أميركا المتراجعة.. لصالح تعزيز العسكريتاريا

2019.08.08 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في الوقت الذي أصبحت فيه القوى الكبرى تركز بشكل متزايد على الاستثمار في منطقة المشرق العربي بغية تحقيق أهدافها، ما يزال الوضع في منطقة الشرق الأوسط، ينتظر تبلور الرؤية الاستراتيجية الأميركية حيث تتأرجح واشنطن بين البقاء والاهتمام بشؤون المنطقة، والانسحاب منها كلياً. وقد تجلى بموقف أميركا غير المهتم بالملاحة بمضيق هرمز. وقبل الخليج كان التراجع الأميركي واضحا. في سوريا، ما يعكس إرادة أميركية متزايدة للسماح للأحداث بالعبث داخل وخارج منطقة الشرق الأوسط، وهو ماله عواقب وخيمة ومدمرة.

ولا يقتصر التراجع الأميركي على سوريا فقط، بل شمل لبنان أيضا التي سجلت فيه القوى المناهضة لواشنطن تقدما ملحوظا، حيث حقق حزب الله انتصاراً مدوياً إلى جانب حلفائه، وحصل على أكثر من نصف البرلمان، وهو أصبح قادراً على تمرير أي قانون يريده، له علاقة بتشريع تسليحه، أو باستنساخ التجربة العراقية مع الحشد الشعبي. بعض الرموز التي وصلت إلى البرلمان اللبناني الجديد، عادوا بزخم سوري.

قد لا يكون الانسحاب الأميركي من لبنان بالشكل الفعلي أو المادي الملموس. فواشنطن ما تزال مهتمّة بالشأن اللبناني من خلال المساعدات العسكرية المقدّمة للجيش كقوة شرعية وتسعى إلى تعزيز قدراته دوماً، كما أنها تبحث وضع خطط لتطبيق القرارات الدولية، خصوصاً القرارين 1559 و1701، ولا شك أيضاً أن شروع واشنطن في تشييد مبنى ضخم لسفارتها في بيروت وعلى البحر الأبيض المتوسط، وسط معلومات تتحدث عن أن هذه السفارة ستشكل ثقلاً للوجود الأميركي في المنطقة، توازياً مع متابعة حثيثة لتنامي قدرات الجيش ودعمه، في عدد من المواقع والقواعد العسكرية بحرية وجوية. إلا أن مقابل هذا التثبّت يواجه حلفاء واشنطن في لبنان نوعاً من الضعف والتضعضع، سمح لخصومهم وحلفاء إيران في إحراز إنجازات سياسية. بحيث أصبح لبنان خاضعاً بكليته للإرادة الإيرانية، وتحت سيطرة حزب الله، الذي يمسك بمفاصل القرارات، وفي فرض تطبيع العلاقة مع النظام السوري، وفرض معادلات استراتيجية، خاصة فيما يتعلّق بملفّ ترسيم الحدود الجنوبية مع إسرائيل.

في الشكل أيضاً، يبرز الانسحاب الأميركي من متابعة تفاصيل المنطقة، في الاهتمام الذي أولي لأزمة كوريا الشمالية، ونجحت واشنطن من خلاله بفرض الحلّ السلمي للأزمة الكورية، بناء على توافق صيني روسي. وقد يكون ذلك على قاعدة المقايضة مع الروس بتوجه الأميركيين نحو شرق آسيا والمحيط الهادئ، مقابل تسليف الروس مواقف في الشرق الأوسط، في لبنان من بوابة شركات النفط الروسية، والتي قد تمهّد لدور روسي في عملية ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل توازياً مع ما يجري في الجنوب السوري، وإعادة السيطرة عليه من قبل النظام بغطاء روسي، وهذا مبني على توافق مع الإسرائيليين، وصولاً إلى سلسلة جبال لبنان الشرقية، التي أجرى فيها الروس قبل فترة قصيرة إعادة انتشار، لا سيما على بعض المعابر التي كان يسيطر عليها حزب الله.

واشنطن ترفع شعار محاربة إيران وطردها من سوريا، لكن حتى الآن ليس هناك أي أساس عملي لتحقيق هذا الهدف

الأخطر من ذلك، هو أن واشنطن ترفع شعار محاربة إيران وطردها من سوريا، لكن حتى الآن ليس هناك أي أساس عملي لتحقيق هذا الهدف. سوريا أصبحت حصة روسية، وروسيا تستفيد من الوجود الإيراني على الأرض لتعزيز وضعيتها وتوسيع نطاق سيطرتها. ولا يبدو أن إيران ستتنازل بسهولة، وهي تهرب من احتمالية اندلاع حرب شاملة أو مواجهة مباشرة وواسعة.

يبرز التشدد الإيراني في الإمساك بأجزاء من مفاصل القرار السوري، في معركة جنوب سوريا، ومشاركة القوات الإيرانية وحزب الله بتلك المعركة وإن بلباس الجيش السوري. تمثّل سوريا لطهران، محوراً استراتيجياً في المشروع الإيراني، فهي صلة وصل الهلال الفارسي، وهي المعبر الإيراني الوحيد إلى البحر الأبيض المتوسط، لذلك، تتمسك بالسيطرة على المناطق الواقعة في وسط سوريا، والواصلة من الحدود العراقية. قد تقدّم إيران بعض التنازلات في الجنوب السوري، لكنها تضع شروطاً مقابلة لذلك، ومن بين الشروط التي ترفعها، هي توفير خطّ الإمداد من العراق إلى سوريا فلبنان، وأن يكون لها جزء من القرار في الحلّ السوري وفي المرحلة المقبلة، وأن يكون لها حصّة في عملية إعادة الإعمار، والأكيد أنها غير مستعدة للتنازل أو الانسحاب بعد كل ما تكبّدته من خسائر مالية وبشرية.

وهذا ما بحثه الرئيس الإيراني حسن روحاني، خلال زيارته للصين للمشاركة في قمة منظمة شنغهاي للتعاون، في حينها طالب الرئيس الإيراني من الصينيين التدخّل أكثر سياسياً واقتصادياً في الوضع السوري، لا سيما في ضوء العمل الصيني على 3 طرق، الأول في اتجاه أوروبا من طريق أوزبكستان وتركيا، عبر القطار السريع الذي تستهلك الرحلة فيه من بريطانيا إلى الصين 18 يوماً، بدلاُ من 48 يوماً في البحر. الثاني، طريق الحرير التقليدي، الذي يعبر من باكستان وأفغانستان وصولاً إلى سوريا ولبنان. أما الطريق الثالث فهو الذي أنجزه الصينيون في اتجاه باكستان بعد تشييد مرفأ كبير جدّاً فيها، بهدف تخفيف الضغط عن موانئ الخليج.

في مقابل رفع الأميركيين شعار مواجهة إيران في سوريا، وطردها من هناك، لا تبدو المؤشرات بأن ذلك سيتحقق، في مقابل غضّ نظر أميركي عن ما يحصل. وقد استبقت طهران أي محاولات لتطويقها في سوريا، من خلال عمليات التجنيس التي أجريت لمواطنين إيرانيين، وآخرين من حزب الله في عمق دمشق، بالإضافة إلى إمساكها بالكثير من مفاصل الأجهزة الأمنية والعسكرية داخل بنية النظام، وبالتالي حتى لو نجحت الاستراتيجية الأميركية على المدى الطويل في فرض الانسحاب على الإيرانيين من سوريا، إلا أن النفوذ السياسي الإيراني سيبقى فعّالاً.

حين يرفع الأميركيون شعار "أميركا أولاً" ويوصل هذا الشعار رافعيه إلى البيت الأبيض، تكون الولايات المتحدة الأميركية قد سلكت خطّاً معاكساً لخطّها المعهود. تبدو وكأنها هي التي تريد إسقاط النظام العالمي الذي خاضت حروباً لإرسائه وتكريسه. ومن ثم، فإن تراجع الدور الأميركي والأوروبي الفاعل، سيمثّل تراجعاً لرافعي شعارات حقوق الإنسان، وإن لم تكن الشعارات واقعية، لكنه يؤدي إلى اختيار الحلول العسكرية وإحلال سيطرة العسكريتاريا.