أنا السوري.. حبيب الله المختار

2019.05.01 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يطرحُ سؤالُ الأنا نفسه على كلّ إنسان بلا شك، وتحدّدُ الإجابةَ عليه ظروفُ الشخص ذاته ومجملُ ما يتمتّع به من خصائص ومعارف ومؤهلات وقدرات من جهة، وظروفٌ أخرى موضوعيّة لا علاقة له بها من جهة ثانية، تندرجُ ضمنها ظروفُ محيطهِ الأسروي وبيئته الاجتماعيّة وظروفُ الحياة العامّة التي يعيشها بتعقيداتها السياسية والاقتصادية، كما تشكّلُ خلفيّةً بعيدة لها ظروفُ الثقافة التاريخيّة التي نشأ مجتمعُه بها والسياقُ العام لتطوّره.

كذلك يطرحُ سؤالُ الأنا نفسه على الشعوب والجماعات البشريّة، فقد كان سؤالُ الهويّة موجوداً منذ القدم قبل ظهور ونشوء فكرة القوميّة بكثير، لكنّ بلورة الإجابة عليه لم تأخذ شكلها شبه المكتمل إلّا مع بدايات نشوء وتشكّل الدول على أسس قومية ووطنية.

أثّرت حالة الاستبداد التي رزح تحتها السوريّون بشكل متزايد منذ انقلاب العسكر في 8 آذار 1963 واحتكارهم للسلطة بشكل نهائي على الهويّة الوطنيّة لهذا الشعب

الحقيقة أنّ كل جماعة أو شعب له خصائص تختلف عن غيره من باقي الشعوب، تتقارب من غيرها كلّما كان هناك عوامل مشتركة أكثر مثل الحيّز الجغرافي والدين والعلاقات الاجتماعية واللغة والعرق إضافة إلىغيرها من العوامل المختلفة، وتتباعدُ عن غيرها كلّما قلّت هذه المشتركات بينها. ويوجد غالباً مميزات خاصّة لمجموعات مختلفة من أبناء الشعب الواحد تزيد أو تنقص، تقرّبها من غير مجموعات أو تبعدها عنها بالقدر الذي تتأثّر به بتلك الظروف والمعطيات.

لا تشذّ الحالة السوريّة عن غيرها من الحالات، ومن الواضح جدّاً أن للشعب السوري خصوصيّة تعدّدية كبيرة من حيث الأديان والمذاهب والطوائف والقوميات والأعراق التي تشكّله، بما في ذلك من تواريخ وأحداث سياسية وسمت العلاقة بين مكوناته خلال مراحل كثيرة حديثة وأخرى موغلة في القدم، ويمكن مقارنة الواقع السوري بالواقعين اللبناني والعراقي من حيث هذه التعدّدية.

لم يتمكّن السوريّون من بناء دولة مواطنة بالمعنى الحديث للكلمة ابداً، فقد كانت سوريا منذ نهايات العصر العثماني وحتى الاستقلال الأول عن الانتداب الفرنسي في حالة اضطراب وعدم استقرار سياسي، وهو الشرط الأساس لبناء أسس الدولة وأسس المواطنة، وكانت فترة الاستقلال الأولى التي سبقت انقلاب البعث متقطّعة غير مكتملة التشكيل، وتخللتها عدّة انقلابات عسكرية أيضاً. أثّر هذا كلّه على بناء المجتمع وعلى تكوين الإنسان ذاته. لم يخرج السوريّون من عصور العبوديّة للحاكم الفرد أو للسلطّة الاستبداديّة سوى شذرات من الزمن لا يمكن البناء عليها ولا أخذها في الحسبان والاعتبار أبداً.

أثّرت حالة الاستبداد التي رزح تحتها السوريّون بشكل متزايد منذ انقلاب العسكر في 8 آذار 1963 واحتكارهم للسلطة بشكل نهائي على الهويّة الوطنيّة لهذا الشعب، لقد بات من غير الممكن – مع تزايد حدّة احتكار السلطة وتدخّل النظام المخابراتي في حياة الناس وحلوله محل الدولة وأجهزتها – تعريف الهويّة الوطنيّة السوريّة بشكل واضح ودقيق وجليّ لأسباب كثيرة ومتعدّدة، لكنّ الأهم والأخطر بينها كان حالة الجهل المعمّم التي طبعت علاقة مكونات الشعب بعضها بالبعض الآخر.

لقد كان من ضرورات إحكام سيطرة العسكر ابتداءً، ومن ضرورات منع أي شكل من أشكال المقاومة لسيطرة العائلة الأسديّة واستئثارها بالسلطة لاحقاً، أن يتمّ تهشيم المجتمع السوري وتفتيته على أسس قوميّة ودينيّة وطائفية ومذهبيّة ومناطقيّة.

تحت شعار القوميّة العربيّة تمّ تهميش بقيّة القوميّات من كرديّة وتركمانيّة وشركسية وآشوريّة وسريانيّة وأرمنيّة وشيشانيّة على المستوى الداخلي، بينما تمّ تسميم علاقات العرب السوريين مع أشقائهم في الدول العربيّة المجاورة واستبدالها بعلاقات مميّزة ومواقف سياسيّة منحازة لإيران الملالي، وتمّ تحطيم ما تبقّى من فكرة الأمّة العربيّة ذاتها.

 وتحت شعار الوطنيّة تمّ تسليم الجولان لإسرائيل، وتمّ التنازل عن لواء اسكندرون وغيره من أراضي سوريا التاريخيّة لتركيا، كما تمّ أخيراً استجلاب الاحتلالات المتعدّة لجيوش الدول والميليشيات والجماعات الإرهابيّة الأخرى بشكل أخرق حطّم ما تبقّى من هذا الوطن والكيان السوري.

تحت شعار الاشتراكيّة تمّ نهب الاقتصاد الوطني واحتكار عائدات النفط بيد حافظ الأسد وأبنائه من بعده، كما تمّ الاستيلاء على القطاع العام وعلى ملكية الدولة من خلال عمليّات الفساد المنظّم التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث إلّا في العراق ولبنان أيضاً، وتمّ بعد ذلك الاستيلاء على القطّاع الخاص من خلال مشاركة الصناعيين والتجّار أولاً ثم من خلال ابتلاع جميع قطاعات الاقتصاد السوري بما فيها القطّاعات الخدميّة والوظائف العامّة.

من خلال شعار الحريّة تمّ الزجّ بالسوريات والسوريّين في قبور ومسالخ اسمها معتقلات، وتم الإجهاز على كل أشكال الحراك المجتمعي المدني والأهلي، ولم يُسمح بأي نشاط كان إلا من خلال قنوات أمنيّة مضبوطة مسبقاً. لقد ضاق فضاء الحريّة في سوريا وتقلّص ليصبح فقط على مقاس المزايدين في مديح الديكتاتور وتعظيم سلطانه وتأبيد حكمه.

لإحكام سيطرة حافظ الأسد على السلطة كان لا بدّ من منع السوريين من معرفة بعضهم، فكان أن تمّ إقصاء ثقافة الانفتاح المجتمعي وإحلال ثقافة إنكار الآخر والخوف منه. فتحت عنوان عدم إثارة النعرات الطائفيّة كان يتمّ تغذية الحقد الطائفي بين السوريين من خلال سياسة ممنهجة تبدّت أشكالها الواضحة والجليّة بتطييف أو -علونة – الدولة والمجتمع. لقد عاش السوريّون بشكل فاقع تحت إرهاب الدولة المخابراتيّة المنظّم خاصّة منذ أحداث ثمانينيات القرن الماضي ومنذ أن استطاع حافظ الأسد قمع المجتمع بأكمله تحت ستار قمع تنظيم الإخوان المسلمين.

تحت شعار القوميّة العربيّة تمّ تهميش بقيّة القوميّات من كرديّة وتركمانيّة وشركسية وآشوريّة وسريانيّة وأرمنيّة وشيشانيّة على المستوى الداخلي

تجلّت مظاهر – تطييف / علونة - الدولة والمجتمع بحشر الطائفة العلويّة في خيار شبه وحيد تمثّل في الانخراط في صفوف الجيش وأجهزة المخابرات ووظائف الدولة حصراً، بحيث باتت الدولة بالنسبة لهم هي النظام الأسدي وبات الخروج على النظام خروجاً على الدولة وبالتالي خروجاً على الطائفة، وبالتالي هو تهديد وجوديّ حقيقي لهم.

بات استعمال اللهجة العلويّة أحد أسلحة تحطيم المجتمع، وبات نشر ثقافة التشبيح والقفز فوق القانون أحد سمات الحياة الأساسية في سوريا الأسد. كان من الطبيعي أن يتمّ إلغاء مهرجانات بصرى الشام ومعرض دمشق الدولي مثلاً لإحياء مهرجان المحبّة والسلام في الساحل الذي تحوّل اسمه إلى مهرجان الباسل بعد استشهاد الأخير في عملّية نوعيّة ضدّ الصهاينة على طريق مطار دمشق الدولي. كان من الضروري أن يتمّ إغراق السوق بالفنّ والغناء الجبلي - خاصّة الجزء الهابط منه -على حساب فلكلور وتراث بقيّة المناطق السوريّة من تراث الجزيرة وحوران وجبل العرب إلى أكثرها غنى وعمقاً التراث الشامي والحلبي.

لم يكن هذا النهج والسلوك لمحبّة بالعلويين، ففقراؤهم كانوا وما زالوا وقوداً في محرقة الأسدين وبطانتهما من كبار الضبّاط واللصوص. لقد كان الشريك الاقتصادي الأكبر لهذه العصابة الحاكمة من طبقة التجّار والصناعيين المنحدرين أساساً من الأكثريّة العدديّة السنيّة ومن باقي الأديان والطوائف بنسب متفاوتة. كذلك كان الغطاء الأكثر نجاعة لهذا الاستيلاء على السلطة، غطاء الدين الإسلامي الذي تمثّل بمشايخ السلطان وغطاء الدين المسيحي الذي تمثّل برجال الكنيسة بتقسيماتها المعروفة في سوريا.

في ظلّ هذه الأجواء الموبوءة، استمرّ المجتمعُ السوري وأفراده بالتدرّج هبوطاً في سلّم القيم حتى الدرك الأسفل الذي وصلناه الآن.

لم يعد بشّار الأسد ظاهرة فرديّة، ولم يعد نظام القمع والفساد حالة استثنائيّة طارئة على المجتمع والأفراد، بل باتت الأسديّة فكراً ونهجاً وممارسة، باتت حالة واقعيّة وسائدة في كلّ مناحي حياتنا. من أصغر فرد في أصغر موقع في أيّة بقعة في سوريا أو العالم، إلى أكبر كيان سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي حتى. لم يعد بمقدورنا أن نفصل ال (أنا) عن ال (نحن)، بل بات كلّ منّا يرى أنّه هو نفسه الوطن والدولة والسلطة والنظام والمعارضة والثورة والفكر والمعرفة .... وكلّ شيء على الإطلاق.

 لم يعد للتواضع من مكان بيننا، وهذا أحد أسباب ذهابنا إلى أقصى درجات نفي الآخر. لقد كان فجورنا على بعضنا في الحرب أكثر قساوة من فجور الغرباء علينا. يجب ألّا نعلّق أخطاءنا وجرائمنا بحقّ أنفسنا وبحق وطننا وبحق بعضنا البعض على مشجب الآخرين. لقد كان فينا من الجهل وعدم معرفة أنفسنا ما يكفي لأن نقتل بعضنا البعض والابتسامة لا تغادرُ محيّانا.

لم يترك النظام – بشقيّه الأسدي والمعارض له – أية فرصّة للبديل الصحيّ الجميل والأنيق والنابع من ذخيرة عميقة من القيم الإنسانيّة والتقاليد المجتمعيّة العريقة بالتطوّر والنمو. لقد أطلق الأسد من سجونه عُتلاء المجرمين والمتطرّفين، وقتل واعتقل وشرّد بذرة التغيير التي تمثّلت بصبايا وشباب الحراك الثوري المدني السلمي، ومن لم يقدر عليهم الأسد ومخابراته، تولّتهم سياط أمراء الحرب وإرهابيّو التنظيمات المتطرّفة من داعش والنصرة وغيرها ممن تلطّى تحت مسمّيات وشعارات دينية. من لم تقدر على تخريبه وتفتيته البدلة المموّهة والياقات البيض وربطات العنق والملابس المكويّة، تولّته اللحى والعباءات والشراويل الأفغانيّة والأقنعة.

هكذا بات كلّ سوريّ أنا متضخّمة لا تحملها أرضٌ ولا تتسع لها سماء، بات كلّ واحد منّا حبيب الله المختار ومخلّص البشرية وفادي آلام الإنسانيّة في طريق الجلجلة وعلى الصراط المستقيم.

لقد آن لنا أن نتواضع قليلاً، وأن نبدأ رحلة البحث عن الذات خارج إطار الأساطير والخرافات والتعصّب والعنصريّة، آن لنا أن نتحرر من كل الهواجس وأن نبدأ بمعرفة أنفسنا وذواتنا لنعرف بعضنا البعض ثم الآخر المختلف عنّا، آن لنا أن نترك القاع وأن نعتلي القمم.