"أنت لاجئ .."

2019.08.19 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في حديث له بعنوان /أنت لاجئ/، يخاطب الدكتور الشهم [معن القطّامين]  الإنسان السوري؛ الذي اقتُلع عُنوة وظلماً من وطنه، وتبعثر في أصقاع الأرض الأربعة؛ يخاطبه بعبارات تُثلِج الصدر، وتشيد بشرفه ورفعته وكبريائه وعظمته. يطلب الدكتور معن من هذا الإنسان السوري ألا يتحسس من عبارة "لاجئ"؛ ويرى أن لجوءه عار على أخوته من العرب والمسلمين، لا عليه؛ فهو لم يقبل الظلم والاستبداد والدمار؛ ولكن قبِل تذوق الوطن من بعيد، بدلاً من تذوق الخوف والرعب والإهانة في الوطن. 

جميل ومقدّر هذا الموقف الخيّر الطيب العاقل من أخ عربي شهم يتفهّم حالة وموقف هذا الإنسان السوري، الذي وجد نفسه بين ألف مطرقة وألف سندان؛ وكلها من نار. فالبقاء في وطن تخونه سلطة تدّعي الشرعية؛ فتبيعه، وتشتريه، وتؤجره؛ وتدعو الاحتلال لحماية كرسيّها، كي تنفذ شعارها بحكمه أو تدميره- أمرٌ كارثيٌّ؛ والرحيل ليس أقل كارثية. في الحَدَث السوري الأخير- بمجمله- لم يكن الرحيل طوعياً، بل قسراً ورعبا وإرهاباً على يد نظام كان غضب البحر، ومهانة التشرد، ومواجهة الموت أهون منه.

على صعيد عاطفي وأخلاقي، كل ما ذُكِرَ جميل؛ ولكن واقع الحال أعقد من ذلك؛ صديقي معن. فالسوري خارج بلده- مهما ارتفع شأنه- يبقى مخلوقاً غير مكتمل الإنسانية. فالمثل القائل بأن "من يخرج من داره يقلُّ مقداره"، لم يُقَل عبثاً. وهذا المقدار الذي "قَلَّ" مدعاة للتشوّه البشري. فبعد الحرب العالمية الثانية، تكرّست الهويات، واستقرّت المواطنية؛ وأضحى الفرنسي فرنسياً، والتركي تركياً، والإسباني إسبانياً؛ رغم الحديث عن تحول عالمنا إلى قرية صغيرة شبه اندماجية. عالمنا قرية، وشبه مندمجة بوسائل تواصلها وأخطبوط اقتصادها، لا بهويتها ومواطنيتها. أينشتاين- الذي تضربه مثالاً للاجئ أو المهاجر- بقي اسمه مهاجراً أو لاجئاً؛ وكذلك مادلين أولبرايت؛ وحتى أشهر الأطباء أو العلماء من منطقتنا؛ فلا زالت دمغة الوطن الأساس تلاحقهم. صحيح أنه مصدر فخر واعتزاز لإنسان سوري، أبدع في بلاد اللجوء، أن يُقال إنه /لاجئ، وأبدع/، إلا أن تلك الدمغة تبقى الغصة.

على صعيد عاطفي وأخلاقي، كل ما ذُكِرَ جميل؛ ولكن واقع الحال أعقد من ذلك؛ صديقي معن. فالسوري خارج بلده- مهما ارتفع شأنه- يبقى مخلوقاً غير مكتمل الإنسانية. فالمثل القائل بأن "من يخرج من داره يقلُّ مقداره"، لم يُقَل عبثاً. وهذا المقدار الذي "قَلَّ" مدعاة للتشوّه البشري

لم يختلف على السوريين الحال، يا أستاذ معن؛ فخلال أكثر من قرن كان عدد السوريين خارج سوريا أكثر من عددهم داخلها على الدوام: من الاحتلال العثماني، مروراً بالاحتلال الفرنسي، وصولاً للاستبداد الأسدي. وسوريا ربما تسجل أعلى رقماً عالمياً بالرحيل منها، واللجوء والتبعثر في بقاع الأرض. صحيح أن السوريين أبدعوا بغربتهم، إلا أنهم تعبوا- حتى ولو كانوا أنبياءً، ينتشرون في الكرة الأرضية لهدايتها وتعليمها؛ أو ملحاً، يجعل طعام العالم قابلاً للأكل؛ أو زينة، تحلّي مبسم العالم.

أما عن حال مَن تشرد خلال حرب منظومة الاستبداد الأسدية على السوريين، فالمرارة والوجع فوق التصور. إضافة إلى الجراح والتمزق قبل الرحيل بفقدان أحبة، أو اعتقال، أو اغتصاب، أو دمار مسقط الرأس؛ هناك عذابات الرحلة وما يرافقها من رعب؛ وصولاً إلى المستَقَر المؤقت، وما يرافقه من إحساس بالدونية والعوز. إنه إحساس بأبدية المأساة لا تقل عن الإحساس بأبدية الاستبداد، التي كانت. من هنا تجد أن أكثر السوريين يريد أن يخرج- بما في ذلك ما يُسمى "حاضنة النظام"- للالتحاق بأخوتهم السوريين إلى حيث القانون والحرية والكرامة.

لقد قام هذا السوري بانتفاضته على طغمة كتمت أنفاسه؛ وما أراد أن يتنفس في مكان آخر، أكان في بلد لجوء، أو في جنة. قامت ملايين سوريا لتزيح ذلك الطغيان؛ وإذ بهذه الطغمة القاتلة- مستعينة بقتلة الأرض وبقوى طغيان أخرى- تساهم وتساعد طغمة الاستبداد في إزاحة الملايين، والإبقاء على عشرات الطغاة.

لقد أراد هذا السوري مجرد هوية تشعره بكرامته في وطن آمن عفيّ بأهله وبجهده وعبقريته؛ يريد وطناً حصيناً بحريته، لا احتلال ولا استبداد ولا رعب فيه؛ يريد وطناً بلا براميل الأسد ومخابراته، ولا "سوخوي" بوتين ووزير خارجيته العنصري؛ ولا سلطة وليّ فقيه مجبول على الحقد.

أخيراً وليس آخراً، أخي معن؛ تعْلَم ونعْلَم أنه بخروج هذا السوري من وطنه؛ انتهت سوريا التي نعرف، وبقي شيء اسمه "مزرعة الأسد" أو "سوريا الأسد"؛ ولكن تزويراً ما زالوا يسمونها "الجمهورية العربية السورية"؛ إلا أنها ليست بجمهورية، ولا عربية، ولا سورية

نعم أستاذ معن؛ لقد خرج هذا السوري لاجئاً إلى بلاد الله؛ ولكن جسده هو الذي خرج؛ وروحه بقيت هناك في الوطن، في مسقط الرأس. وحتماً إن تهيأ لهذا السوري أمانا، ونظاما يعرف القانون والحق والواجب، لتراه على استعداد للعودة إلى بيته المدمر، ململماً بقايا أحجاره، واضعاً سقفاً من صفيح، ومنطلقاً بحياة حرة كريمة. ولكنه في الوقت ذاته، لا يريد عودة على طريقة "جبران باسيل" أداة "حسن نصر الله" وسيده في "قُم"، ولا على طريقة بوتين التجارية.

أخيراً وليس آخراً، أخي معن؛ تعْلَم ونعْلَم أنه بخروج هذا السوري من وطنه؛ انتهت سوريا التي نعرف، وبقي شيء اسمه "مزرعة الأسد" أو "سوريا الأسد"؛ ولكن تزويراً ما زالوا يسمونها "الجمهورية العربية السورية"؛ إلا أنها ليست بجمهورية، ولا عربية، ولا سورية. أراد السوري وما زال يريد سوريا الوطن، سوريا الحق والواجب، سوريا الحرية والكرامة؛ عندها يكون إبداعه وعبقريته. في اللجوء صحيح أن هناك حق وحرية وكرامة تحتضن الجهد والإبداع، وصحيح أن وطن الإنسان حيث كرامته وحقه وحريته؛ ولكن العنصر المفقود هو الجغرافيا والتاريخ والحنين؛ والأهم الروح التي لم تغادر الجغرافيا ولا التاريخ. وسيعود السوري؛ وستكون عبقرية سوريا التي نريد معاً.

كلمات مفتاحية