99 ألف مختفٍ والعدد في ازدياد.. حكاية الاختفاء القسري في سوريا

2020.12.26 | 23:00 دمشق

ap-750x430_0.jpg
+A
حجم الخط
-A

تُشير التقديرات إلى أن نحو 1.2 مليون مواطن سوري قد مرَّ بتجربة الاعتقال في مرحلة ما، منذ آذار 2011، وتحول خلال هذه الحقبة ما يقدر بـ 99 ألف شخص إلى مختفين قسرياً، في حين أن نظام الأسد مسؤول عن نحو 84 ألف من هذه الحالات. (تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 30 آب 2020 ص 8 و 9).

إنَّ جريمة الاختفاء القسري، التي غالباً ما تكون مصحوبة بأعمال تعذيب، تنتهك القانون الدولي. الجمهورية العربية السورية ليست طرفاً في الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006. ومع ذلك، فإن حظر الاختفاء القسري ينبع أيضاً من القواعد العرفية للقانون الإنساني الدولي، عندما يحدث نزاع مسلح، وكذلك من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، الذي صدّقت عليه سوريا.

في حين أن حالات الاختفاء القسري ليست خاصة بالنزاع السوري المسلح وهي في الواقع سمة مشتركة في العديد من النزاعات المسلحة، إلا أن العدد الهائل لحالات الاختفاء القسري يميز سوريا عن غيرها، لا سيما عند مقارنتها بإجمالي عدد سكان سوريا (21 مليون في بداية الحراك الشعبي عام 2011). على افتراض أن لكل شخص مختفٍ قسرياً خمسة أفراد من العائلة أو الأصدقاء على الأقل، فإن ما يقارب نصف مليون شخص هم متأثرون بشكل مباشر بجريمة الاختفاء القسري، أي قرابة 2.3% من إجمالي السكان. هذه النسبة العالية جداً لها تأثير مرعب على المجتمع السوري ككل.

بصفتي مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد كنت أعمل خلال السنوات العشر السابقة على قضية الاختفاء القسري في سوريا. ومنذ بداية النزاع، تقوم الشبكة السورية لحقوق الإنسان بجمع معلومات عن حالات الاختفاء القسري. وقد لاحظنا أن هذه الجرائم تُستخدم كسلاح حرب في الصراع السوري، بشكل رئيس، وإن لم يكن بصورة حصرية، من قبل القوات التابعة للنظام. من خلال عملنا المستمر، حددنا بعض الخصائص الرئيسة للاختفاء القسري في سوريا، والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:

 

أولاً: عمليات الاعتقال نفسها تعسفية وهي أقرب ما تكون إلى الاختطاف:

 معظم حوادث الاعتقال في سوريا تتمُّ من دون مذكرة قضائية (تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 2  كانون الأول 2020، ص2). وتعتبر هذه الاعتقالات تعسفية، حيث لا يُعرّف من يقومون بالاعتقال عن أنفسهم ولا يُخبرون المواطن عن سبب الاعتقال، كما لا يتم إبلاغ المعتقل بمكان الاعتقال ولا يُسمح له بالاتصال بأسرته، وغالباً ما تتمّ هذه الاعتقالات لدى مرور الضحايا عبر نقاط التفتيش أو في أثناء المداهمات (المرجع نفسه، ص2). في الواقع، غالباً ما تكون قوات الأمن التابعة لأجهزة المخابرات الأربعة الرئيسة التابعة بدورها للنظام مسؤولة عن الاعتقالات خارج نطاق القضاء (تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 30 آب 2020، ص2). تشير تقديراتنا إلى أن قرابة 131 ألف شخص لا يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري لدى النظام (المرجع نفسه، ص13).

 

ثانياً: النظام مسؤول عن النسبة الأكبر من المختفين:

يُعتبر النظام السوري مسؤولاً عن قرابة 89% من حصيلة حالات الاعتقال والاحتجاز (تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 2  كانون الأول 2020، ص2)، وبالتالي فهو يشكل طرف النزاع الرائد في ارتكاب هذا الانتهاك الحقوقي بشكل ممنهج (لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، التقرير الصادر في 3 شباط 2016).

إضافة إلى ذلك، ونظراً لأن النظام السوري لم يفتح أي تحقيق خلال السنوات العشر الماضية في هذا النوع من الحوادث التي ارتكبتها قواته المتحالفة (بما في ذلك الميليشيات الإيرانية، وحزب الله اللبناني)، فإن هذا الأمر الذي ربّما شجّع هذه الميليشيات أيضاً على القيام بعمليات الاعتقال والتعذيب، وإخفاء معتقلين قسراً، وذلك على الحواجز التي أقاموها عبر الحدود السورية اللبنانية (تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 2  كانون الأول 2020، ص19). ويشكل غياب التحقيقات في الواقع ضوءاً أخضر للميليشيات لمواصلة ارتكاب هذه الانتهاكات.

تقوم بقية أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا مثل قوات سوريا الديمقراطية ذات القيادة الكردية، والتنظيمات الإسلامية المتطرفة، وفصائل المعارضة المسلحة بمختلف تشكيلاتها، باستراتيجيات وممارسات مشابهة لما يقوم به النظام السوري وإن كان بوتيرة ومنهجية أقل مما تمارسه قوات النظام السوري (لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، التقرير الصادر في 8 آذار 2018).

لا يقوم أحد من أطراف النزاع والقوى المسيطرة بإتاحة أي سجل عام للمجتمع يُظهر أماكن وجود المعتقلين/ المحتجزين وأسباب اعتقالهم، ولا ما هي الأحكام القضائية التي صدرت بحقهم، بما في ذلك عقوبة الإعدام (منظمة العفو الدولية، التقرير الصادر في 2017)، ولا تعلم الغالبية العظمى من الأهالي مصير أبنائها، كما أشارت إلى ذلك الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقاريرها الشهرية وتقاريرها المواضيعية حول الاعتقال والإخفاء القسري.

 

ثالثاً: أكثر من 70% من المعتقلين يتحولون إلى مختفين قسرياً:

كما ذكرنا سابقاً، يتم تنفيذ الاعتقالات من قبل أشخاص مجهولي الهوية، وفي كثير من الحالات، لا يتمكن المعتقلون من التواصل مع أقربائهم أو محاميهم. علاوة على ذلك، تُنكر سلطات الدولة قيامها بعمليات الاعتقال (تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 2  كانون الأول 2020، ص2). نتيجة هذا الرفض للاعتراف بالحرمان من الحرية، ووفقاً للمادة 2 من الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، تصنف الشبكة السورية لحقوق الإنسان 70% من إجمالي حصيلة هؤلاء المعتقلين على أنهم مختفون قسرياً.

كما أنَّ معظم المعتقلين، نحو 85 %، هم من المعتقلين السياسيين، -بينما يُشكّل بقية المعتقلين (15%) من مقاتلي المعارضة المسلحة- (تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 15 تشرين الأول 2020، ص9)، وقد تم اعتقالهم على خلفية مشاركتهم السلمية في الاحتجاجات بصفتهم "ناشطين في مجال حقوق الإنسان، وإعلاميين، وكوادر طبية، وعمال إغاثة، وأعضاء أحزاب معارضة، وكتاب رأي"، أو ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي (المرجع نفسه، ص9).

 

1_7.jpg

 

رابعاً: يتعرض المعتقلون للتعذيب الوحشي:

وفقاً لتقرير خاص صادر عن لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة بشأن الجمهورية العربية السورية، يتعرض المعتقلون لأساليب وحشية من التعذيب الجسدي والنفسي، ولا يكاد ينجو أي معتقل من هذه المعاملة اللاإنسانية (لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، التقرير الصادر في 3 شباط 2016، فقرة 22). يعترف المعتقلون تحت التعذيب بارتكاب جرائم لا علاقة لهم بها، ويتم تسجيل اعترافاتهم والاحتفاظ بها ضمن ضبوط في الفروع الأمنية التابعة للنظام (تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان الضادر بتاريخ 15 تشرين الأول 2020، ص9). وتستند المحاكم الشاذة التي أنشأها النظام السوري إلى هذه الضبوط في محاكمة من تتم إحالته من المعتقلين إليها. ومع ذلك، تمت إحالة 20% فقط من العدد الإجمالي للمعتقلين فعلياً إلى هذه المحاكم الشاذة، وقد يتم توجيه تهم إليهم لمدة تصل من 8 إلى 9 سنوات كمعدل وسطي (المرجع نفسه، ص9).

 

 نحن في الشبكة السورية لحقوق الإنسان نفترض أن أعمال التعذيب مستمرة بحق المختفين قسرياً طيلة مدة احتجازهم، وأن عمليات التعذيب لم تتوقف، لأننا نتلقى باستمرار معلومات عن وفاة لأشخاص مسجلين ضمن قاعدة بياناتنا على أنهم مختفون قسرياً.

 

خامساً: تحديات استثنائية في توثيق حالات الاعتقال أو الاختفاء القسري:

غالباً ما تحجم عائلات المختفين عن التعاون أو تقديم تفاصيل عن اعتقال أقاربهم (حتى لو كان بشكل سري)، لا سيما إذا كان المعتقل أنثى (منهجية عمل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ص15). ويعود هذا الإحجام إلى الخوف السائد والمبرّر في المجتمع السوري من أن اكتشاف التعاون قد يؤدي إلى مزيد من التعذيب والخطر على أحبائهم وعلى أنفسهم. بدلاً من ذلك، تحاول العائلات في كثير من الأحيان التفاوض مع قوات الأمن التابعة للنظام. ومع ذلك، غالباً ما يقوم هؤلاء بابتزاز الأهالي ويطلبون فدية، والتي قد تصل في بعض الحالات إلى آلاف الدولارات (ورقة سياسة المركز الدولي للعدالة الانتقالية، ص10). ونتيجة لذلك، فإن إحجام الأقارب عن التعاون يضيف تحديات إضافية لتوثيق الحالات (منهجية عمل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ص15).

كما أدى فشل المجتمع الدولي في ممارسة أي ضغط حقيقي على سلطات النظام السوري للإفراج عن المعتقلين (بمن فيهم أولئك الذين انتهت محكومياتهم) إلى اعتقاد العديد من السوريين أنّه لا جدوى من التعاون في عملية التوثيق (منهجية عمل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ص 15).

لكن من دون تعاون الأهالي، لا تستطيع الشبكة السورية لحقوق الإنسان مواصلة توثيق هذه الحالات، وإقناع الأهالي بالتعاون أمرٌ غاية في الصعوبة، عندما لا نستطيع أن نعطيهم أي أمل، أو أية معلومة عن مصير أبنائهم.

بالرغم من هذه التحديات، أنشأت الشبكة السورية لحقوق الإنسان برامج إلكترونية معقدة من أجل جمع بيانات المعتقلين والتحقق منها وتصنيفها وأرشفتها (منهجية عمل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ص17)؛ الأمر الذي مكنَّنا بالتالي من توزيع حالات الاعتقال بحسب الجنس ومكان حادثة الاعتقال، والمحافظة التي ينتمي إليها المعتقل، والجهة التي قامت بعملية الاعتقال. كما مكّنتنا هذه البرامج من تحليل البيانات ومقارنتها، على سبيل المثال تحديد المحافظات التي اعتقل واختفى النسبة الأعظم من أبنائها.

ولتوثيق حوادث الاعتقال والاختفاء هذه، قمنا على مدى سنوات بعمليات نشر أخبار دورية، وكذلك إصدار تقرير شهري، وغير ذلك من التَّقارير الخاصة المرتبطة بشؤون المعتقلين، كما نرسلُ بشكل دوري استمارات خاصة إلى فريق الأمم المتحدة العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي، وإلى المقرر الخاص المعني بالاحتجاز التعسفي، والمقرر الخاص المعني بمسألة التعذيب.

 

استشراف:

نحن في الشبكة السورية لحقوق الإنسان نعتقد أنه في حال استمرار النظام السوري الحالي في السلطة، فلن يكون هناك كشف حقيقي عن مصير المختفين قسرياً في سوريا، وقد تضاعفت أعدادهم عشرات المرات، ومن وجهة نظرنا، فإنَّ الحل الوحيد هو تحقيق انتقال سياسي وفقاً لقرارات مجلس الأمن الدولي، ونحن مقتنعون بأنّ ذلك هو الخيار الوحيد الذي يضمن للشعب السوري حصوله على حكومة وسلطة جديدة تتمسك بالقيم الديمقراطية وتحترم حقوق الإنسان، وفي نهاية المطاف تخفف معاناة أسر المختفين، وآمل شخصياً أن أرى ذلك قريباً.

 

الورقة نشرت في voelkerrechtsblog المدونة العلمية المختصة في مسائل القانون الدولي العام، والفكر القانوني الدولي