"نحن الدولة".. تنظيم داعش 2013

2020.07.28 | 00:00 دمشق

26a9e6ccdeaa06cccd6e29d7.jpg
+A
حجم الخط
-A

بداية عام 2013 كان كثير من طلاب جامعة حلب الذين قادوا الحراك السلمي الثوري فيها منذ عام 2011 قد انخرطوا في العمل المسلح ضمن التشكيلات العسكرية التي باتت تسيطر على القسم المحرر من مدينة حلب، سواء كانت من فصائل الجيش السوري الحر أو الفصائل الإسلامية على اختلاف توجهاتها ومشاربها، أو حتى تنظيمات مثل (جبهة النصرة) التي صنفتها الولايات المتحدة الأميركية على قوائم الإرهاب أواخر العام 2012، قبل أن تعلن الجبهة لاحقاً تبعيتها لتنظيم القاعدة في النصف الأول من عام 2013.

وبسبب زمالة العمل الثوري ضمن صفوف تنسيقية جامعة الثورة، فقد احتفظت بعلاقة طيبة مع معظم زملائي الذين اختاروا حمل السلاح على اختلاف الفصائل والتنظيمات التي قاتلوا ضمن صفوفها، وهو ما كان يعني تواصلاً دورياً مع معظمهم، فضلاً عن القدرة على حل عدد من المشاكل عن طريق هؤلاء الشباب الذين كانوا يتولون أحياناً مناصب قيادية ضمن مجموعاتهم.

ورغم أن جبهة النصرة قد بدأت وجودها في القسم المحرر من مدينة حلب بشكل خجول مع بواكير دخول فصائل الجيش الحر إليها في تموز عام 2012، إلا أنها تمكنت في فترة قياسية من التضخم عدداً وقوة ونفوذاً، لأسباب عدة ربما يكون أهمها آلية "الدعاية والتسويق" الممنهج التي كانت تستعملها، والتي عملت فيها على مستويين أساسيين:

المستوى الأول هو العمل التبشيري أو الدعوي بالمنهج السلفي الجهادي الذي كان التنظيم يتبناه، في ظل شح أعداد المشايخ المنتمين لمناهج أخرى والناشطين في المناطق المحررة، حيث حرص التنظيم على توفير "مشايخ" أو دعاة يحضرون دائماً على الجبهات أو في المقرات سواء مع مقاتلي مجموعاتهم أو حتى مع مجموعات أخرى، مع جهود مماثلة سهلت المهمة عليهم من تنظيمات أخرى آنذاك مثل (حركة الفجر الإسلامية – كتائب أحرار الشام)، والذين كانوا يجيبون عادة عن السؤال المتكرر للمقاتلين: "إذا كان منهجكم ومنهج النصرة هو نفسه.. فلماذا لا تصبحون واحداً؟"، بأنهم لا يتبنون حدية النصرة في بعض الأمور اعتماداً على "السياسة الشرعية"، وهو ما كان يعني حرفياً بأن "الأصل الصافي" هو للنصرة.. لذلك لم تستطع هذه المجموعات أن تدخل في مواجهة مباشرة ضد النصرة أو "داعش"، وكان عليها تبني سياسة تربية مختلفة في معسكراتها أولاً بعد تلقيها ضربات قاسية.

أما المستوى الثاني الذي عملت عليه "النصرة" فهو غرز تميزها كفصيل نخبوي عن باقي التشكيلات، في نفوس مقاتليها أولاً -ضمن معسكرات الإعداد الشرعي- ومن ثم لدى الآخرين، فكان على المقاتل المنتمي للنصرة أن يرتدي غالباً "الباكستانية" واللثام، مع الامتناع عن التدخين والتزام السواك فيما يشبه هوية لباس موحد، إضافة إلى خفض اختلاطهم بالمدنيين والمقاتلين من مجموعات أخرى والذي كان مهمة المشايخ أو الأمنيين، مع التركيز على العمليات العسكرية والأمنية ذات الصدى الإعلامي، وقبل كل ذلك من خلال نظام "البيعة" للأمير الذي كان يلزمهم بالسمع والطاعة دون سؤال، مما خلق لها كتلة متجانسة منضبطة، خصوصاً وأن النصرة كانت تحجم عن ضم المقاتلين إليها جماعات، والاقتصار على ضم الأفراد.

كما كانت النصرة تولي اهتماماً كبيراً لسلوك أفرادها تجاه المدنيين، وكانت تتعمد محاسبة منسوبيها علناً أمام الناس إذا ما تم تقديم شكاية ضدهم، تعزيزاً لتميزها عن الفصائل الأخرى التي كان المدنيون يعانون معها أحياناً كثيرة.

وهذا كله كان ينمّي لدى مقاتلي النصرة الإحساس بتمايزهم عن الآخرين، بنهجهم الصافي، وهدفهم الأسمى المقدّس: "تطبيق الشريعة دون مواربة".

 اقرأ أيضاً مقال سابق للكاتب "جبهة النصرة في حلب.. البدايات" 

تنظيم داعش

في شباط عام 2013 زارني أحد أصدقائي الذين شاركوا في قيادة الحراك الثوري في جامعة حلب، والذي كان يقاتل آنذاك في صفوف كتيبة مستقلة تضم مهاجرين ومقاتلين محليين تولى قيادتها طالب جامعي آخر، والتي كانت تتخذ من بناء في معبر باب الهوى الحدودي شمال إدلب مقراً لها.

وبعد نقاش حول تشتت العمل العسكري وضرورة وجود مرجعية حكومية عامة بشكل أو بآخر في المناطق المحررة، أخبرني أن كل هذا على وشك أن يتغير! وأن "كياناً جديداً ستتوحد ضمنه التشكيلات الجهادية جميعها سينشأ قريباً"!
حاولت حينها الاستفسار أكثر عن الأمر لكنه أصر على عدم الخوض في تفاصيل جديدة.

بعدها بشهرين تقريباً أعلنَ "البغدادي" في تسجيل صوتيّ في نيسان عام 2013 أنّ "جبهة النصرة" فرع من تنظيم "دولة العراق الإسلامية" التي يرأسُها، وأنها الآن تعود إليها مشكّلة معها "الدولة الإسلامية في العراق والشام" والتي عُرِفَت اختصاراً -أو تصغيراً- بـ "داعش"، ليظهر "الجولاني" بعد يوم واحد من التسجيل معلناً عدم معرفته بالتسجيل السابق وأنّ "النصرة" تتبع مباشرة لتنظيم القاعدة وأميره "الظواهري".

وهو ما أدخل "النصرة" في صراع داخلي بين من استجابوا لتسجيل البغدادي وبين من بقوا مع الجولاني من منسوبي "النصرة"، وليظهر جلياً أن أتباع البغدادي في حلب هم أصحاب اليد العليا، خاصة مع انضمام عدد ليس بالقليل من المجموعات التي كانت مستقلة إلى الكيان الجديد "تنظيم الدولة" أو "داعش"، فتمكنوا من بسط سيطرتهم على معظم مقارّ النصرة ومستودعات سلاحها، وانحاز إليهم معظم مقاتليها، أما القلة المتبقية مع النصرة فقد اختارت بداية الانكفاء على نفسها في المقرين المتبقيين لديها، وفي الجبهات التي كانوا يرابطون عليها.

المنافس الجديد 

منذ البداية كان واضحاً أن تنظيم داعش يختلف في استراتيجيته عن جبهة النصرة، حيث طرح نفسه ككيان "جامع"، بالتزامن مع نشاط كبير على كافة المستويات دعَويّاً وميدانيّاً وعسكريّاً، فاتحاً الباب لضمّ المجموعات والأفراد إلى صفوفه، حتى تلك التي لم تكن تتبنى نهج السلفية الجهادية، دون أن يرسم قطيعة في التنسيق مع الكيانات الأخرى، فاجتمع له في وقت قليل عدد كبير من المنسوبين، بشكل بات معه واضحاً أن جهوداً تحضيرية قد بذلها التنظيم قبل تسجيل البغدادي الذي أعلن فيه قيام داعش.

كما حرص التنظيم منذ البداية على تنفيذ عمليات اجتثاث أمنية وعسكرية ضد المجموعات العسكرية "الفاسدة"، والتي كانت الكيانات القضائية مثل "الهيئة الشرعية في حلب" تأخذ وقتاً طويلاً في إجراء عمليات محاسبة لها رغم تكرار الشكاوي من المدنيين ضدها، فطرحت داعش نفسها بديلاً عن هذه الكيانات القضائية، وبادرت لافتتاح محاكم تتبع لها في كل قرية ومدينة وجدت فيها.

وهو ما أكسب التنظيم تأييداً واسعاً بين صفوف المدنيين، كما أعطى مقاتليه المنسوبين إليه ثقة كبيرة بجماعتهم، التي بدأت تعزز لديهم فكرة واحدة رئيسية، ستغير شكل المناطق المحررة بشكل جذري.

أواسط العام 2013 زارني مرة أخرى الشاب المنتسب لتنظيم داعش، وبعد حديث طويل عن تجاوزات لدى التنظيم الذي كان يرفض قبول محاكمة أفراده لدى محكمة أخرى -وأحياناً حتى ضمن محكمة مشتركة- بل كان يصر أن يكون القضاة من منسوبيه أو من المستقلين، أجابني بطريقة غريبة لم تعرفها المناطق المحررة آنذاك! حيث أصرّ أنهم هم "الدولة".

تلك كانت المرة الأولى التي أفكر فيها باسم التنظيم: "الدولة الإسلامية".. هذا لم يكن اسم تنظيم، لقد كان بالفعل بالنسبة لمقاتليه دولة حقيقية، وهو ما يعني أن أي كيان خارجها غير شرعي..

لم تحتج المناطق المحررة وقتاً طويلاً بعدها لتدرك هذه الحقيقة، لكن هذا جاء متأخراً..
متأخراً جداً..