أنقرة - باريس: المواجهة الأرمنية

2019.02.09 | 23:02 دمشق

+A
حجم الخط
-A

مواجهات الذهاب والإياب بين تركيا وفرنسا التي لا تنتهي ولا تحسم بسبب تضارب المصالح والحسابات الإقليمية والدولية، شهدت قبل أيام جولة جديدة ساخنة سببها التوتر في الملف الأرمني القديم - الجديد  الذي يضع العلاقات بين البلدين على نار حامية لكنه لا يقطع الخيط الرفيع الذي يربطها رغم كل هذا الشحن والتعبئة.

البرلمان الفرنسي الذي تبنى سنة 2001 أحداث عام 1915 على أنها مجازر ضد الأرمن عاد وأعطى قبل 5 أعوام الحكومة ما تريده بعدما صادق على مشروع قانون يقضي بمعاقبة إنكار الإبادة الأرمنية لمدة عام كامل من السجن وبغرامة مالية قيمتها 45 ألف يورو وهو وعد سياسي قدّمه اليسار الفرنسي لحوالي نصف مليون أرمني يعيشون في المدن الفرنسية.

الموعد هذه المرة كان مع الرئيس إيمانويل ماكرون، وإعلان 24 نيسان "يومًا لإحياء ذكرى إبادة الأرمن" مما قابله انتقاد فوري لاذع من قبل الخارجية التركية "فرنسا التي عرفناها بالفظائع التي ارتكبتها بالأناضول خلال حرب التحرير التركية باستخدام الأرمن، وبالمسؤولية عن المجازر في الجزائر وبالإبادة في رواندا، لا يمكننا استخلاص أي من الدروس من ساستها المتغطرسين الذين يفتقرون إلى المعلومات التاريخية الأساسية ".

هل من حق الفرنسيين محاكمة الأتراك؟

توتر سياسي جديد في العلاقات التركية الفرنسية التي تسير فوق مستنقعات من الرمال المتحركة منذ أعوام، على الرغم من التصريحات العلنية في الجانبين حول الرغبة في التطبيع والتهدئة. فهل من حق الفرنسيين محاكمة الأتراك على هذا النحو؟

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يريد أن لا يكون أقل انفتاحا على عشرات الآلاف من المواطنين الفرنسيين من أصل أرمني يمثلون الدياسبورا النافذة في المجتمع الفرنسي. وهو يريد أيضا أن يصفي حساباته العالقة مع قيادة العدالة والتنمية التي عرقلت أكثر من تحرك ومشروع إقليمي أطلقه في السنوات الأخيرة باتجاه الشرق الأوسط وخصوصا في الملف السوري حيث تضاربت الحسابات والمصالح رغم محاولة التنسيق في القمة الرباعية الأخيرة التي جمعتهما مع روسيا وألمانيا.

هذه المرة لم يكن هناك استدعاء سفراء أو مقاطعة دبلوماسية كما حدث في السابق ، لكن ردة الفعل التركية الكلاسيكية برزت مجددا، التنديد بالقرارات ورفضها واستنكارها، التلويح بتجميد العلاقات التجارية، ورسائل التحذير السياسية حول ضرورة عدم ترك العلاقات التركية الفرنسية تحت رحمة طرف ثالث، والتذكير بحجم التبادل التجاري بين أنقرة وباريس الذي يفوق العشرة مليارات يورو سيتأثر سلبا نتيجة أي توتر من هذا النوع.

أنقرة ترى أن ما جرى له علاقة مباشرة بمحاولة كسب أصوات الجالية الأرمنية قبل أن تكون عملية تضامن مع الشعب الأرمني وقضاياه ومطالبه.

لكننا سمعنا أيضا الأصوات المتعالية في أنقرة وهي تردد أنه كان الأجدى بفرنسا مواجهة تاريخها الأسود خصوصا في القارة الإفريقية والاهتمام بعوراتها هي قبل الحديث عن عورات الآخرين . أفلام تركية كثيرة تسأل القيادات الفرنسية عن المجازر التي ارتكبت في الجزائر ولماذا الكيل بمكيالين : هنا يحملون تركيا الحديثة مسؤولية أحداث وقعت قبل أكثر من قرن وكانت تتعلق بمحاولات رسم الخرائط والحدود وتقاسم النفوذ وتحاصص الجغرافيا وهناك يقولون إن ما جرى في المدن الجزائرية أخطاء ارتكبها الأجداد ولا يجوز أن يتحمل الأبناء مسؤوليتها ؟

يقول اللوبي الأرمني إن الأتراك قتلوا مليونا ونصف المليون منهم أثناء المواجهات التي اجتاحت منطقة الأناضول

يقول اللوبي الأرمني إن الأتراك قتلوا مليونا ونصف المليون منهم أثناء المواجهات التي اجتاحت منطقة الأناضول خلال الحرب العالمية الأولى لكن تركيا تشكك في عدد القتلى وتعترض على استخدام صفة المجازر في وصف مقتل الأرمن، وأن ما جرى كان سقوطا في مصيدة اللاعبين الكبار عندما اجتاحت القوات الروسية والفرنسية والبريطانية الأراضي العثمانية.

المسألة لن تنتهي عند ردود الفعل التركية حتما فهناك اليوم أكثر من 20 دولة تقبل ما جرى عام 1951 ضد الأرمن على أنه مجازر واللوبي الأرمني ناشط في أكثر من عاصمة والكثير من الدول والأنظمة العربية حتى جاهزة لمد يد المساعدة طالما أن المعني هو تركيا وسياساتها ومصالحها الإقليمية . الأنظار موجهة دائما نحو الإدارات الأميركية التي تتجنب تبني هذا المصطلح بسبب الشراكة الاستراتيجية التركية الأميركية لكن ترامب يختلف عن الرؤساء السابقين في طرزه وأسلوبه ولا أحد يعلم تماما متى وكيف سيتصرف.

اللوبي الأرمني يقول إنه لن يتخلى عن قضيته مهما طال الزمن والانتظار، وإن هدفه هو كسب المعركة في المحافل الدولية لإلزام أنقرة بأربعة مطالب أساسية هي: الاعتراف بما جرى عام 1915 والاعتذار الرسمي، وقبول دفع التعويضات المادية، وإعادة الممتلكات في شرق الأناضول لأصحابها .وتركيا تدرك جيدا أن الملف الأرمني سيكون حاضرا في أكثر من نقاش لها مع العواصم الغربية، وتحديدا في موضوع علاقاتها بدول الاتحاد الأوروبي وطلب العضوية التركية الكاملة في الاتحاد.

فشلت في الأعوام الأخيرة أكثر من محاولة تركية أرمنية باتجاه سياسة مد اليد، لكن هناك حقيقة أخرى ينبغي قبولها وهي أن حكومة أردوغان، ورغم إهدارها للعديد من الفرص السانحة في فتح أبواب المصالحة ودفعها نحو الأمام بعد اغتيال الإعلامي الأرمني هرانت دينك عام 2007 وترميم كنيسة " اك دمار الأرمنية التاريخية في مدينة فان الشرقية ، كانت هي الأكثر شجاعة بالمقارنة مع الحكومات التركية السابقة في التعامل مع هذه الملفات التي ظلت حتى الأمس القريب «تابو» محظورا وغير قابل للنقاش.

بادرة الرئيس التركي أردوغان قبل 4 أعوام بتوجيه رسالة عزاء إلى الشعب الأرمني وضحاياه الذين كانوا يستعدون لإحياء ذكرى يوم 24 من أبريل وأحداث عام 1915 وهو يتذكر فيها أحداث ومآسي الأرمن التي وقعت قبل قرن، والعرض الذي قدمه باتجاه تشكيل لجنة تركية أرمنية تبحث في خفايا وخبايا ما جرى إبان الحرب العالمية الأولى في شرق الأناضول، وصفت بالخطوة الشجاعة لإسقاط جدار الخوف بين الأتراك والأرمن وفتح أبواب الحوار مرة أخرى لكنها لم تلق الصدى الإيجابي المتوقع في صفوف الدياسبورا الأرمنية والقيادة الأرمنية في يريفان وعرقلة عواصم أوروبية كثيرة تريد التلاعب بهذا الملف ضد تركيا.

الصورة الماثلة في الأذهان خلال تذكر التاريخ الحديث لمسار العلاقات التركية الأرمنية هي جثة الصحافي التركي من أصل أرمني هرانت دينك الذي تعرض لعملية اغتيال والمطروحة أرضا بالحذاء المهترئ والنعل المبخوش، والتي طغت على شخصية مثالية متواضعة محببة أغضبت البعض بمميزاتها وانفتاحها. فأنقرة ويريفان لم يستغلا الفرصة باتجاه تحويل الأمور إلى خطوة حقيقية على طريق الحوار والتقارب التركي – الأرمني. فكان كل ما تبقى بيد الطرفين ذيل الحرباء التي نجحت في الفرار تاركة إياهما وسط مواجهات وأزمات اصطفافات لم تنته رغم مرور عشرات السنين.

أنقرة ويريفان مطالبتان بتحرك حقيقي ينهي الخلاف حول هذا الملف ويخلصهما من وسوسة الذاكرة المؤلمة ويقطع الطريق على أطراف عديدة تريد التدخل والتأثير سلبا في مسار العلاقات التركية الأرمنية.