أي علاقات أمس واليوم بين حزب الله وسورية؟

2019.05.29 | 12:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

مع بدء انحسار وتيرة الصراع في سورية، تتجه الأنظار مجدداً صوب الأطراف السياسية التي ضمنت بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة، وفي مقدمها إيران وحزب الله اللبناني الموالي لها. هذان الطرفان مارسا دوراً حاسماً في لعبة البقاء هذه، ما يعزّز وجهة النظر التي تستبعد احتمال إقدام النظام السوري على تحدّي الأجندة السياسية الإيرانية. لكن، إذا كانت أحداث الماضي مفتاحاً لفهم وقائع الحاضر، سيكون في وسعنا القول إن مثل هذا الاستنتاج ليس مؤكداً البتة. إذ، على الرغم من أن الطلاق السوري مع إيران وحلفائها ليس وارداً، إلا أن العلاقات معهم أكثر تعقيداً مما يبدو على السطح. ففي مراحل سابقة مختلفة، كان الطرفان لايثقان ببعضهما البعض، ولديهما تضارب في الأهداف. كان الإحساس العميق بديناميكيات القوة وموازينها هو في الواقع الذي يحرّك توجّهاتهما. كما أن سلوكهما كان يتحدّد أساساً بالمصالح السياسية، حتى حين لا تتداخل هذه المصالح. والصلات بين سورية وحزب الله تكمن في جوهر العلاقات السورية – الإيرانية. فطيلة زهاء أربعة عقود، كانت الروابط بين سورية وحزب الله تجسّد أيما تجسيد طبيعة الديناميكيات بين دمشق وطهران. والتوترات كانت تندلع حين تشعر سورية أو حزب الله أن أحدهما يتعدّى على سلطة الآخر.

وهكذا، في ثمانينيات القرن الماضي، إبّان الحرب الأهلية اللبنانية، انغمس الطرفان في لجج النزاعات، حين تحدى حزب الله حلفاء سورية وأهدافها. وحالما وضعت الحرب أوزارها في العام 1990، قَبِلَ حزب الله واقع التفوّق السوري، ووازن ببراغماتية بين المصالح السورية والإيرانية، على رغم الاضطراب الذي شاب علاقته مع دمشق حين كان أحدهما يعتقد أن الآخر يتجاوز خطوطه الحمر. كانت إيران وحزب الله تشعران بالقلق من احتمال أن يهدّد نجاح المفاوضات السورية- الإسرائيلية مصالحهما في لبنان، فيما كانت دمشق غير مستعدة للاعتراف بهذه المشاغل، حتى حين كانت تستخدم قدرات حزب الله كورقة ضغط ضد إسرائيل.

صحيح أن نظام الرئيس بشار الأسد رحّب بتدخل حزب الله في سورية العام 2012، لكن لم يفعل ذلك عن طيب خاطر. والحال أن إيران وحزب الله أرسيا قواعد نفوذ في سورية باستقلالية عن مؤسسات الدولة، خاصة في أوساط الأقلية الشيعية في البلاد، وفي قطاعات محدودة من الطائفتين السنّية والعلوية، الأمر الذي اعتبره نظام الأسد تعدّياً على سلطته وسيادته. لقد أدرك النظام السوري أن إيران وحزب الله يسعيان، من خلال حمايته، إلى الحفاظ على مصالحهما الخاصة في سورية ولبنان. بيد أن الوضع في سورية تبدّل. فالتدخل الروسي في العام 2015 غيّر كيفية تعاطي النظام السوري مع حزب الله وإيران، بعدما شعر هذا الأخير أن ثمة فرصة كي يعيد توكيد سلطته. والحصيلة المحتملة لذلك هي العودة إلى العلاقات التي كانت قائمة قبل الحرب، بدلاً من احتمال بروز تحوّلات جذرية في العلاقات بين سورية وحزب الله.

 

حزب الله وسورية من 1982 إلى 2011

خلال العقود الثلاثة التي سبقت تموضع قوات حزب الله في سورية، كانت علاقات الحزب مع سورية انعكاساً لمراحل الصعود والهبوط في تحالف دمشق وطهران. وفي حقبة الثمانينيات، تطوّرت روابط سورية وحزب الله، فيما كانت إيران تحاول تصدير ثورتها الإسلامية. خلال أوقات متباينة، كانت أجندات سورية وحزب الله تتناقض، ما أسفر عن فترات قصيرة من العنف. لكن، في نهاية الحرب الأهلية اللبنانية العام 1990، تبدّلت الأحوال. فقد قَبِل حزب الله الدور المُهيمن لسورية في لبنان وحوّل تركيزه، اتّساقاً مع تفضيلات دمشق، نحو منازلة الاحتلال العسكري الإسرائيلي لجنوب لبنان. وفي العام 2005، حين انسحبت القوات السورية من لبنان، كان حزب الله يحمي مصالح دمشق في البلاد، في الوقت نفسه الذي كان يُحسّن فيه إلى درجة كبيرة نفوذه هناك.

 

حقبة الثمانينيات المضطربة
كانت مرحلة الثمانينيات عرضاً من أعراض الطبيعة المنفعية التبادلية التي لطالما ميّزت العلاقات بين سورية وإيران. فالبلدان أقاما علاقات دبلوماسية العام 1947، على رغم أن عاهل إيران آنذاك، الشاه محمد رضا بهلوي حليف الولايات المتحدة، كان على طرفي نقيض مع الحكومات الوطنية المتعاقبة الموالية للسوفييت في دمشق. وقد تحسّنت العلاقات السورية – الإيرانية غداة صعود الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة في العام 1970 وتحرّكه نحو ترقية علاقاته مع إيران، بسبب تنافسه مع العراق وحاجته إلى التأقلم مع تقارب الرئيس المصري أنور السادات مع إسرائيل بعد حرب تشرين/أكتوبر 1973. تمخضت هذه التبادلات عن زيارة قام بها الأسد إلى طهران في كانون الأول/ديسمبر 1975. لكن، لأن الدولتين اختلفتا حول مفاوضات مصر مع إسرائيل، لم يكن لتزايد الاتصالات بينهما سوى تأثير ضئيل على التحالفات الإقليمية. مع ذلك، سمح هذا للأسد بموازنة منافس سورية الرئيس: العراق. كانت سورية والعراق بقيادة نظامين بعثيين متنافسين، يتسابقان على النفوذ وتزعّم القضايا العربية الأوسع، وكان يريد من شاه إيران إقناع واشنطن بتبنّي مقاربة أكثر توازناً إزاء الصراع العربي- الإسرائيلي.

في الوقت نفسه، وفي سياق براغماتيته الحادة والنموذجية، كان الأسد يدعم المعارضة الإسلامية الإيرانية. فهو منح قادة بارزين في المعارضة الإيرانية جوازات سفر سورية، فيما كان يطلب من حلفائه في لبنان توفير التدريب العسكري لهم. وفي أواخر السبعينيات، أقامت سورية علاقات متينة مع شخصيات معارضة من خلال الزعيم الشيعي اللبناني- الإيراني الصاعد موسى الصدر. وفي بيروت، سعى الصدر إلى مؤازرة حلفاء إقليميين له لدعم حركته المؤسّسة حديثا "أمل"، ووفّرت له علاقاته الوثيقة مع نظام الأسد مثل هذه المساندة.

عمدت الثورة الإسلامية في إيران إلى تطوير روابط طهران مع دمشق. كانت سورية، التي استخدمت رصيد روابطها السابقة مع المعارضة الإيرانية، أول دولة عربية تهنّىء قيادة مابعد الثورة. وفي حين كان العديد من الدول العربية يخشى من محاولة إيران تصدير الثورة إلى السكان الشيعة العرب، إلا أن نظام الأسد لم يشاطرهم مثل هذه المخاوف. كان الأسد، المُتحدّر من الأقلية العلوية، خائف أكثر من جماعة الإخوان المسلمين السنّية. وحين شنّت هذه الجماعة حملة هجمات ضد نظام الأسد عامي 1981 و1982، تخلّت عنها طهران.

هذه الروابط السورية- الإيرانية، مهّدت الطريق أمام صعود نجم حزب الله في لبنان، حيث كان ينتشر آلاف الجنود السوريين منذ العام 1976 للمساعدة على إطفاء حريق الحرب الأهلية. وفي العام 1982، وبعد فترة وجيزة من الغزو الإسرائيلي للبنان لطرد الفصائل الفلسطينية في حزيران/يونيو، سمح الأسد لمئات من عناصر الحرس الثوري الإيراني بالدخول إلى سهل البقاع للمساهمة في تأسيس حزب الله. ولاحقاً، وصف نعيم قاسم، نائب الأمين العام للحزب، الجهود الإيرانية بأنها "أنشأت معسكرات التدريب في منطقة البقاع اللبناني لتدريب الراغبين بذلك، واكتشف الناس نموذجاً راقياً في التربية والإعداد والأخلاقية والإيمان".

أدى الغزو الإسرائيلي إلى الحد مؤقتاً من النفوذ السوري في لبنان، وعزّز التعاون بين نظام الأسد وإيران. وقد حاولت القوات الغربية متعددة الجنسيات، التي انتشرت في لبنان في أعقاب الغزو، تأمين انسحاب سورية من البلاد، فيما كان الجيش الإسرائيلي ينشط أساساً في جنوب بيروت كما في جنوب لبنان. حينها، بدأت الخلايا الأولى لحزب الله بمهاجمة القوات الإسرائيلية والغربية، ما سمح لهذا الحزب المتبرعم بتوسيع رقعة نفوذه وانتشاره. لكن الحزب لم يتطور سوى لاحقاً ليكون تنظيماً أكثر اتساقاً. وهذا حدث في العام 1985، حين أصدر الحزب وثيقة علنية حدّد فيها برنامجه السياسي، مدشّناً بذلك حقبة جديدة من السياسات الثورية الشيعية.

في النصف الثاني من الثمانينيات، خدمت نشاطات حزب الله الأهداف السورية في لبنان وتحدّتها في آن، ما أسفر عن أولى علائم التوتر بين الطرفين. فقد بدأ الحزب يخطف مواطنين غربيين في بيروت، على نمط السياسات الثورية لإيران آنذاك. وقتها، أفادت سورية من اعتبارها قوة استقرار مُحتملة في لبنان، على عكس حزب الله، لكن كانت هناك أيضاً مضاعفات سلبية في سلوكيات الحزب العنيفة هذه. ففيما كان النظام السوري يحاول إعادة توكيد هيمنته على البلاد، تعيّن عليه منع إيران من فرض أجندتها الخاصة. كذلك، فيما كان حزب الله يسعى إلى قيادة المقاومة ضد إسرائيل، كانت دمشق تشعر بالقلق من انها قد تخسر سطوتها على شيعة لبنان. لذلك، كان السوريون حذرين من مساندة جماعة تدعمها إيران كي تكون ممثّل الطائفة الشيعية كأمر واقع، فيما حليفها الشيعي الأول هو حركة أمل.

هذا التنافس المتفاقم أدى إلى تصاعد التوترات، وفي خاتمة المطاف إلى اشتباكات مسلّحة بين حركة أمل وحزب الله. كان الجيش السوري يتدخّل بين الفينة والأخرى ضد حزب الله لصالح حليفته أمل. ويصف عقل حمية، أحد مسؤولي أمل الذي لعب دوراً أساسياً في النزاع مع حزب الله، المناخ الذي ساد حينها كالآتي: "حاولنا التحدث مع الإيرانيين، وأبلغناهم بأننا لا نريد توتراً بيننا. لكن حزب الله صار أكثر عناداً في بعلبك والقرى المحيطة بها. والإيرانيون قالوا لنا إن بإمكاننا المقاومة سوية، لكن التطورات على الأرض ذهبت في منحى آخر. كان للإيرانيين أجندتهم الخاصة، ويعملون لمشروع جديد".

في أيار/مايو 1986، خلّف القتال بين الطرفين ثلاثة قتلى من حزب الله وجنديين سوريين إثنين. وحين خطف حزب الله ضابطين سوريين، رد الجيش السوري باعتقال العديد من أعضاء الحزب. وفي شباط/فبراير 1987، قتلت القوات السورية عناصر من حزب الله في ثكنة فتح الله، مقر الحزب في غرب بيروت. هؤلاء الضحايا لم يشاركوا سابقاً في القتال بين الحزبين، ما دفع العديدين إلى التكهن بأنهم أعدموا كرسالة تحذير لحزب الله. وقد اتهم صبحي الطفيلي، الأمين العام للحزب آنذاك، سورية بـ"التآمر مع إسرائيل"، لكن الحزب امتنع عن الرد. وبعدها بسنوات عدة، سيكتب نعيم قاسم أن "الحسرة" على وقوع هذا الحدث باقية.

في أعقاب مذبحة فتح الله، توسّع نطاق القتال بين أمل وحزب الله، وامتد حتى العام 1988، إلى أن نشر السوريون قواتهم في الضاحية الجنوبية ذات الغالبية الشيعية للفصل بين المتحاربين. وكتب قاسم لاحقاً أن قادة حزب الله طلبوا الاجتماع مع حافظ الأسد لمناقشة مسألة الانتشار هذه، فشهد هذا الاجتماع "نقاشاً إيديولوجياً وسياسيا" كان له عميق الأثر على مواقف الرئيس السوري من حزب الله. بيد أن صراع أمل وحزب الله تتابع فصولاً، إلى أن توصّلت سورية وإيران إلى اتفاق في تشرين الثاني/نوفمبر 1990 وضع حداً للقتال.

في هذه الأثناء، كانت تحوّلات عالمية كبرى تترك بصماتها العميقة على لبنان. ففي أواخر الثمانينيات، بات انهيار الاتحاد السوفياتي وشيكاً. وهذا أجبر دمشق على الانخراط في عملية تقارب مع الولايات المتحدة بهدف التعويض عن خسارتها لداعم دولي رئيس. ثم تتوّج هذا المسعى بمشاركة سورية في الإئتلاف الدولي لتحرير الكويت، ما وفّر لنظام الأسد فرصة لانهاء النزاع في لبنان وفرض سيطرته العسكرية على كل البلاد في تشرين الأول/أكتوبر 1990. وفي سياق تقاربها مع الولايات المتحدة، عملت سورية أيضاً لإطلاق سراح الرهائن الغربيين الذين كانوا لازالوا في حوزة حزب الله.

لم يلائم هذا التقارب المصالح الإيرانية، في ضوء العداوت بين طهران والعديد من القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة. بيد أن موازين القوى في لبنان مالت بقوة لصالح سورية، ما أجبر حزب الله على التأقلم مع الظروف الجديدة. وهو اختار التركيز على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان بالتنسيق مع دمشق، ماسمح له بالبقاء جزءاً من المقاومة المسلحة. كما وفّرت عمليات الحزب ضد إسرائيل نفوذاً لدمشق ضد تل أبيب، حين بدأ الطرفان مفاوضات مباشرة في الأشهر التي تلت مؤتمر مدريد للسلام العربي- الإسرائيلي في تشرين الأول/أكتوبر 1990.

 

التعاون في خضم أجندات متنافسة في التسعينيات

على رغم أن حقبة مابعد الحرب الأهلية في لبنان شهدت تعزيز علاقات حزب الله مع سورية، إلا أنها ألقت أيضاً أضواء على الطبيعة المتناقضة لهذه العلاقات. في البداية، فاقمت محادثات السلام السورية مع إسرائيل تباعد أهداف الطرفين. ففيما ادعى حافظ الأسد أنه يخوض معركة "سلام الشجعان"، أدرك حزب الله وإيران أن مثل هذه المحصلة قد تهدد مصالحهما في لبنان، لا بل وجود حزب الله نفسه في الواقع. بيد أن الوضعية الهيمنة لسورية، ضمنت ضبط حزب الله لتجنّب مجابهة أخرى مع دمشق.

مثل هذا الضبط تجلى بوضوح في أيلول/سبتمبر 1993، حين تظاهر مئات من عناصر حزب لله في بيروت ضد اتفاقات أوسلو التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. آنذاك، أطلق الجيش اللبناني، الذي كان عملياً تحت السيطرة السورية، النار على المتظاهرين العُزّل وقتل تسعة منهم. وعلى رغم أن هذا أثار احتجاجات جديدة، إلا أنه تم احتواء الوضع. هذا الحادث، الذي قد يكون وقع من دون موافقة سورية ضمنية، فاقم التوترات بين سورية وإيران وحزب الله. وفي الوقت نفسه، فُسّر هذا الحادث على أنه مؤشر على أن انتقاد مشاركة سورية في المحادثات مع إسرائيل غير مسموح، حتى حين كان الأسد، وهو ملك الرسائل المُزدوجة، يسعى إلى توجيه رسالة أنه قادر على ضبط حزب الله بعد أي صفقة سلام.

ويبدو أن هذه الرسالة وصلت بالفعل إلى واشنطن، ولخّص فحواها على نحو جيّد أنطوني ليك، مستشار الأمن القومي الأميركي آنذاك، في محاضرة ألقاها في أيار/مايو 1994. فهو علّق على الطريقة التي أثارت فيها مقاربة الأسد لمحادثات السلام مع إسرائيل قلق حزب الله وإيران، فلاحظ أن الرئيس السوري أعلن أنه يعتبر السلام خياراً استراتيجياً: "... وحينها شعر حلفاء بلاده السابقون المتطرفون بالتوتر الشديد.. فقادة حزب الله كانوا يبحثون عن الطريقة المُثلى لانتهاج أجندة متطرفة في مرحلة السلام اللبناني- الإسرائيلي. والمسؤولون الإيرانيون سارعوا إلى زيارة دمشق، لكنهم خرجوا على مايبدو بخُفّي حنين. وحين عادوا إلى بلادهم، بدأ رجال الدين الإيرانيون بانتقاد القيادة لفشلها في منع وقوع بلادهم في إسار العزلة".

في خاتمة المطاف، ضَمِنَ فشل المفاوضات السورية- الإسرائيلية والانسحاب الإسرائيلي المُنفرد من لبنان في أيار/مايو 2000، ألّا تفترق سورية عن حزب الله وإيران بسبب محادثات السلام. وحين توفي حافظ الأسد في أوائل حزيران/يونيو 2000، اقترب ابنه ووريثه بشار الأسد من حزب الله أكثر. لقد وجدت سورية وسائل أخرى لتبرير العمل العسكري ضد إسرائيل بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان، عبر الادعاء بأن أجزاء من الأراضي اللبنانية لاتزال محتلة. وهذا خدم حزب الله أيضاً، لأنه برّر استمرار مقاومته المسلّحة. ومُذاك، اعتبرت سورية وحزب الله أن مصالحهما الاستراتيجية متطابقة.

 

سورية تنسحب وحزب الله يمسك الزمام

مرة أخرى، تركت الديناميكيات الإقليمية المتحوّلة، التي أعقبت الغزو الأميركي للعراق العام 2003، بصماتها على علاقة سورية مع حزب الله. ففي شباط/فبراير 2005، جرى اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري في بيروت، وكان يعتقد على نطاق واسع أن النظام السوري متورّط في هذه العملية. وغداة تحقيقات الأمم المتحدة حول الجريمة، وُجّهت التهمة أيضاً إلى عناصر من حزب الله. كان الحريري وحلفاؤه ينوون الوقوف في وجه المرشحين الموالين لسورية في الانتخابات البرلمانية التالية، واعتقدوا أنهم سيضمنون الفوز بغالبية المقاعد، ما قد يقوّض النظام الذي تفرضه سورية في لبنان ويُضعف كلاً من حزب الله وسورية. وقد أجبرت التظاهرات المناهضة لسورية، جنباً إلى جنب مع الضغط الخارجي، الأسد على سحب قواته من لبنان في نيسان/أبريل، ماجعل حزب الله صانع القرار الرئيس على الأرض باسم تحالف سورية- حزب الله- إيران.

مع هذا التغيّر في ديناميكيات القوة، تبدّلت كذلك أولويات هذا التحالف الثلاثي، التي باتت الآن في عهدة حزب الله. فالاهتمام الأساسي لحزب الله لم يكن عودة الجيش السوري إلى لبنان، بل حماية سلاحه، وضمان دور قيادي لنفسه في السياسات الوطنية اللبنانية، وصون المصالح السورية والإيرانية في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها. نتيجة لذلك، نقحّ الحزب مقاربته مع سورية، فبدلاً من التشديد على التاريخ المشترك لسورية ولبنان، دافع الحزب عن علاقته مع دمشق عبر تصويرها بأنها "حليف المقاومة". بدوره، سمح سعي الطرفين المشترك لانتهاج درب المقاومة لحزب الله الاحتفاظ بسلاحه.

غداة الانسحاب السوري، لعب حزب الله دوراً رئيساً في العمل على تحييد خصوم سورية اللبنانيين سياسياً، فيما كان يحشد في الوقت نفسه حلفاء دمشق اللبنانيين. وهكذا، دشّن الحزب مرحلة جديدة في علاقته مع النظام السوري، لم يعد هو فيها الطرف الثانوي. لقد وضع الانسحاب خاتمة لسيطرة سورية المُطلقة على لبنان، فسعى حزب الله لملء الفراغ الذي خلّفه ذلك، بفضل النفوذ السياسي الذي وفّرتها له إمكاناته العسكرية وقدرته على تعبئة الطائفة الشيعية.

في العام 2005، انضم حزب الله إلى الحكومة اللبنانية للمرة الأولى. وبالتعاون مع حركة أمل- التي أصبحت حليفه الرئيس ضد تحالف 14 آذار، سمّى الحزب وزيرين أحدهما عضو في الحزب. وقد أوضح نعيم قاسم أن الحزب استنتج أن مشاركته في الحكومة أمر ضروري لأن الحكومة الجديدة قد تكون لها سلطة فعلية، على عكس سابقاتها تحت السيطرة السورية. كتب: "ستمارس (الحكومة) دوراً نشطاً في تحديد توجّه البلاد، بدلاً من مجرد التمتّع بصفة تنفيذية كما فعلت في الماضي". بكلمات أخرى، كان الحزب جاهزاً تماماً للمساعدة على تحديد وجهة مسار البلاد في المستقبل.

بات حزب الله الآن يتمتع باستقلالية ذاتية في عملية صنع قراراته، مع الاحتفاظ بتحالفه مع النظام السوري. والواقع أنه مرّت أوقات كانت سورية هي التي تحذو حذو سياسات الحزب. وهذا اتّضح في صيف 2006، حين انخرط حزب الله وإسرائيل في حرب دامت 34 يوماً. خلال هذه الحرب، فتح النظام السوري ترساناته الخاصة لتزويد الحزب بأسلحة للمرة الأولى، بما في ذلك صواريخ من عيار 220 و302 ملليمتراً. كان هذا مفاجئاً لإسرائيل. كانت سورية تأمل ألا يتداعى حزب الله جراء هذا النزاع، مُعززة بذلك ثوابت علاقتها معه: وهي أن الحفاظ على قوة أحد الطرفين، تتطلّب ضمان ألا تنال منه عوامل الضعف والوهن.

في الفترة بين 2006 و2011، توسّعت سطوة حزب الله. وفي الوقت نفسه، طبّعت سورية علاقاتها مع الدول الأوروبية، خاصة فرنسا في عهد الرئيس نيقولاس ساركوزي، مُنهية بذلك عزلة علقت في شباكها بعد اغتيال الحريري. وفي العام 2009، حدثت مصالحة برعاية السعودية بين نظام الأسد وبين السياسيين اللبنانيين المعارضين لدمشق، ثم تلتها بعد أشهر زيارة الأسد لبيروت في تموز/يوليو 2010. بيد أن هذا الوئام المؤقّت سرعان ما انهار في أوائل 2011، حين أسقط حزب الله وسورية حكومة الوحدة الوطنية في بيروت برئاسة سعد الحريري. وحين اندلعت الانتفاضة السورية في آذار/مارس 2011، تغيّرت مجدداً العلاقات بين النظام السوري وحزب الله.

 

تدخّل حزب الله في النزاع السوري

بات نظام الأسد، بعد اندلاع الانتفاضة، معتمداً على حزب الله وإيران للحفاظ على البقاء، ما حوّل ميزان القوى أكثر لصالحهما. كان رد الفعل العنيف للنظام على احتجاجات آذار/مارس 2011 قد أدى إلى عزلته إقليمياً ودولياً. وحين بدأ يخسر مساحات شاسعة من الأراضي العام 2012، قرر حلفاؤه التدخل عسكرياً، وقيل هنا أن حزب الله لعب دوراً كبيراً في قرار إيران دعم الأسد. بيد أن دور الحزب لم يتمحور أساساً حول إعادة بناء وتعزير قدرات قوات النظام، بل المساعدة على إقامة مؤسسات موازية على غرار الميليشيات المؤيّدة للنظام. وهذا كان استنساخاً لما فعله الحزب في لبنان، أي بناء قوات مسلّحة مستقلة في أحشاء دولة ضعيفة. في ذلك الحين، دخل التحالف بين حزب الله وسورية مرحلة جديدة لم يكن فيها الحزب يملي شروط العلاقة وحسب بل كان لديه أيضاً فرصة توسيع نفوذه الإيديولوجي والعسكري والسياسي داخل سورية نفسها.

في البداية، حصر حزب الله تدخّله في سورية في هدف حماية المواطنين من ذوي الجنسية المزدوجة اللبنانية- السورية الذين يقطنون على الضفة السورية من الحدود، ولم يؤكّد إلا لاحقاً التزامه بالدفاع عما يُسمّى محور المقاومة. وفي 11 تشرين الأول/أكتوبر 2012، وبعد مصرع عضو من حزب الله في سورية، اعترف حسن نصر الله، الأمين العام للحزب، بانخراط هذا الأخير في مجابهة محدودة وبـ"الصدفة"، حين كان يساعد القوات الحكومية على الدفاع عن 23 قرية حول بلدة القصير، قرب الحدود اللبنانية. وعلى رغم أن هذه القرى موجودة داخل الأراضي السورية، إلا أن نصر الله قال أنه يقطنها نحو 30 ألف مواطن لبناني من الطوائف كافة.

قبل نهاية 2012، كان نصر الله يضع أسس تبرير جديد يُشدّد على البون الشاسع بين طموحات إيران وحزب الله في سورية وبين طموحات أركان نظام الأسد.34 ففي خطاب ألقاه في 9 أيار/مايو، لاحظ الأمين العام أن الانتقادات وجهت إلى سورية بسبب عدم تحرّكها عسكرياً لمقاومة إحتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان، على عكس ماتفعل في لبنان. وتابع أن التحرّك في لبنان ممكن بفعل ضعف الدولة اللبنانية، على عكس سورية حيث توجد دولة قوية. بيد أن النزاع السوري غيّر الوضع وخلق "فرصة" لتدشين مقاومة مسلّحة في الجولان. بكلمات أخرى، أبرز نصر الله المزايا المُحتملة لوجود دولة سورية ضعيفة، مُبرزاً كيف يمكن لهذا أن يسمح لحزب الله بانتهاج استراتيجية المقاومة ضد إسرائيل. بيد أن استعداد الحزب وإيران للإفادة من ضعف سورية، كان أمراً مؤلماً ومريراً بالنسبة إلى نظام الأسد.

مع تصاعد الخسائر في الأرواح في صفوف الحزب، والتي كانت يُجسدها عدد الجنازات، أضحى من الصعب على نحو متزايد تبرير المشاركة في القتال بالحديث عن اشتباكات محدودة. وفي 19 أيار/مايو 2013، شنت قوات من حزب الله وسورية هجوماً كبيراً لاستعادة بلدة القصير دام نحو 20 يوماً، سقط فيها للحزب عدد كبير من القتلى. وبعدها، غيّر نصر الله المسار وطرح في 25 أيار/مايو 2013 محاججة مفصّلة حول أسباب الانخراط الاستراتيجي للحزب في الحرب السورية، مُلمحاً بذلك إلى فترة بقاء طويلة هناك. قال نصر الله أن الوضع في سورية لم يعد يتعلّق بـ" شعب يشارك في ثورة ضد النظام، أو مسألة إصلاحات". بل على العكس بات انتشار الجماعات المسلحة في سورية يفرض أخطاراً على لبنان، وحزب الله تدخّل لحماية مصالح البلاد. كما تحدّث عن تهديد وجودي، ليس فقط لحزب الله وللسكان الشيعة في لبنان بل لكل البلاد، بمن فيهم السنّة، مضيفاً "لدي أدلة تُبت ذلك". وإذا ما سمح حزب الله بانهيار النظام السوري، فستقع المقاومة في شباك الحصار:

"سورية هي ظهر المقاومة وسندها والمقاومة لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي أو يكشف ظهرها أو يكسر سندها ولا نكون أغبياء والغبي هو من يتفرج على المؤامرة تزحف إليه ولا يتحرك، إذا سقطت سورية في يد الأميركي والتكفيري ستحاصر المقاومة وسوف تدخل "اسرائيل" الى لبنان لتفرض شروطها عليه وسيعاد إدخال لبنان إلى العصر الاسرائيلي، وإذا سقطت سورية ضاعت القدس وشعوب منطقتنا مقبلة على عصر قاسي وسيء ومظلم ونحن الآن أمام طرفين في الصراع الأول هو المحور الغربي والأميركي والذي يتوسل في الميدان الجماعات التكفيرية التي تدمر الحاضر والماضي والمستقبل، وفي الطرف الآخر دولة لها موقف من المقاومة وتدعو الى الحوار، وحزب الله لا يمكن أن يكون في جبهة فيها أميركا واسرائيل".

مع توسّع انخراط حزب الله في النزاع على نحو واسع، مُتمدداً إلى الأجزاء الشمالية لسورية، خاصة حلب والأرياف الشاسعة، بات من المُحتّم أن يقوم الحزب بالمساعدة على تكوين ميليشيات خارجية وقوات مسلحة سورية غير نظامية لمساندة قواته.

اتخذ توجّه إيران وحزب الله لتشكيل الميليشيات شكلين: تجنيد مقاتلين من بلدان كالعراق وأفغانستان وباكستان، وفي الوقت نفسه استنفار وتنظيم الطائفة الشيعية السورية. هذه الجهود كانت لها أكلاف باهظة على إيران، إذ قدّر ستيفان دي ميستورا، المبعوث الخاص آنذاك للأمم المتحدة، ما دفعته إيران العام 2015 بنحو 6 مليارات دولار سنوياً في شكل مساعدات مالية وعسكرية لدعم نظام الأسد.41 كما تعيّن على إيران أيضاً دفع رواتب آلاف المقاتلين الأجانب الذين جلبتهم إلى سورية.

كان القتال في سورية بالنسبة إلى حزب الله وإيران فرصة ليس فقط لزرع موطء قدم في ذلك البلد عبر الميليشيات الشيعية المحلية، بل أيضاً لتسهيل أي تدخل إيراني مستقبلي في الشرق الأوسط، من خلال تدريب ميليشيات غير سورية موالية لإيران. وقد كشف محمد علي فلكي، الذي كان جنرالاً في الحرس الثوري، الدوافع المُضمرة لطهران، حين أبلغ وكالة أنباء إيرانية أن إيران أقامت "جيش تحرير في جبهات تشمل سورية واليمن والعراق". حزب الله كان في قلب هذا الجهد: فمع التثقيف العقائدي، والانتظام، والخبرة، تسنّم الحزب دوراً قيادياً في المعارك الكبرى.

وفقاً لحلفاء سورية في لبنان، أقلق هذا التحدي لسلطة الدولة السورية نظام الأسد، الذي لم يعتَدْ السماح بوجود جماعات مسلحة خارج سيطرته. وقد اتخذ رد فعله أشكالاً مختلفة كتقييد حرية حركة الميليشيات داخل منطقة دمشق أو الحد من الاحتفالات الشيعية العامة. وهذا يذكّر بالتوترات السابقة في علاقة دمشق مع إيران وحزب الله، حين كانت الأولى تُطل على الأمور من منظور سلطة النظام وخطوطه الحمراء الراسخة. كان القلق الرئيس للنظام يدور حول تعبئة حزب الله وإيران للطائفة الشيعية السورية أكثر من انشغاله بالميليشيات الأجنبية. إذ تحاول إيران وحزب الله تكوين إطار مؤسسي (بما في ذلك تأسيس شبكة دينيةـ وميليشات عقائدية وحشد عناصر طائفية داعمة، وكل ذلك خارج إطار سيطرة الدولة ونفوذها) يحل مكان المجتمع السوري نفسه، واضعَين بذلك أسس جهود التعبئة المستقبلية.

مثل هذه الجهود تتمدّد إلى الدين نفسه. ففي العام 2012، تم تأسيس المجلس الإسلامي الجعفري الأعلى، وهو أول هيئة تمثيلية شيعية مستقلة في سورية. هذه الهيئة هي رجع صدى للمجلس الإسلامي الشيعي الاعلى في لبنان، الذي أسّسه موسى الصدر العام 1967 لتمثيل السكان الشيعة ولوضع أسس مشاركة سياسية أوسع لهم. وفي حين أن الدولة السورية أسّست هذه الهيئة بمرسوم، إلا أنها (الهيئة) تعمل فعلياً كامتداد لحزب الله وإيران، وترعى وتدعم أتباع حزب الله في سورية. وقد نظّم رجال الدين في الهيئة جنازات لمقاتلين شيعة سقطوا في المعارك، وشاركوا في احتفالات الثورة الإسلامية في إيران.

مع نهاية العام 2013، أصبحت الجماعات المسلحة الشيعية السورية أكثر ظهوراً، فباتت صور نصر الله وحزب الله حاضرة غالباً في يافطاتها وشرائطها المصوّرة. أصبحت قوات الرضا، وهي أبرز ميليشيا في محافظة حمص، تجسيداً واضحاً للتوترات بين حزب الله والنظام السوري. فهي تجنّد عناصر من مدينة حمص والقرى المحيطة بها، وساعدت على كسر الحصار عن بلدتين شيعيتين في محافظة حلب، هما نبل والزهراء. وفي هذه الأثناء، كان النظام يحاول الحد من نفوذ حزب الله عبر فرض سلطة الدولة السورية على قوات الرضا.

مع استعادة نظام الأسد ثقته بنفسه ونفوذه العام 2017، أي بعد سنتين من التدخّل العسكري الروسي، بدأ في إعادة توكيد سيطرته على الميليشيات السورية، بما في ذلك الميليشيات الشيعية. ووفقاً لمسؤول في حزب الله، أعرب ضباط ومسؤولون سوريون عن قلقهم من تغلغل الحزب في النسيج المجتمعي السوري. ذلك أن وجود ميليشيات طائفية شيعية يتحدّى الطابع العلماني الرسمي للدولة السورية. علاوة على ذلك، انتقد عناصر الميليشيات الشيعية السورية أجهزة أمن الدولة السورية على صفحات وسائط التواصل الاجتماعي، واتهموها بانعدام الكفاءة، ما مثّل تحدياً فاقعاً لنظام يسعى لأن يُحكِم سيطرته على كل شيء. وبالتالي، قررت الحكومة السورية دمج قوات الرضا في وحداتها المسلحة. ومن خلال بدء دفع رواتب أعضاء الميليشيات، زاد النظام من وتيرة نفوذه بينهم وقوّض هيمنة حزب الله.

كشف تحقيق داخلي أجرته لجنة في قوات الرضا، سُرِّب إلى موقع إلكتروني لبناني في نيسان/أبريل 2017، النقاب عن العقبات التي تُواجه إيران في خضم محاولاتها لتحويل سورية إلى أرض اختبار لأجندتها الإقليمية. سلطّت هذه الوثيقة الضوء على الخلافات بين السوريين الأعضاء في هذه القوات وبين القيادة اللبنانية، وأشارت إلى تظلمات السوريين لأنهم يتقاضون رواتب أقل من المقاتلين اللبنانيين، ورغبتهم في قيادة سورية لهم. مثل هذه التوترات ناجمة ليس فقط عن حساسيات وطنية، بل أيضاً عن فشل "حزب الله" في التثقيف العقائدي، وأيضاً في تحويل هذه الأقلية المتناثرة جغرافياً الى كتلة سياسية وتعبوية صلبة.

والحال أن الطائفة الشيعية السورية لم تكن متماسكة وموحّدة، ما عرقل تشكيل منظمة شيعية واسعة تمتد إلى كل أنحاء سورية. ثم أن الشيعة يمثلون أقلية ضئيلة من إجمالي السكان السوريين، أي 1-2 في المئة موزعين في كل أنحاء البلاد، ما حدّ من التهديد الذي قد يفرضونه على النظام. وقد تمكّن النظام السوري في نهاية المطاف من فرض سيطرته على الجماعات الشيعية التي باتت تعرض الآن في منافذها الإعلامية صور حافظ وبشار الأسد.

لكن، كان ثمة شيء أكثر عمقاً يحدث طراً بعد العام 2015: فروسيا تدخّلت في أيلول/سبتمبر 2015 دفاعاً عن النظام والدولة السورية، لكن جهودها لإعادة بناء قدرات الدولة اصطدمت مع مساعي إيران لخلق مؤسسات يمكن أن تقفز فوق سلطة الدولة. ثم أن الروس، بتعزيزهم النظام وتمكينه من إعادة الأراضي، سمحوا للقيادة السورية بأن تُحيي بالتدريج سلطته المُحتضرة. وهكذا، وبعد سنوات عدة من التبعية، بات في إمكان السوريين أخيراً إعادة التوازن إلى العلاقة مع إيران وحلفائها. وبفضل روسيا، حاز نظام الأسد على فرصة لضمان ألا تقطف إيران ثمار نقاط الضعف السورية.

هذه الديناميكيات المُلتهبة برزت بوضوح على وجه الخصوص في جنوب غرب سورية، قرب مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل. فإيران وحزب الله اغتنما فرصة الضعف السوري، وبدءا في بناء بنى تحتية في المنطقة لدعم مجابهة مُستدامة مع إسرائيل. شكّل هذا تحدياً للتفاهم الضمني القائم منذ أمد بعيد مع إسرائيل حول الحفاظ على هدوء جبهة الجولان، وفقاً لاتفاقية الهدنة العام 1974. وقتها، سارعت إسرائيل إلى الإعلان بأنها لن تسمح لإيران وحزب الله ببناء قدرات عسكرية في سورية، وبدأت بالإغارة على هذه المواقع. في المقابل، لم تقم روسيا بنشر أجهزة الدفاع الجوي، ما فسّره الكثيرون على أنه رسالة بأن موسكو تعارض توسيع إيران وحزب الله وجودهما قرب الجولان، جزئياً لأن الكرملين خشي أن يقوّض النزاع المحتمل اللاحق جهوده لتوفير الاستقرار لحكم الأسد.

في هذه الأثناء، برزت مؤشرات على الأرض عن وجود احتكاكات بين روسيا وحزب الله. إذ أدى أحياناً نشر الشرطة العسكرية الروسية على الحدود اللبنانية – السورية وعلى الجانب السوري من خطوط الهدنة في مرتفعات الجولان إلى مفاقمة التوترات مع حزب الله. وقد جرى تسوية مجابهة نادرة في ضواحي القصير بين قوات حزب الله والقوات الروسية في حزيران/يونيو 2018، حين انسحبت القوات الروسية وحلّت مكانها، على ما قيل، قوات سورية. قبل شهر من هذا الحادث، كانت موسكو تدعو كل القوات الأجنبية إلى مغادرة سورية، وهذا بدا أنه يشمل قوات إيران وحزب الله.

كذلك، لم تكن دمشق مُحايدة كلياً في مثل هذه المواجهات بين روسيا وإيران. فحين أعلن علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الأعلى الإيراني للشؤون الخارجية، أن تدخل إيران في سورية منع انهيار نظام الأسد، تلقى توبيخاً من صحيفة "الوطن" السورية شبه الرسمية التي يملكها ابن خال الأسد، لا بل وصلت تفاعلات هذه النزاعات إلى طهران. فقد حذّر بهروز بونيادي، النائب في البرلمان الإيراني، من أن تحالف الأسد مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمكن أن يضحّي" بإيران لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل. قال: "بشار الأسد يتقرّب بصفاقة كاملة من بوتين"، مضيفاً: "روسيا لن تكون صديقاً موثوقاً لنا".

صحيح أن روسيا وإيران لديهما أولويات متناقضة في سورية، لكن من غير المحتمل أن يغيّر ذلك على نحو جذري علاقات دمشق مع طهران وحزب الله. فنظام الأسد سيواصل استخدام الوجود الروسي لإحياء سلطته عبر مؤسسات الدولة، خاصة منها الأجهزة العسكرية والأمنية، ولإعادة التوازن في علاقاته مع إيران. كما أن النظام السوري وحزب الله، لطالما أظهرا، في إطار العلاقات السورية- الإيرانية، قدرة على مصالحة أولوياتهما في خضم الديناميكيات المتغيّرة للتحالف. والميل نحو الاسقرار ساعد كلا الجانبين على التغلّب على التوترات في علاقتهما.

وفيما تواصل روسيا تعزيز نفوذها في مؤسسات الدولة السورية، وفي البلاد ككل، قد يشهد نفوذ حزب الله تراجعا. لكن لا الأسد، ولا حتى روسيا إلى حد ما، يرغبان في قطيعة مع حزب الله. فتواصل العلاقة بين النظام والحزب ليس حجر الزاوية في علاقات دمشق مع إيران وحسب، بل من المحتمل أيضاً أن يوفّر الحزب ورقة ضغط قيّمة في أي مفاوضات مستقبلية مع الولايات المتحدة والدول العربية ذات الأغلبية السنّية، أو مع إسرائيل. وطالما تحافظ سورية على علائقها مع حزب الله، سيكون ثمة مبرر للتعاطي مع نظام الأسد بكونه كفة توازن محتملة مع حزب الله وداعميه الإيرانيين.

أما بالنسبة إلى النظام السوري، ستعني العودة إلى علاقات ماقبل الحرب مع إيران وحزب الله فصل مرتفعات الجولان عن الصراعات الإقليمية بالواسطة، ومنع فتح جبهة جديدة مع إسرائيل من خلال الأراضي السورية. وفي حين أنه من غير الواضح كيف ستتفاعل إيران وحزب الله مع هذا التوجّه، إلا أن عليهما أن تدركا بأن تمكين الأسد من إستعادة السلطة، ستعني أن النظام سيعود إلى سلوكياته السابقة. وهنا، قد يكون من المفيد التذكير بأن نظامي حافظ وبشار الأسد سعيا باستمرار إلى الحفاظ على استقلاليتهما في مجال العمل بمرونة، وفي انتهاج محصلات سياسية لا تتطابق بالضرورة دوماً مع مصالح الحلفاء.

سيهدف الأسد أيضاً، بدعم روسي، إلى مواصلة تمديد سلطة الدولة على الميليشيات السورية، فيحل بعضها أو ربما يدمج عناصرها في القوات المسلحة النظامية. قد يسعى النظام كذلك إلى التقارب مع دول الخليج (منافسي إيران الإقلمييين الرئيسيين) لمحاولة ترسيخ سلطته، وربما أيضاً للسيطرة (وإن ليس لاستئصال) على النفوذ الإيراني. وهذا قد يسمح له بأن يلعب مجدداً ورقتي الدول العربية وإيران ضد بعضهما البعض لصالحه. بيد أن مدى نجاح هذا الجهد سيعتمد في نهاية المطاف على مدى قدرته على تعزيز ما هو الآن دولة ضعيفة، إذ لايملك النظام حالياً سوى قدرات ضئيلة لمنع القوى الإقليمية من خوض صراعات بالواسطة داخل الحدود السورية.

 

خلاصة
لعقود عدة، كانت العلاقة بين النظام السوري وحزب الله تتحدد بالمرونة في خضم ديناميكيات القوة المتحوّلة، وهذا أمر لن يتغيّر في المستقبل المنظور. فالقدرات الكامنة في هذه العلاقات تنبع من حقيقة أنهما، وعلى رغم إدراكهما بوضوح لطموحات كل منهما، قادران على تحديد متى تكون لأي منهما اليد العليا. على سبيل المثال، تأقلم حزب الله مع الهيمنة السورية على لبنان بعد العام 1990، تماماً كما لم يكن لدى نظام الأسد من خيار سوى القبول حين شكّلت إيران وحزب الله ميليشيات شيعية مستقلة عن النظام بعد العام 2012، لمحاولة تحويل مرتفعات الجولان إلى جبهة جديدة ضد إسرائيل.

أدخل التدخل العسكري الروسي في العام 2015 متغيّراً جديداً على المعادلة. فتشديد موسكو على إعادة بناء قدرات الدولة لمساعدة النظام على استعادة مناطق واسعة من الأراض السورية، بدأ يُنهي تهميش نظام الأسد في الداخل. والدولة السورية باشرت إعادة توكيد سيطرتها على الميايشيات الموالية لها، بما في ذلك الميليشيات الشيعية وثيقة الصلة بحزب الله وإيران. وفي هذه الأثناء، اصطدمت طموحات إيران في مرتفعات الجولان بالجهود الإسرائيلية لمنعها من بناء بنى تحتية عسكرية في سورية. وحقيقة أن روسيا لم تفعل شيئاً لكبح جماح الغارات الجوية الإسرائيلية على مواقع حزب الله وإيران، لم يفعل شيئاً سوى التوضيح بأن موسكو أيضاً ليست مستعدة لتحويل سورية إلى حلبة جديدة لصراع إيران مع إسرائيل. صحيح أن قرار الولايات المتحدة الاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان يخدم أجندة حزب الله وإيران في جنوب سورية، إلا أن سجل النظام السوري حول تجنّب المجابهة المباشرة مع إسرائيل، يشي بأن دمشق ستدفع في الغالب باتجاه استمرار الهدوء على خطوط جبهة مرتفعات الجولان.

الآن، لايبدو وارداً أن يُجبَر الأسد على الإختيار بين إيران وروسيا. فهذه الأطراف كلها تتوحّد وفق سياسات مرنة وضد منافسين مشتركين لهما، مايعطي كلاً منهما مجالاً لاتخاذ قرارات تتطابق مع مصالحه الخاصة. وبالتالي، لاروسيا ولا إيران ستحاولان إستئصال وجود الآخر في سورية، إذ ان حكومتي هذين البلدين تعترفان بأن هذا لن يكون ممكناً من دون التسبّب بأضرار فادحة. كما تُدرك كلٌ من سورية وروسيا وإيران أن أي شريك يتعرض إلى الضعف، يمكن أن يقود إلى خسارتهم هم أنفسهم للسلطة. وفي هذا السياق، ستتواصل روابط حزب الله مع دمشق وفق الديناميكيات نفسها التي انبثقت في السابق.

لـ قراءة الدراسة مِن المصدر (اضغط هنا).