أسئلة الهزيمة

2018.07.12 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

صمت أول الرصاص، علت أصوات البنادق المأجورة واحتفى سماسرة بانتصارهم على أحلام البسطاء، ليعود الوطن من جديد مجرد غانية ترقص مضرجة بموسوعة من المذابح فينتشي قوادو العروبة، هكذا ببساطة دان مهد الثورة وقدم فروض الطاعة ضمن مشهد مكرر عجز أبطاله عن الارتجال أو الخروج عن سياق النص ومحددات المخرج وسقط في الطريق آخر أوهامنا المتعلقة بالخلاص من خيبات تجاوز عمرها القرن من الزمن.

هي بداية تصلح لالتقاط مرارة الواقع –لغويًا على الأقل- وتتماشى مع الجزء الآخر للمشهد حيث يقف جمهور الثورة جوار عوالم ما بعد الحداثة يصنع لقطتين الأولى كعادتها غارقة في صياغة لطمية أخيرة عن ملامح الخذلان والخيانة، وأخرى تفتح شبابيك الأمل على اعتبار أن ثورة العسكر انتهت وهي مقدمة لبداية جديدة، هكذا وكأن شيئًا لم يكن، وكأن ما هو موجود من عناوين سياسية مدنية لم يشكل رأس حربة فيما وصلنا له من نتائج.

سقوط الجنوب يطرح الكثير من الأسئلة المركبة والمعقدة، بعيدًا عن قدرة ما تبقى من تيار الثورة على الاحتفاظ بزقاق ضيق قد يشكل في أفضل الأحوال نواة لحركة مقاومة شعبية ضد الاحتلال إلا أن ترجمته إلى بديل ممكن على الأرض يحتاج للكثير من العمل سيما مع مفردات واقع تؤشر إلى انحسار مثل هذا الاحتمال في سياق التسويات بين اللاعبين الإقليميين والدوليين والتي قد تقود خلال الفترة القريبة القادمة إلى تفاهم يقضي بتهجير الجزء المتبقي من ريف حماه، وتأجيل حسم مصير إدلب بانتظار تفاهمات نهائية بين أنقرة وواشنطن وموسكو.

جزء من أسئلة السقوط يتعلق بمصير اللاجئين السوريين في دول الجوار أو على الحدود، لأن معايير المجتمع الدولي الآن ستذهب إلى ترجمة الواقع السوري وفق ثلاثية "حكومة شرعية، معارضة، ومتمردين أو إرهابيين"، ومن هنا ربما يمكن فهم التجربة اللبنانية ضد السوريين المتواجدين على أراضيه وإجبارهم على العودة إلى حظيرة النظام وهو ما قد يصبح نموذجا يتعمم على بقية الدول كجزء من سياسة الترويض والإذلال والعقاب الجماعي.

هناك أسئلة أخرى ترتبط بمستقبل معظم المؤسسات "الثورية" مدنية إعلامية ...... إلخ والمنتشرة خارج سورية، إلى جانب تلك المتعلقة بالمنصات السياسية، إذ وضمن مسار النتائج فقدت مبررات وجودها وعملها، وعليها التوغل أكثر في التفاهم مع مثيلاتها لدى النظام السوري باعتباره حكومة شرعية الآن استطاعت الانتصار على تمرد عسكري، وصولًا إلى شراكة كاملة معه.

ثمة جانب أكثر تعقيدًا تفرضه تداعيات "الهزيمة" له علاقة بالوطنية السورية التي تشظت بشكل كبير، وانحسرت لصالح نمو هويات فرعية، خاصةً بعد ما نال الوعي الجمعي الهش المتشكل مع بداية الثورة من ضربات موجعة، لتبدو سورية من جديد وكأنها أرض لمجموعات مختلفة ومتناقضة من الشعوب، وكل جماعة تقبل بوجود محتل في حين ترفضه أخرى وتفضل محتلًا آخر بناء على مصالح كرسها واقع الحرب وتداعياتها.

تصفية الثورة في الجنوب تجعل من كافة السيناريوهات المرعبة -والتي كانت "نخبنا" السياسية والثورية تراها مستحيلة بناء على تطمينات الممولين والمشغلين- ممكنة، سيما مع تبلور خرائط المصالح والنفوذ في سورية وتقاسمها بين الأطراف الدولية والإقليمية، لتبدو البلاد الآن أقاليم يتبادل السيطرة عليها كل من إيران وروسيا والولايات المتحدة وتركيا بينما تبحث الدول العربية عن ما يبقى من فتات والسوريين مجرد أدوات لتمرير الصفقات بين كل تلك الدول.

كل ذلك يتطلب الآن التفكير بطريقة مغايرة للنمط الذي ساد خلال الفترة السابقة، ويستدعي البحث عن الشخصيات والكفاءات الوطنية التي كانت بعيدة أو أقصيت عن المشهد، لاجتراح خطط وبرامج عمل تصدر شهادة وفاة باسم الهيئات السياسية الموجودة بعد أن ثبت فشلها، وتورطها في معظم المشاريع الرامية لتعويم النظام مقابل أن تكون شريكة في شكل الحكم المزمع صناعته لسورية ضمن مطابخ السياسة الدولية.

ربما ما نحن بحاجة له الآن مؤتمر وطني سوري يفلح بجمع شتات تيار الثورة في الداخل والخارج، ويذهب باتجاه خطوات جريئة قد يكون أولها إعلان سورية دولة تحت الاحتلال في محاولة شاقة لنزع الشرعية من جديد عن النظام الحالي، والتحرك دوليًا ومحليًا انطلاقًا من هذه الحقيقة، بما تقتضيه من براغماتية للعب على تناقضات الأطراف الفاعلة في الصراع والتي تحولت جميعها لقوى احتلال، دون ذلك يعني بأننا جميعًا نمضي في فلسفة الواقعية السياسية الطامحة لإعادة إنتاج الماضي بكل موبقاته وهو ما سيقودنا لهزائم أكبر وأكثر إيلامًا.

كلمات مفتاحية