه المحاولات ثمن وقتها هو الدم السوري، كما أن تركيا أصرت على اتفاق صواريخ "إس 400" الروسية ما جعل أمريكا ترجع خطوة إلى الخلف، فقد صرّح وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أن تركيا إذا أصرت على صفقة "إس 400" فإننا سنوقف صفقة طائرات "إف 35"، والذي كان له ارتداداته المباشرة على منطقة إدلب وجعلها تتأرجح على صفيح من الرمال والنار، إلى أن بدأت معركة "دحر العدوان" التي أطلقتها الفصائل الثورية في المنطقة وسط تكتم إعلامي كبير على أهداف المعركة ومحاورها.

 

معركة "دحر العدوان":

تدرك تركيا جيداً أن الانهيار التام لكل الاتفاقات التي أبرمتها مع روسيا حول إدلب، سيعني بشكل حتمي المحرقة الكاملة للمنطقة، فانهيارها سيدفع روسيا بالضرورة إلى محاولة تحقيق أكبر نصر عسكري يرافقه حملات قصف واسعة ستشمل المنطقة بأكملها، وسيكون ثمنه دماء أكثر مما سقط منذ بداية الحملة الأخيرة بكثير.

لذلك تسعى تركيا مستفيدة من التوافق مع أمريكا التي أكدت على لسان مبعوثها الخاص إلى سوريا جيمس جيفري أن التنسيق بين واشنطن وأنقرة مستمر فيما يخص العملية السياسية والعودة إلى مسار جنيف، والذي يدّل على التوافق التام فيما يخص ملف إدلب، ويؤكده المعركة التي أطلقتها الفصائل العسكرية في منطقة إدلب ويف حماة والتي حملت اسم "دحر العدوان" بعد يومين من تغريدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على حسابه الشخصي في توتير والتي طلب فيها وقف الحملة على إدلب.

ويُعتقد أن المعركة والتي لن تكون شاملة، بل محدودة ضمن حدود المنطقة العازلة التي أقرتها اتفاقات أستانا فيما يخص اتفاق إدلب بين روسيا وتركيا، والتي سقطت مؤخراً في الحملة العسكرية الأخيرة، ينحصر هدفها بأمرين، الأول هو استعادة المناطق التي سيطرت عليها روسيا مؤخراً وإعادة الحدود إلى ما كانت عليه وإن تعدى تلك المناطق فلزيادة الضغط على الروس وإيصال رسالة مفادها أن الموازين يمكن أن تُقلب، والثاني يتمثل في إجبار روسيا على وقف الحملة العسكرية والقبول بالوضع الحالي في المدى المنظور. وخصوصاً أن اجتماعين دوليين بدأ الحديث عنهما الأول سيكون في القدس بين أمريكا وروسيا وإسرائيل والذي سيتناول بشكل أساسي الملف السوري، والثاني قمة مجموعة العشرين في أوساكا في اليابان والمخطط أن يتم فيه اجتماعات ثانية بين أمريكا وروسيا وأمريكا وتركيا فيما يخص سورية وإدلب على وجه الخصوص.

اجتماعان دوليان بدأ الحديث عنهما الأول سيكون في القدس بين أمريكا وروسيا وإسرائيل والذي سيتناول بشكل أساسي الملف السوري، والثاني قمة مجموعة العشرين في أوساكا في اليابان

ويبقى الرهان الآن على ما ستتمكن الفصائل من تحقيقه في معركة دحر العدوان، لتحقيق الضغط المطلوب على روسيا واسترجاع المناطق المقضومة في الحملة الأخيرة، ووقف المذبحة المستمرة فيما تبقى من أرض سورية خارج سلطة استبداد الأسد والاحتلالين الروسي والإيراني.