سقط اللّيث شهيداً.. شارع 15 في حلب

2020.01.27 | 23:03 دمشق

1456548_533015806788884_1168909136_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

دخل الثوار مدينة حلب من محورين، أحدهما من منطقة "أرض الحمرا" في أحيائها الشرقية والتي تجمع فيها ثوار الريف بقيادة "لواء التوحيد"، أما الآخر فقد انطلق من كتلة أحيائها الغربية بدايةً من حي "صلاح الدين" الذي خرج فيه بعض أبنائه من حملة السلاح معلِنين تحريره في 20 تموز عام 2012، ليتوالى خروج الثوار على مدار الأيام التالية من أبناء الأحياء الأخرى بسلاحهم الذي كانوا يستخدمونه لحماية المظاهرات السلمية، مساهِمين في تحرير مدينتهم، كما حدث في أحياء بستان القصر والكلاسة والسكري والصاخور وغيرها.. وتمّ في الأسبوع الأول تحرير الكتلة الأكبر من أحياء حلب والتي ستبقى مُحرَّرةً حتى سقوط المدينة بيد الاحتلالين الروسي والإيراني أواخر عام 2016.

كان واضحاً أنّ نظام الأسد لم يكن جاهزاً لمعركة شبيهة، فلا تحصينات تُذكَر في محيط المدينة باستثناء الحواجز على مداخلها الرئيسية، والتي تجنّب الثوار الاصطدام معها عند الدخول إلى حلب، فضلاً عن غيابٍ شبه كامل لأيّ خطط دفاعيّة داخل المدينة، حيث اكتفى النظام بخطته الأمنية لمواجهة المظاهرات، وبضعةِ مسلّحين يدافِعون عنها، واعتمد على مخافر الشرطة وأفرع الأمن كنقاط ارتكاز لشبيحته، مع نشر حواجزَ بأعداد عناصر قليلة وسلاح خفيف تفصل الأحياء عن بعضها، والتركيز على حملات المداهمة التي كانت تنفِّذها دوريّات أمنيّة متخصّصة تقتحم الأحياء الأنشط ثورياً ليلاً لاعتقال المطلوبين.

لذلك لم يكن صعباً على الثوار أنْ يحرِّروا الجزء الأكبر من المدينة في أيام قليلة، فكانت آليّة التحرير آنذاك تقتصر على حصار المباني الأمنيّة في الأحياء التي يرغب الثوار بتحريرها، ويكفي أنْ يَسقُط مخفر حيٍّ ما بيد الثوار حتى يتمّ إعلانه مُحرَّراً، خاصة مع التخبّط الشديد الذي أصاب قيادة النظام الأمنية في المدينة، والتي تَركَت عناصر الأمن والشرطة في المخافر يواجهون جموعاً متحمِّسةً من الثوار، يزيدُها استشهادُ أحدهم غضباً ويُمِدُّها بدافع إضافي لمواصلة التحرير.

ولم تتشكّل مقاومةٌ حقيقية لتمدُّد الثوار داخل المدينة حتى مرور أسبوع على دخولهم، عندما حشَد نظام الأسد قواته في عدد من نقاط الارتكاز لتدارك الفوضى ضمن صفوفه، متمكِّناً من استدراج الثوار إلى مواجهة مباشرة غير متكافئة في عدد من المناطق، كان أبرزها "شارع 15" في حي "صلاح الدين" الحلبي، الذي يفصلُه عن حيّ "الحمدانية" أوتسترادها العريض.

حشَد نظام الأسد قواته في عدد من نقاط الارتكاز لتدارك الفوضى ضمن صفوفه، متمكِّناً من استدراج الثوار إلى مواجهة مباشرة غير متكافئة في عدد من المناطق، كان أبرزها "شارع 15" في حي "صلاح الدين" الحلبي

وبدأَت آثار قلّة أعداد الثوار وضعف التّسليح والتّذخير تظهر جليّة في تلك المعارك، فضلاً عن غياب قيادة موحدة تقود العمليات العسكرية بشكل منظّم داخل المدينة، والذي أظهرَه انفصال عدد من الكتائب المشكِّلة للواء التوحيد متحوِّلَةً إلى ألوية مستقلّة في الأشهر الثلاثة الأولى مثل لواء الفتح ولواء الأمويين ولواء أحرار سورية وغيرها.. إضافة إلى تجمُّع كتائب المدينة الصغيرة التي كانت تعمل بالتنسيق مع لواء التوحيد في البدايات ضمن ألوية مستقلّة كان أبرزها لواء حلب الشهباء..

في المناطق المحررة

منذ اليوم الأول لدخول الثوار اتّخذْنا قرارنا في المكتب الإعلامي لتنسيقية جامعة الثورة بسدّ النقص في التغطية الإعلامية للحدث المهم، وبات لأحدِنا جولة يومية في الأحياء المُحرَّرة تنتهي بالعودة إلى منزلنا في حي المارتيني ضمن المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، لتحميل مقاطع الفيديو التي تم تصويرها خلال اليوم.

اقرأ أيضاً مقال سابق للكاتب: تشكُّل الإعلام المحلي في حلب بعد التحرير

وكان يخفِّفُ صعوبة تلك الجولات علينا لقاءُ أًصدقاء انقطعَت أخبارهم عنّا منذ أمد، لنتفاجأ بهم يحملون السلاح في صفوف الثوار..

مثل "أبو الحسن الحموي" من طلاب جامعة حلب من أبناء حماة، والذي التقيتُه مرابطاً على النقطة التي تفصل المنطقة المحررة عن المحتلة قرب دوار صلاح الدين، ببندقيّة صدِئة تحمل مخزنَي ذخيرة ألصقهما بشكل متعاكس، وأبو الحسن -تقبله الله- اشتهر في مظاهرات جامعة حلب بكثرة اعتقالاته، بسبب حميّته "المبالغ فيها" والتي تدفعه دائماً للاشتباك بالأيدي مع عناصر حفظ النظام بعد أيّ مظاهرة لتخليص معتقل من بين أيديهم.

لكنّ المفاجأة الأجمل بالنسبة إليّ كانت لقاء "أيهم عكيدي".. أحد أبناء مدينة حلب وطالب الترجمة في جامعة إيبلا، الذي تعودُ أصول عائلته إلى قرية زيتان في ريف حلب الجنوبي.

كان أيهم من أوائل الثوار الذين تعرفتُ عليهم في مدينة حلب، وذلك ضمن مجموعة ضمَّت بعض طلاب الجامعة من أبناء المحافظات السورية الأخرى وعدداً من أبناء المدينة

كان أيهم من أوائل الثوار الذين تعرفتُ عليهم في مدينة حلب، وذلك ضمن مجموعة ضمَّت بعض طلاب الجامعة من أبناء المحافظات السورية الأخرى وعدداً من أبناء المدينة، والتي نسّقَت لعدد من المظاهرات الجريئة في مناطق طالما اعتبرَتْها قيادة النظام الأمنيّة في المدينة خطوطاً حمراء، مثل مظاهرة حي "الجميلية" أواسط حزيران في عام 2011.

اقرأ أيضاً مقال سابق للكاتب عندما دخلنا المنطقة المُحرَّمة في حلب

ولأن بنية أيهم الجسمانيّة القويّة كانَت توحي بعمرٍ أكبر من عمره الحقيقي، فقد تحمَّل غالباً مسؤولية مجموعةِ الحماية لمظاهراتنا، وعند اعتقال أحد المتظاهرين كان يقترب من الشبّيحة بلهجةٍ عدائيّة كأنه أحد مسؤولي الأمن في المدينة، ساحباً المتظاهر من بين أيديهم ومطلقاً سراحه بأيّ حجّة تخطر على باله.

لا أذكر تماماً متى كان لقائي الأخير بأيهم قبل انقطاع أخباره، لكنه في فترةٍ ما بين أواخر عام 2011 وبداية عام 2012، حين وردَني اتصال منه اتّفقنا فيه على لقاء قرب حديقة المارتيني، وهناك أخبرني بنيّته الذهاب إلى الريف الحلبي للمشاركة في معسكر تدريبي على السلاح!

ورغم إيماني بضرورة التسلُّح مبكِّراً، وبأنّ هذا النظام لن تُسقِطَه المظاهرات مهما كبُرَت، إلا أنّي كنتُ أرى أنّ استمرار الحراك الثوري في مدينة حلب أولى من حمل السلاح، ولذلك رَجَوتُه أنْ يؤجّل قراره دون جدوى..

على مدار الأشهر التالية نفّذ أيهم عدداً من العمليات الأمنيّة في مدينة حلب، كما تمكّن من تشكيل مجموعة عسكريّةٍ باسم الصحابي "أبو أيوب الأنصاري"، والتي قادَها في معارك تحرير الشمال الذي كان معروفاً بين ثواره باسمه الحركي "هاشم"، من تحرير معبر باب الهوى في إدلب، مروراً بمعركة صدّ الرتل الشهيرة في الأتارب في ريف حلب الغربي، وصولاً إلى معارك ريف حلب الشمالي.

جزء من تقرير لقناة تلفزيونية يظهر فيه الشهيد أيهم عكيدي بقناعه الأسود، في الأيام الأولى لحمل السلاح في ريف حلب بدايات عام 2012.

 

 

ثمّ وفي اليوم الأوّل لمعركة تحرير حلب دخل "أيهم" بكتيبته المدينة بنفس الأسلوب الذي اعتاد التحرُّك فيه، معتمداً على خوف عناصر النظام، فمرّ من أحد حواجز النظام الكبيرة على مداخل حلب بسيّارة دفع رباعي "بيكاب" تحمِل رشاش 12,7ملم "دوشكا"، وبسلاحه بين يديه مكتفياً بالسلام على عناصر الحاجز كأنه ينتمي لأحد أفرُع النظام الأمنيّة، مُكمِلاً طريقه دون عناء إلى حي صلاح الدين الحلبي.

وهناك بعد أسبوع تقريباً على دخول الثوار، وأثناء إحدى جولاتنا الإعلامية "أنا وأبو عروة" التقيتُ "أيهم" قريباً من شارع 15..

وردَت معلومة إلى أيهم أنّ عدداً من المسعفين محاصرون في النقطة الطبية الميدانية في الشارع، فبادر لاقتحام الحيّ برفقةِ كتيبته لإنقاذهم، لتختار رصاصة قناص أسديٍّ الاستقرار في رأسه..

كان لقاؤنا قصيراً تحدّثَ فيه باقتضابٍ عن معارك الريف مستعرِضاً بفخرٍ رشاش "الدوشكا" الذي ندَر تواجده آنذاك عند الثوار، فالتقط له أبو عروة صورةً معه، وافترَقنا بعدَ أن اتّفقْنا على لقاء قريب أُحضِرُ فيه كاميرا للكتيبة، لكنّ حكمة الله أبَت إلا أنْ يكون ذلك لقاءنا الأخير.

 

 

الصورة التي التقطناها لأيهم عكيدي في تموز عام 2012.jpg

 

ففي الثامن من آب وبعد انسحاب الثوار من شارع 15 بعد قصف مدفعيّ عنيف، وردَت معلومة إلى أيهم أنّ عدداً من المسعفين محاصرون في النقطة الطبية الميدانية في الشارع، فبادر لاقتحام الحيّ برفقةِ كتيبته لإنقاذهم، لتختار رصاصة قناص أسديٍّ الاستقرار في رأسه..

ويسقُط اللّيث شهيداً.

نُقِل جثمان أيهم عكيدي إلى قرية زيتان، حيث شيّعه الأهالي تشييعاً مهيباً، وورِيَ جسده الثّرى في مقبرة القرية التي ستُصبح بعد ذلك الأرض التي ضمَّت أجساد كثيرٍ من رفاق درب الثورة الشهداء..

لكنّ تلك قصّة أخرى..

 

 

 

قبور الشهداء في مقبرة زيتان.jpg
قبور الشهداء في مقبرة زيتان
كلمات مفتاحية