سورية "الأسد".. وتراجع الشعور الوطني   

2019.08.22 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

(تأمل في مسيرة الحزب الشيوعي السوري)  
 

قبل مجيء حافظ الأسد بعقد ونصف من الزمن، وربما أكثر قليلاً، كان الحزب الشيوعي السوري في معركة الصراع على سوريا مثل طاووس يتشوَّف على الأحزاب السورية وقواها السياسية كلِّها. فهو وحده من يمثل الوطنية الحقّة والعدالة الاجتماعية وهما آتيتان، لاشك، بالاشتراكية العلمية التي يؤمن بها، ويسعى إلى تحقيقها بالتعاون مع "الرفاق" السوفييت الذين خرجوا من الحرب العالمية الثانية منتصرين، وهم ماضون لتغيير العالم وفق جوهر ما قاله ماركس انشغل "الفلاسفة بتفسير العالم وآن الأوان لتغييره..!" وآمن لينين بصحة مبدأ ماركس ومتانته فقال "إنَّ مبدأ ماركس كليُّ القدرة لأنه صحيح..!" واختال الحزب الشيوعي بتلك الأفكار راغباً بنقل وطنه سوريا، وشعبها الذي كان يعاني الفقر والقهر نحو حياة أكثر عدلاً وحرية.. وعلى ذلك، فقد خطب الحزب ودَّ الشعب ليمضيا معاً نحو ترسيخ حرية البلاد، واستقلالها أساساً للحياة الأفضل المنشودة.. ولم يأت معه العمال والفلاحون فحسب، بل الكثير من كبار مثقفي سوريا ولبنان.. فمن سليم خياطة، ونقولا شاوي، ويوسف يزبك، ومحمود الأطرش في الفكر السياسي.. إلى آخرين كثر في المجال الأدبي والصحفي منهم: حنا مينة، وشوقي بغدادي، وسعيد حورانية، وصلاح دهني، وليان ديراني، وشحادة الخوري، ونجاة قصاب حسن، والأَخَوان مواهب وحسيب كيالي وآخرون.. هؤلاء الذين أسسوا رابطة الكتاب السوريين عام 1951.. وربما سبق الحزب غيره في ثلاثينيات القرن الماضي إلى التفكير بمسألتيْ الوحدة العربية، ومواجهة الخطر الصهيوني فقد أصدر عضو لجنته المركزية "سليم خياطة" عام 1933 كتابه الشهير "حمَّيات في الغرب" نبّه من خلاله إلى النشاط الصهيوني ضد العرب عموماً، والوطن الفلسطيني خصوصاً، وأشار في ذلك الوقت المبكر إلى أنَّ الصهيونية مخلب للدول الاستعمارية، وقد دعا مع آخرين لمؤتمر حول الوحدة العربية، وعقد فعلاً في زحلة عام 1934.. ورغم ذلك تعرّض الحزب الشيوعي إلى محن صار من خلالها موضع شك لدى جماهيره، واتخذتها القوى الأخرى حجة عليه، جوهرها التناغم، في الصغيرة والكبيرة، مع ما يرسمه الاتحاد السوفيتي.. ومن ذلك تأييد الحزب لموقف السوفييت حول قرار تقسيم فلسطين أو تفهمه له، والسكوت عنه، في أقل تقدير، رغم أنَّ لجنته المركزية كانت قد رفضت القرار ببيان صريح حمل توقيعها..! واستغل الإخوان المسلمون تلك الثغرة وهاجموا مكتب الحزب الشيوعي في ساحة عرنوس قلب دمشق.. لكنَّ ديمقراطية الخمسينيات التي أعطت الأحزاب السياسية حرية وجمهوراً وتحالفات بحسب مواقف كل حزب، أتاحت للحزب أن يتجاوز الحالة.. حتى إن خالد بكداش المتحالف مع خالد العظم ممثل البرجوازية الوطنية، آنذاك، نجح بأصوات عالية في الانتخابات البرلمانية لعام 1954..

كذلك التبس موقف الحزب من الوحدة السورية/المصرية، في الشارع السياسي السوري، إذ اتخذت لجنته المركزية أيضاً قراراً بالموافقة على الوحدة

كذلك التبس موقف الحزب من الوحدة السورية/المصرية، في الشارع السياسي السوري، إذ اتخذت لجنته المركزية أيضاً قراراً بالموافقة على الوحدة لكنَّ رفْضَ حلِّ الحزب الذي أصرَّ عليه الرئيس جمال عبد الناصر، آنذاك، وعدم حضور خالد بكاش أمين الحزب العام، ونائبه في البرلمان جلسة التصويت على الوحدة جعل الحزب، في الذهنية الشعبية، في صفِّ خصوم الوحدة، ولم يصمد حكم الوحدة بعد تذمُّر القوى السياسية سواء ممن ساهم في صنعها أو ممن رفضها فحدث الانفصال الذي لم يدم أكثر من سبعة عشر شهراً، رغم عودة الديمقراطية إلى حياة البلاد السياسية، إذ داهمها المدِّ القومي/الاشتراكي بانقلاباته العسكرية، ونهوض أبناء الريف للمساهمة في الحياة الجديدة.. فكان انقلاب 8 آذار 1963 الذي قسَّم البعثيين إلى وحدويين بشروط (مراوغين) وآخرين بدونها.. ولتأتي هزيمة حزيران 1967 الصاعقة. فيخرج السوفييت على الجميع بأن غاية إسرائيل إسقاط النظامين التقدميين في سورية ومصر لا احتلال أراضيهما.. ويحتدم الصراع داخل حزب البعث، وبين تيارَيْه المدني والعسكري، اليساري واليميني، حول قرار مجلس الأمن 242 القاضي شكلاً بإزالة آثار العدوان.. وفي الجوهر لإيقاف حرب الاستنزاف، ولاستثمار إسرائيل نصرها العسكري.. وهكذا أتى حافظ الأسد مؤيَّداً من غرب العالم وشرقه، وعربياً من المملكة العربية السعودية، ومصر السادات، وداخلياً من غرفة تجار دمشق التي يرأسها شهبندر التجار الدمشقي بدر الدين الشلاح الموسوم بـ: "الماسونية"، وكذلك من الأحزاب الوحدوية التي رأى قادتها في الأسد استمراراً لجمال عبد الناصر المتوفى قبل شهر ونيف..! ولبَّى الحزب الشيوعي رغبة السوفييت، فتعاون مع الأسد المتهم شيوعياً بقيادة مجموعة من العسكريين البعثيين اليمينيين، وأخذ خالد بكداش يبرهن نظرياً على صحة خطوة الحزب مستعيناً ببعض العبارات الماركسية التي تحيل إلى قراءة الواقع.. وكسياسي مولع بالسلطة أخذ ينظر إلى ما يمكن أن يمنح التعاون حزبه من مكاسب؟! ولمعرفته تماماً بحاجة الأسد إلى الحزب الشيوعي، طلب منه وزيرين بدلاً من وزير واحد (بحسب يوسف فيصل) ووافق الأسد..! (وما الذي يضير الأسد إن كان هو زعيم السلطتين العسكرية والمدنية، والكل تحت إمرته..!)

ولم يدرك الحزب الشيوعي الذي تجاوز موقفين سياسيين ملتبسين حجم وقوعه في خطأ ثالث قاتل، هذه المرة، وهو قبوله بالتحالف مع زعيم انقلاب عسكري لطالما رفض مبدأه جملة وتفصيلاً، وهكذا، مضى الحزب إلى حتفه السياسي كما اتضح، فيما بعد، متجلياً بالأمور الرئيسة التالية:

 لم تكن الجبهة الوطنية التقدمية أكثر من واجهة شكلية عن التعددية السياسية وتلميعاً للانقلاب أمام دول الغرب لكنها في الحقيقة هيكل مفرغ من أية مسؤولية قيادية، وقد أهملت وميثاقها المجحف أصلاً، فلم يسمح لها بإصدار جريدة خاصة بها كما نص الميثاق، وأخذت اجتماعاتها تتأخر أشهراً طويلة، بل سنوات، وقد سلمت قيادتها لنائب الرئيس ولم يجر الاهتمام بها إلا حين هُددت السلطة كما حدث أوائل الثمانينيات، حين حل حزب البعث النقابات المهنية، وأتى بالشيوعيين وبغيرهم لمواجهة الإخوان المسلمين.

 الانقسامات المتوالية للحزب الشيوعي التي بدأت مع الحركة التصحيحية بانقسام كبير فكري وتنظيمي تلته عدة انقسامات لعب البعث ومخابراته دوراً فيها. وقد غدا أواخر سنيِّ حافظ الأسد أربعة أحزاب، ناهيك بانقسامات ضمن المنقسمين نجمت عنها زمراً صغيرة لم يكتب لها الاستمرار، والكل يحمل صفة خاصة تميِّزه إلى جانب اسم الحزب الشيوعي السوري، (المكتب السياسي، "منظمات القاعدة"، "خالد بكداش"، "يوسف الفيصل"، ميَّز نفسه فيما بعد بـ: "الموحد")، وفي عام 2000 ولد حزب خامس انفصل عن الحزب الذي ورثته "وصال فرحة بكداش". قاده "قدري جميل" المتهم بعلاقات مع وجوه النظام، وأجهزته، وقد سمى حزبه بـ: (اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، ثمَّ حوّله إلى حزب الإرادة الشعبية وقد فرضه الروس في هيئة التفاوض.)

-  مواقف الأسد الشرسة تجاه العمل السياسي المستقل وضد أيِّ موقف يخالف سياسة النظام.. وهذا ما حصل حين عارض الحزب الشيوعي دخول الجيش السوري إلى لبنان، وعبَّر عن موقفه بضرورة خروجه، ثمَّ عدم موافقته على قرار الأسد بالتعامل مع شركة أميركية (تريبكو) لاستثمار النفط مخالفاً نهج سوريا العام باستثمار النفط وطنياً (مُنِعت قيادة الحزب من السفر خارجاً) وكذلك حين أصدر الحزب بياناً شاملاً بعد مذبحة حماة إذ تعرَّض البيان للأخطاء الجسيمة التي حدثت خلال مجابهة حوادث الإخوان المسلمين، كالقتل الجماعي، والاعتقال على الشبهة، ونزع حجاب النساء في الشوارع والأسواق العامة، وسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فكان الرد أن رُفِض مرشحو الحزب ضمن قوائم الجبهة ما يعني إسقاطهم.. أما حين وردت عبارة في نصِّ تقرير المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي/يوسف فيصل تشير إلى حقوق قومية لأكراد سوريا قامت قيامة البعث، وهدد عبد الحليم خدام باستبدال قيادة الحزب. وهكذا شطبت العبارة..

  وإضافة إلى ما ذكر، فقد غدت الجبهة مجالاً للتكسب الشخصي، ولم يخل بعض أعضاء الحزب الشيوعي من ذلك المرض، وبرز ذلك في:

 الانقسامات المتوالية للحزب الشيوعي التي بدأت مع الحركة التصحيحية بانقسام كبير فكري وتنظيمي تلته عدة انقسامات لعب البعث ومخابراته دوراً فيها

 -  استسلام الكثير منهم إلى حال من الاسترخاء والشعور بالرضا عن النفس، رافقها لهاث خلف مكاسب صغيرة، إن لم أقل تافهة، قياساً لما يميز نضال الشيوعيين، وطموحهم الوطني والإنساني، فاكتفوا بعضوية مجلس نقابة أو مدينة أو مجلس شعب أو وزارة..!

-  أما قاصمة الظهر فكانت بسقوط الاتحاد السوفييتي، إذ تيتم الحزب، فكان حزب البعث خير من يتبناه. دون أن يلتفت أيٌّ من أقسامه إلى مراجعة حقيقية، ومن حاول لم تتجاوز محاولته حدود الورق والكلام، فالمشكلة أعمق وأبعد، وترتبط بحركة الحياة ومتغيراتها، وبالأفكار الجديدة التي تناسبها بحسب ما يقوله منطق الديالكتيك أحد مكونات الفلسفة الماركسية.

-  تعمقت علاقات بعض الكوادر الحزبية مع أجهزة النظام المختلفة ما أفقد الحزب استقلالية قراره وبرز ذلك في الموقف من الاحتجاجات الشعبية بداية العام 2011 إذ حكم على تلك الاحتجاجات، منذ بداياتها، على أنها إخوانية، وهكذا بُرِّرَ موقف الحزب الرسمي بمساندة الاستبداد بالقول "الفاشية ولا الإخوان" (تصريح ليوسف نمر عضو مكتب سياسي/شقيق الأمين الأول للحزب الذي يحمل اسم: "الشيوعي الموحد"). لكن هذه التصريحات لم تمنع الكثيرين من شباب الحزب عن تأييد الاحتجاجات والمساهمة بالمظاهرات في معظم المدن وحدث لهم ما حدث للكثير من السوريين من قتل وسجن وإصابات وتصفيات في المعتقلات، وصدور أحكام ظالمة طالتهم وممتلكاتهم..!

اليوم وقد دمرت سوريا بشراً وحجراً، وقتل أهلها وتشردوا، وترتهن لمساومات تهدد هويتها وخارطتها في بازارات الروس والأميركان، ومن خلفهم محتلون أقل شأناً.. اليوم لا ترى أحداً من المتصارعين ولا ممن يسيرون في ركابهم يملك حق قرار مستقل، أو يطلق صوتاً ينم عن روح وطنية يسهم في معافاة السوريين. والأنكى أن الكثير من الشيوعيين الرسميين يعتقدون بأن الروس ذوي الباع الطويلة في قتل السوريين وتدمير وطنهم ورثة الاتحاد السوفييتي السابق والأقرب إليهم..!