أوجلان وتاريخ الفرص الضائعة

2019.06.17 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يغرق قارئ كتاب مراد يتكين "الفخ الكردي" في سرد تفصيلي لوقائع إخراج أوجلان من دمشق، إلى درجة المخاطرة بإضاعة مغزى اللوحة الكلية. لكن بعض التفاصيل الصادمة تعيد إليه الحس النقدي الذي يبحث، وراء سطح الأحداث، عن معنى تطورها.

يتفجع أنصار أوجلان عموماً من رحلة هروبه الطويلة من دمشق إلى اليونان، فروسيا، فإيطاليا، تلك الرحلة التي فشلت فيها لوبيات الحزب في أوروبا وروسيا في تأمين لجوء سياسي له، باعتبارهم عدم تجاوب حكومات تلك البلدان مع مطلب منح "القائد" اللجوء السياسي "مؤامرةً دولية" قادتها الولايات المتحدة ضد الحزب. 

الواقع أن تمكن أوجلان من البقاء طليقاً طوال أشهر، قبل تسليمه في العاصمة الكينية إلى المخابرات التركية، هو الذي ينبغي تسليط الضوء عليه. ذلك أن عبد الله أوجلان هو، في نهاية المطاف، قائد منظمة مسلحة تحارب جيش دولة عضو في حلف الأطلسي. ومن هذا المنظور، يفترض بدولتين كاليونان وإيطاليا، عضوين في الحلف نفسه، أن تسلماه لتركيا بدلاً من حمايته، فتركيا تعتبره إرهابياً قاتلاً مطلوباً للعدالة. وينطبق الأمر نفسه، بدرجة أقل، على روسيا. فلا دولة يمكن أن تتورط في حماية شخص بمواصفات أوجلان ما لم تكن لديها دوافع قوية كالمصلحة القومية. وإذا كان بالإمكان تفسير الأمر بخصوص اليونان التي بينها وبين تركيا عداء تاريخي تضاعف بعد الغزو العسكري التركي لجزيرة قبرص، فلا ينطبق التفسير نفسه على إيطاليا ودول أوروبية أخرى كانت مرشحة لاستقبال أوجلان، لكنها تراجعت تحت ضغوط أميركية.

إن ما ساعد على فتور همة تلك الدول في التجاوب مع الضغوط التركية لتسليم أوجلان، إنما هو نظرتها إلى المسألة الكردية في تركيا بوصفها قضية حق شعب يتوق إلى الاعتراف بوجوده والحصول على حقوقه في الحرية والعدالة والمساواة، وإلى الدولة التركية بوصفها دولة قمعية تمييزية تعاند الاعتراف بتلك الحقوق ولا ترى في المسألة الكردية إلا إرهاباً تجب مواجهته بالقمع الدموي.

حين كان أوجلان في إيطاليا، بصفة مؤقتة، كان رئيس وزرائها ماسيمو داليما يبحث مع حكومات دول أوروبية كألمانيا وهولندا عن المبادرة إلى تقديم حل تفاوضي للمسألة الكردية في تركيا، بالتوسط بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني. طبعاً لم تتحول هذه الأفكار إلى مبادرات عملية، ليس فقط بسبب الضغوط الأميركية على الأوروبيين في موضوع أوجلان، ولكن أيضاً بسبب رسالة وجهتها منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية إلى رئيس الوزراء الإيطالي، أوردت فيها معلومات موثقة عن جرائم قتل قامت بها منظمة حزب العمال الكردستاني بحق مدنيين أو خصوم سياسيين من الكرد إضافة إلى "حراس القرى" الموالين للدولة التركية الذين يعتبرهم حزب العمال الكردستاني خونة.

"إن تجاهل أربعة من الأهداف التي سجلتها هو مثل إنكار قتل أربعة من جنود الجيش التركي"!

وينقل يتكين عن الصحافية الأميركية أليزا ماركوس التي ألفت كتاباً بعنوان: "الدم والإيمان: حزب العمال الكردستاني وحرب الاستقلال الكردي" مقاطع صادمة عن نمط الحياة المرفهة التي عاشها أوجلان في سوريا، وعن طبعه النرجسي المتمحور حول الذات، ما يثير النفور من هذا الشخص المتنطح لتمثيل حقوق شعب. فتذكر ماركوس أن أوجلان كان يتنقل بين دمشق وحلب حيث يملك في كل من المدينتين فيلا فخمة تحيط بهما حديقتان فيهما حوضا سباحة، وأن عدداً من النساء كن مسؤولات عن أداء الأعمال المنزلية في الفيلاتين، إضافة إلى عملهن في توثيق أقوال القائد، وأن المقاتلين الذين يأتون من حياة الشظف في الجبال لمقابلته كانوا يصدمون بمظاهر الرفاهية التي يعيش فيها. أما عن نرجسيته الشديدة، فتذكر ماركوس أنه كان يحب لعب كرة القدم مع مقاتليه في معسكر التدريب، فكانوا، طوال المباراة، يمدونه بالكرات ليسجلها أهدافاً. ثم يسأل أحدهم، بعد انتهاء المباراة، عن عدد الأهداف التي سجلها. وفي إحدى المرات غضب غضباً شديداً حين أجابه الشخص الذي سأله أنه سجل 12 هدفاً، قائلاً إنه هضم حقه بأربعة أهداف! وظل يرغي ويزبد على الرجل حتى اليوم التالي حين أتى على ذكر الموضوع في اتصال مباشر له مع القناة التلفزيونية الخاصة بالحزب حين قال: "إن تجاهل أربعة من الأهداف التي سجلتها هو مثل إنكار قتل أربعة من جنود الجيش التركي"!

ليس فقط أن الحزب، وأوجلان بالذات، أهدرا فرصة تعاطف دول أوروبية مع حقوق الكرد في تركيا، بسبب ممارساتهما ومسالكهما العملية، بل كذلك أضعفا اتجاهات داخل الدولة التركية كانت تنحو منحى ضرورة الحل التفاوضي السلمي، مقابل منح صقور تلك الدولة ما يدعم حججهم لتسويغ النهج الاستئصالي. وفي هذا السياق، يذكر يتكين معلومة، أقرأها للمرة الأولى، هي أنه كانت الأجواء داخل قيادة أركان الجيش، في خريف 1998، ميالة إلى تناول المسألة الكردية من منظور سياسي، جنباً إلى جنب مواصلة ضرب مواقع مقاتلي حزب العمال الكردستاني. كذلك نحن نعرف أن الرئيس الأسبق تورغوت أوزال قد قام ببعض المبادرات لوضع أساس تفاوضي حول المسألة الكردية، لكن موته المفاجئ المثير للجدل قطع ذلك المسار المحتمل. أي أن مبادرات الدولة السياسية لم تبدأ مع حزب العدالة والتنمية كما هو شائع، بل له سوابق وفي بيئة قيادة المؤسسة العسكرية بالذات التي كانت تحكم من وراء الستار في ذلك الزمان.

بدلاً من استثمار تلك الفرص، وبخاصة التعاطف الأوروبي، أهدرها الحزب على مذبح علاقاته المشبوهة مع النظام السوري ودول أخرى لها أجنداتها، إضافة إلى انتهاكاته بحق الكرد ممن يعارضونه سياسياً. صحيح أن الحزب قد أعلن، أكثر من مرة، وقف إطلاق النار من طرف واحد، لإفشال مساعي أصحاب الحلول الإستئصالية داخل الدولة التركية، لكنه بالمقابل قام بعمليات عسكرية مفاجئة وغير مفهومة منحت أولئك الصقور الذريعة المناسبة لقلب الطاولة والاندفاع نحو تصعيد العنف.

هناك نقطة مهمة تستحق التساؤل: حين أبلغه النظام السوري عن ضرورة مغادرته الأراضي السورية، تجنباً لحرب هددت تركيا بشنها على سوريا، كان أمام أوجلان خيارين: إما التوجه إلى جبل قنديل حيث تتمركز قوات الحزب، أو التوجه إلى أوروبا الغربية. وقد اختار الثاني بناء على وعود قدمها له نواب من حزب الباسوك، إضافة إلى مسؤول في المخابرات اليونانية، بالحصول على حق اللجوء السياسي في اليونان. وفي تبرير هذا الخيار الذي سيكلفه حريته، يقول أوجلان إنه فعل ذلك تمهيداً للجنوح نحو العمل السياسي السلمي، من خلال العمل على كسب تعاطف دول أوروبا الغربية لتضغط على أنقرة من أجل إطلاق عملية سياسية لحل المشكلة الكردية.

لكن حسابات البيدر لم تطابق حسابات الحقل، فتحول أوجلان إلى كرة نار تلقي بها الدول في أحضان دول أخرى، وصولاً إلى تسليمه إلى المخابرات التركية في كينيا بجهود الأميركيين.

على رغم كل ما ذكر، يبقى أن مسؤولية الدولة التركية عن استمرار الصراع الدموي إلى اليوم، هي الأكبر بالمقارنة مع مسؤولية "العمال الكردستاني". ذلك لأنها دولة، ومن المفترض أن تكون هي المبادرة إلى إيجاد الحلول، بدلاً من تأجيج الصراع. ما يحدث في الواقع هو أن الدولة تستعيد رشدها، من حين إلى آخر، فتنحو نحو الحل السياسي، لكن الحسابات الصغيرة للطبقة السياسية تنجح، في كل مرة، في قلب الطاولة والعودة إلى الحرب، تماماً كحسابات حزب العمال الكردستاني قصيرة النظر أو الانتهازية.