العطب والذات في الثورة السورية

2019.04.21 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كتاب برهان غليون الصادر مؤخرا، حمل عنوان (عطب الذات) موجزا بذلك خلاصة ممارسته الشخصية العاصفة في بدايات الثورة السورية، بالتوازي مع اختباره المنهجي لها كباحث وأستاذ جامعي معروف. وهو ما عبّر عن هم الكتاب وموضوعه الرئيس، الذي انصب على دور السوريين كذات وفاعل جمعي ومسؤوليتهم عن مسيرة وقائع الثورة التي لم تكتمل، بحسب عنوان آخر فرعي للكتاب نفسه، والذي ينضم إلى قائمة طويلة من كتب المؤلف بدأت بكتابه الشهير بيان من أجل الديمقراطية الصادر عام 1978!

خلف ذلك الهم الرئيس، كان الكتاب أو المجلد في الواقع بحسب حجمه الكبير، رواية شاملة عن تاريخ علاقة الكاتب، بهموم الداخل السوري، منذ شبابه الأول عبر مرحلة الوحدة وما بعدها، وصولا إلى اختياره الخروج ومتابعة الدراسة الجامعية في فرنسا، ثم بدء تردده إلى سوريا وزياراته المتكررة لها، والتي تخللها تعرضه شخصيا لضغوطات الأمن السوري المعروفة،  فضلا عن متابعته حراك المعارضة السورية دائما، وصولا إلى أحداث الثورة التي انخرط في غمار مسؤولياتها، مغامرا بنفسه وموقعه الأكاديمي، ومتجاوزا الحواجز المصطنعة بين المثقف والسياسي، كي يستجيب لنداء الواجب ولضغوط شباب المعارضة. فقام بمسؤولية الرئاسة الأولى للمجلس الوطني السوري، في مرحلة عاصفة من نشوب الثورة التي أثارت قدرا كبيرا من الآمال والزهو الأخلاقي، وسرعان ما أدى بها العطب الذاتي مع غيره من العوامل السياسية إلى الانحدار والتراجع وخيبة الآمال.

كان الكتاب أو المجلد في الواقع بحسب حجمه الكبير، رواية شاملة عن تاريخ علاقة الكاتب، بهموم الداخل السوري، منذ شبابه الأول عبر مرحلة الوحدة وما بعدها

فقدم بذلك رواية فيها من السرد الذاتي الشفاف و الشهادة الحية المثيرة بقدر ما فيها من التحليل المدعم بكثير من الأحداث والوثائق، أثق بأن الكثيرين ممن عايشوا تلك المرحلة سيشهدون بين تفاصيلها وقائع مشاركتهم المشهودة، وبينهم الكثير من الناشطين المغمورين، الذين كان الكتاب فرصة لتوجيه التحية والتقدير لهم على روح البذل والتضحية والجهد الذي قدموه بلا مقابل سوى إيمانهم بقضية شعبهم. لكن لما كان لابد من وضع تلك الأحداث في سياقها التاريخي، فقد قام الكاتب بتقديم عرض و تحليل مفصل للسياسات الإقليمية والدولية لتلك المرحلة، متوصلا على خلاف ماهو شائع، بأن مشكلة الثورة السورية لم تكن مع تآمر الآخرين عليها ( إقليميا أو دوليا) وهم الذين تضامنوا معها ثم ترددت سياساتهم مع ضعف مسارها بل كانت  مشكلتها في الخيارات السياسية الضعيفة التي اضطرت الثورة إلى اللجوء إليها، تحت ضغط الحرب التي شنها نظام الجريمة وحليفيه الروسي والإيراني، والعنف غير المسبوق اللذي استخدم ضد جماهيرها، ونتيجة لضعف خبرة الناشطين وبنية الوعي السياسي الذي حكم أدوار البارزين في قيادات المعارضة والثورة.

ونظرا لكون الكتاب مخصصا لأحداث السنتين الأوليتين في الثورة ونتائجها، فإن الكاتب بادر مسبقا للرد على التساؤل عن تأخره في الحديث عنها حتى اليوم، بالقول ( خطفتني الثورة السورية كما خطفت معظم السوريين، وبقيت منذ ثماني سنوات حبيس النظر في الرهانات المصيرية التي مثلتها في عيون شعب قضى الجزء الأكبر من تاريخه ينتظر فرصة تحرره من كابوس نظام استثنائي تعسفي ) فكانت الكتابة والبحث العلمي بالنسبة له و(للمنخرطين في الحركة الحية، كالانشغال بتغسيل الموتى عوض العمل على إنقاذ الأحياء) أما اليوم فقد آن الأوان، ( لتبدأ في نظري ثورة ثانية .... فكرية ونظرية وأخلاقية .. ثورة وعي مأمولة.. في محاولة شجاعة لمراجعة ما حصل ) !

و لم ينصرف جهد الكتاب إلى (تفسير أسباب اندلاع الثورة السورية، ولا نفي الأطروحات التي شاعت حولها، ولا إلى تفسير الحرب الوحشية ) التي تكالبت عليها، وإن تعرّض لكل ذلك بإسهاب وتوثيق في فصول مطولة عن خيارات السياسة والحرب بين خرافة التدخل الدولي وأسلمة الثورة، إلى فوضى العالم الذي تراجع فيه الغرب وتقدمت روسيا بوتين، وصارت فيه سوريا مسرحا لحرب إيران الإقليمية ، ثم انقلاب التاريخ الذي تجددت فيه الحرب الباردة والحرب العربية الإيرانية. بل انصرف أساسا إلى تحليل ممارسة الذات الثورية التي تصدت لقيادة الثورة، أشخاصا وأحزابا وتكتلات، أفكارا ونظريات وممارسات ومواقف، وذلك انطلاقا من مسؤولية هذه الذات، البشر وإدراكهم ودروهم، في علاقتها مع الواقع المحلي والبيئة الإقليمية والعالم. ذلك أنه يقرّ بأننا لانعمل في الفراغ، وأننا رهن شروط وجودنا التاريخية، ففيما ( يتعلق بفهم مسار التحولات الاجتماعية لا يمكن الفصل بين العوامل الذاتية والشروط الموضوعية، وأن ضعف الأول يساهم في تعظيم أثر الثاني والعكس”.) لكنه لم يتهرب من مسؤولية البشر في التاريخ، ولم يستسلم إلى عفوية حركته ولا إلى حتمية تاريخية موهومة، لا تجد سبيلا لها سوى الشكوى وتقديم  مظلوميات  عاجزة،   فنحن لن نغير تلك الشروط ( ما لم ننجح في تغيير أنفسنا أي منهج تفكيرنا وأساليب عملنا وتنظيمنا وأخلاقياتنا، وهذا هو المهم  والمطلوب والناجع لخلاصنا).

في إطار ذلك، استعرض الكتاب ممارسات النخبة السورية التي لعبت أدوارا بارزة في سياق الثورة، من كتلة إعلان دمشق إلى جماعة الإخوان المسلمين إلى مجموعة العمل الوطني، ومن المجلس الوطني إلى مجموعات الجيش الحر، وهيئة التنسيق الوطنية، إلى التيارات الكردية، والظواهر الفردية كالعرعور وغيره ، إلى باقي كوادر المعارضة السورية، محللا مواقفها وأدوار بعض شخصياتها، مستخلصا إفلاس تلك النخبة وعطبها وخيبة الأمل بالمثقفين عموما، بخلاف الكرم وروح التضحية ونكران الذات والبطولة التي أظهرها الشعب السوري منذ بدء مظاهراته الأولى!.

ولقد تجلى ضعف النخبة الثورية السورية وإفلاسها، أو ما استحق عنوان الكتاب، في عجزها عن تكوين قيادة متفاهمة متكاملة ، واستغراقها بدلا من ذلك بالانقسام والخلافات والنزوع إلى الاستفراد بالعمل وأوهام الاستيلاء على الثورة وقيادتها، استمرارا لنهجها السابق قبل الثورة، في حين كان عامة الشعب السوري يبذلون أغلى التضحيات في صراعهم ضد عنف السلطة وجرائمها.

مضى الكتاب في محاولة  كشف طبيعة ذلك العطب، في كونه نتيجة طبيعية لقواعد ولادة النخبة في ظل نظام الاستبداد السوري، موالية أو معارضة على حد سواء

وفي فصل بالغ العمق والغنى، مضى الكتاب في محاولة  كشف طبيعة ذلك العطب، في كونه نتيجة طبيعية لقواعد ولادة النخبة في ظل نظام الاستبداد السوري، موالية أو معارضة على حد سواء، والتي استجابت واقعيا لتلبية حاجات النظام الاجتماعي، من حيث إنه صناعة سياسية دقيقة، كانت تهدف دوما إلى منع النخب ومن ورائها الشعب من إنشاء مركز سلطة مناوئة، أو مضادة. وسبيل النظام إلى ذلك، كان (تفريغها من المادة أو القوة الأساسية التي تمنحها صدقيتها وقيمتها : السيادة أو وهم السيادة، بمعنى العمل في السياسة بوصفها مشاركة في مصائر الحياة العامة). فعبر التاريخ البعثي السوري الطويل لحظر العمل في السياسة، سادت أخلاق المنفعة والفساد والتهرب من الشأن العام، بل ساد تعهير السياسة والعمل فيها، بينما عاشت المعارضة السورية زمنا طويلا تحت الأرض، وسادتها أخلاق الشك والحذر والانقسام والعجز عن التعاون. وأبرز تعيين لذلك كان الخلاف المستحكم بين جناحيها المتمثلين سابقا في حزب الشعب الديمقراطي والاتحاد الاشتراكي العربي، و الذي استدام لاحقا بعد الثورة، في الصراع بين مجموعة إعلان دمشق ومجموعة هيئة التنسيق! وفي هذا السياق قام الكاتب بتسمية الشخصيات وأدوارها، لكنه لم يفتح بذلك النار على أحد كما سارعت صحافة الإثارة، بل كان ذكره للأسماء بقصد التحقق من الواقعة وتأكيد صدقيتها، و" هدف إلى تلمس الأخطاء عبر الخيارات الضعيفة التي كانت مسؤولة عنها، وكان ممكنا لأي واحد وجد في الظروف ذاتها أن ينزع إلى تبني الخيارات ذاتها" !.

إلى ذلك ، ربما سيعتبر بعضهم هذا الكتاب تصفية حساب شخصية ، ردا على ماعاناه الكاتب من خذلان النخبة السياسية وتصارعها بعيدا عن مصلحة الثورة وأهدافها، وهو تصفية حساب حقا لكن مع مرحلة وخيارت كان نتاجها حتميا و” ما كان من الممكن أن يحصل في سورية غير ما حصل. ...والسبب أنه لم يكن في سوريا شعب بالمعنى السياسي للكلمة. فقد كان همّ النظام القائم وبرنامج عمله، منذ ولادته، تفريغ الشعب من كل صفاته ومضامينه وتحويله إلى جماعات متنافرة ومتناحرة، وتوجيه بعضه ضد البعض الآخر، للاحتفاظ بتفوقه وسيطرته".

من جهة أخرى، إذا كان هناك من سبق لهم أن اتهموا د. غليون بالمسؤولية عن فشل المرحلة القصيرة التي ترأس فيها المجلس، فلهم أن يلاحظوا أن جميع من تولوا الرئاسة بعده، سواء في المجلس الوطني أو في الائتلاف الوطني، لم يكونوا أحسن حظا ّ!. وبذلك يتأكد ، أن العطب لم يكمن في شخصيات وأفراد، على الرغم من الفوارق الكبيرة بينهم، إنما تجلى في مجمل بنية الذات السورية الثورية، وكتاب د. غليون الذي تركز على هذه المسألة، سيكون خير دليل أمام الأجيال القادمة لفهم وعلاج ذلك العطب، عندما ستجدد ثورتها وتكمل طريقها، التي لاشك أنها ستستعيد أهدافها الأولى من أجل سوريا المستقبل، ومن أجل حرية السوريين وكرامتهم !.