اغتيال فخري زاده يزيد البصمات الإسرائيلية في إيران

2020.11.29 | 23:01 دمشق

aghtyal-alalm-alnwwy-alayrany-mhsn-fkhry-zad.jpg
+A
حجم الخط
-A

أعاد اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده إلى الذاكرة عمليات مشابهة تمت بحق علماء آخرين، وقعت على مدار السنوات الماضية، ومنذ 2010، وقعت عدة عمليات اغتيال لعلماء إيرانيين مرتبطين ببرنامجها النووي، ووجهت أصابع الاتهام على الدوام للولايات المتحدة وإسرائيل، بالوقوف وراء الاغتيالات.

وفيما بدأ العام الجاري 2020 باغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، فقد انتهى ذات العام باغتيال العالم النووي محسن فخري زاده، الذي كان واحدا من بين خمس شخصيات إيرانية مدرجة في قائمة أقوى 500 شخص في العالم نشرتها مجلة فورين بوليسي الأميركية، وتصفه أجهزة مخابرات غربية بـأنه "عراب البرنامج النووي الإيراني".

يعتبر فخري زاده العالم النووي الإيراني الوحيد الذي تمت تسميته مباشرة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خلال عرض دعائي عام 2018، بزعم أنه يعمل في برنامج أسلحة نووية، والتحق عام 1979 بالحرس الثوري، وشغل منصب رئيس هيئة الأبحاث والتكنولوجيا بوزارة الدفاع الإيرانية، وأستاذا بقسم الفيزياء في جامعة الإمام الحسين العسكرية، وتم إدراجه على قائمة عقوبات الأمم المتحدة.

في 2007، فرض مجلس الأمن عقوبات على شخصيات إيرانية بارزة، من بينها فخري زاده، الذي نجا من محاولات اغتيال عدة بالسنوات الماضية، أبرزها عام 2018، ولعب دورا فاعلا بتوقيع الاتفاق النووي مع الغرب في 2015، وتعتبره أجهزة مخابرات غربية أنه يعمل على تحويل البرنامج العلمي إلى قدرات نووية، فيما أعاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب نشر أخبار عبر حسابه في موقع "تويتر"، بشأن اغتياله.

كان لابد من عرض هذه المقدمة الشخصية عن فخري زاده، من أجل التوضيح أن اغتياله وجه ضربة لإيران من الناحية النفسية والمهنية، في ظل تأكيدات استخبارية غربية وأميركية بشأن المسؤولية الإسرائيلية عن اغتياله، دون اتضاح مدى معرفة الولايات المتحدة بالعزم على تنفيذ العملية مسبقا، رغم أنهما ينسقان بشكل مكثف على المستوى الاستخباري، رغم رفض البيت الأبيض، فضلا عن وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه"، التعليق على هذا التطور الخطير، الذي شكل انتكاسة لبرنامج إيران النووي.

شكل فخري زاده أرفع العلماء النوويين الإيرانيين، ويعتقد أنه مسؤول عن برنامج إيران النووي السري العسكري، وهو ضابط كبير في الحرس الثوري، مما يجعل من اغتياله مقدمة مبكرة لتعقيد معالجة الرئيس المنتخب جو بايدن للاتفاق النووي الإيراني، لاسيما وأن الرغبة بالانتقام ستزداد، وقد يعلو سقف طهران، ويتعزز موقف المحافظين فيها.

في الوقت ذاته، فقد رفعت البعثات الدبلوماسية الإسرائيلية في مختلف أنحاء العالم مستوى التأهب الأمني إلى الحالة القصوى، تحسبا لانتقام محتمل من عملية الاغتيال، فضلا عن تعزيز الإجراءات الأمنية في الجاليات اليهودية بمختلف الدول.

أثارت عملية الاغتيال جدلا واسعا بين الأوساط السياسية والعسكرية الإيرانية، وانتشرت تكهنات عدة حول ردها المتوقع، مع وضع تساؤلات حول علاقة الاغتيال باللقاء الذي جمع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بالتزامن مع زيادة مخاوف الأخيرة من نجاح إيران بصناعاتها العسكرية، وتقدمها في البرنامج النووي، فيما ظهرت تقديرات أن يأتي الرد الإيراني على أرض حليفة لإسرائيل، مثل السعودية والإمارات، وافتقارهما لضمانات بألا يحصل الرد الإيراني على الاغتيال على أراضيهم.

صحيح أن إسرائيل "الرسمية" التزمت الصمت تجاه اغتيال فخري زاده، كما جرت العادة عند تنفيذ معظم عمليات الاغتيال والتصفية، لكن رئيس وزرائها ألمح للعملية في نصف جملة، زاعما أن "ما حصل هو قائمة جزئية، لأنني لا أستطيع أن أخبركم بكل شيء".

على الصعيد العملياتي، فقد حملت عملية الاغتيال علامات وحدة "كيدون" الإسرائيلية، لأن طريقة القتل التي استهدفت موكبا من ثلاث سيارات في طريق عام، وخروج المنفذين فجأة، وقتلهم للهدف، هي طريقة الموساد التي اعتمدها منذ عقود في التخلص من أعدائه، وتحمل وفاته كل علامات تخطيط الموساد، وتمت في وضح النهار، وعلى التراب الإيراني، مما سيترك أثره خارج إيران، وهذا يعني أن العملية جرى التخطيط لها بدقة عالية.

يدير الموساد وحدة "كيدون" من فرع عمليات "قيساريا"، التي تأسست في 1972، عقب عملية ميونيخ، ويتم اختيار أفرادها من وحدات العمليات الخاصة، وتدريبهم خلف خطوط العدو، وتحتاج أي عملية يقومون بها لموافقة رئيس الوزراء نفسه، وينسب إليها قتل عدد من القادة الفلسطينيين والشخصيات البارزة في سوريا وإيران.

تواجه المؤسسة الأمنية الإيرانية أسئلة عن سبب تركها عالما بهذه الخطورة معرضا للاستهداف السهل، وكيفية معرفة القتلة بخط سيره، لأنه رغم حالة الخوف والشك من أي أجنبي في إيران، لكن المنفذين ظهروا قادرين على الاغتيال والضرب، حسبما يريدون، ويأتي الاغتيال بعد سلسلة من الفشل الأمني هذا الصيف، وعمليات تخريب في المشروع النووي، وحرائق بأماكن حيوية في طهران وموانئ على الخليج.

كما يتزامن هذا الاغتيال مع ما تعرضه له إسرائيل في الأسابيع الأخيرة من ضغوط أميركية لزيادة تصعيد الحرب السرية ضد إيران، لكن سقف المواجهة بات مرتفعا، لأن ترامب باق في السلطة حتى يناير المقبل، والموقف من داخل إسرائيل يرى أن هناك احتمالا ضعيفا لتوجيه أميركا ضربة ضد إيران، رغم التهديدات، والتلويح بالحرب، وإرسال المقاتلات إلى الخليج، لكن العمليات السرية، كهذا الاغتيال، هي أمر آخر.

كشف اغتيال فخري زاده عن عملية ذات إمكانية كامنة كبيرة لتصعيد إقليمي هدفه استغلال لحظات نهاية ولاية ترامب، وتقييد تحركات الرئيس الوافد جو بايدن، وإحباط عودته للاتفاق النووي، لأن عملية قوية كهذه قد تؤدي ليس فقط لمواجهة عسكرية خطيرة مع إيران، بل لنشوب أزمة سياسية أولى مع إدارة بايدن، حتى قبل أن يدخل البيت الأبيض.

قلة يتساءلون عن القيمة الحقيقية لاغتيال فخري زاده، رغم أن الإيرانيين سوف يستبدلونه على أي حال، وقلة يتساءلون كيف كانت إسرائيل سترد لو أن إيران اغتالت في مدنها شخصية رفيعة المستوى، فما بالك بأحد العلماء البارزين، وقلة جداً يتساءلون: أين الدبلوماسية، ولماذا ألقي بها من صندوق الأدوات؟ وهل تؤشر العملية لتنامي ميزان الرعب بين إسرائيل وإيران؟ يتسلح فيه كل طرف كي يردع الآخر، دون أي حل في الأفق.

يتحدث الإسرائيليون عن الرد الإيراني المتوقع على اغتيال فخري زاده، لكن الرغبة بالثأر والردع تعتمد على الفرص المتاحة، والقدرات التي تمتلكها طهران، لكن الفرضية الأساس تقول إنه عشية دخول بايدن للبيت الأبيض، فقد لا يكون لإيران مصلحة باقتياد المنطقة لفوضى عسكرية من خلال عملية حربية صاخبة، لكن كل شيء مفتوح، لأن الرغبة في الثأر والردع تعتمد على الفرص المتاحة، والقدرات الكامنة.

بدا لافتا التقدير الإسرائيلي الذي يؤكد أن رئيس النظام السوري بشار الأسد، سيبذل جهداً لمنع رد إيراني ضد إسرائيل من سوريا، لأنه منذ سنتين وهو يبث للإيرانيين، أن نظامه يستصعب امتصاص ثمن المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية على أرضه، ولما كان يسود في لبنان ميزان رعب بين إسرائيل وحزب الله فسيكون معقولا الافتراض بأن الرد الإيراني على تصفية فخري زاده، سيكون في الخارج.

المبدأ الذي يوجه إسرائيل في حربها ضد النووي العسكري الإيراني، أن تكون كل الوقت في الهجوم؛ تبادر، تشوش، تعرقل، تكسب الوقت، ومثلما لا يوجد عمل واحد يصفي النووي الإيراني، فلا توجد جهة واحدة في سلسلة إنتاج القنبلة، لأن هذه الحرب تتضمن ضرباً للمنشآت؛ إما بشكل مباشر، أو بهجوم سايبر، أو من خلال الضغط الاقتصادي أو الدبلوماسي، وضرباً للعامل البشري؛ والأدمغة، والمديرين والمساعدين.

رغم الاغتيال، والتهديدات الأميركية والإسرائيلية بتنفيذ عملية عسكرية ضد إيران قبل مغادرة ترامب البيت الأبيض، فإن احتمال وقوع هذا الهجوم بات ضئيلاً جداً، صحيح أنَّ الجيش الإسرائيلي يستعد بشكلٍ روتيني لمدة عشرين عاماً على الأقل لسيناريو الحرب مع إيران، لكن موعداً محدداً لمثل هذه الحرب من المرجح ألا يكون وشيكاً، ويبدو أن الشائعات في وسائل الإعلام الإسرائيلية عن مهاجمة إيران مرتبطة بالحملات الانتخابية الأميركية، ونظيرتها في إسرائيل.

تشير التقديرات الإسرائيلية أن الأجزاء المهمة من البرنامج النووي الإيراني مدفونة في أعماق الأرض، ويتطلب إحباط مثل هذا البرنامج استهدافه من الجو فقط، دون أسلحة نووية تكتيكية، بقنابل مناسبة، وهذه الأسلحة الفتاكة متوفرة لدى الولايات المتحدة، وليس لدى إسرائيل، كما أنها بحاجة لطائرات مناسبة لحمل مثل هذه القنابل، وحتى لو كانت موفرة لديها، فليس من المؤكد أنها ستكون كافية لاستهداف هذه الأجزاء المهمة، إلا إذا تعاونت الولايات المتحدة مع إسرائيل لمهاجمة إيران من الجو.

إن القراءة الإسرائيلية للرد الإيراني المتوقع على الاغتيال يرجح أن طهران لن تجلس بهدوء، في ظل امتلاكها للقدرات الصاروخية، موجود بعضها في قواعد سرية غير معروفة للمخابرات الإسرائيلية والأميركية، فإيران بلد كبير، وربما تعرف أجهزة المخابرات فيهما الكثير عنها، لكن ليس كل شيء، رغم أن هجوما أميركيا يرجح أن يشعل هجوماً صاروخياً على إسرائيل والقواعد الأميركية في منطقة الخليج.

مع أن هدف الإيرانيين سيكون التسبب بوقوع أكبر عدد ممكن من الخسائر البشرية، وإلحاق الضرر بالردع الإسرائيلي، واستخدام حزب الله ضد إسرائيل عبر الساحتين اللبنانية والسورية، ويمكن الافتراض أن هجوماً على إيران سيؤدي إلى ردٍ يخلف عدة مئاتٍ من القتلى الإسرائيليين، واستهداف الجبهة الداخلية.