51 عامًا مضت وما يزال الوطن مخطوفاً

2021.11.09 | 05:09 دمشق

1-32124.jpg
+A
حجم الخط
-A

ما يقرب من واحد وخمسين عامًا أفلت، من عمر سوريا  الحديث، وما برح الوطن السوري، يعاني من اختطاف كولونيالي، اقتصادي وأمني وسياسي، وعلى كل الصعد، من فئة طاغوتية اختطفت الوطن كل الوطن وفي وضح النهار، وعاثت فيه فسادًا وإفسادًا. يوم انقلب حافظ الأسد وزير الدفاع السابق صبيحة يوم 16 من تشرين ثاني/ نوفمبر 1970 على رفاق دربه في حزب البعث العربي الاشتراكي، وجل رفاق سلاحه الذين أمسكوا بالحكم والسلطة منذ نهار 23 من شباط/ فبراير 1966، وزج بهم في غياهب السجون، بدءاً من رئيس الجمهورية السابق الدكتور نور الدين الأتاسي، إلى صلاح جديد، ويوسف زعين ورباح الطويل وآخرين، وهو الذي أقسم بأشد أنواع القسم في أنه لن يسمح بخروجهم من المعتقل إلا إذا خرج هو من حكم سوريا وسلطته الأمنية.

ذاك اليوم الذي أسس لما بعده في الواقع السوري الصعب، حيث ما يزال الشعب السوري يعاني من نتائجه الكارثية على حيواته في كينونتها وماهيتها، فقد ألغى حافظ الأسد السياسة من المجتمع ومارس دور القامع الطاغية في كل مناحي الحياة، وعمل منذ بداياته على إعادة إنتاج نظام الاستبداد المشرقي القروسطي، وراح يركز في ذلك على اختطاف ممنهج لثلاثة مسارات مهمة في الحكم، وهي المؤسسة العسكرية، والمؤسسة الحزبية، وكذلك المؤسسة الدينية، وفق منظور يقول إن من يُمسك بهذه المؤسسات الثلاث يمكنه أن يمسك بالوطن كله، وبتلابيب المواطن السوري وخناقه، وهو ما اشتغل عليه الأسد فأعاد تنظيم العسكريتاريا وفق ما يريد، فجاء بمصطفى طلاس الشخصية العسكرية التابعة وسهلة الانقياد، ليضعه شكلانيًا على سدة وزارة الدفاع، ومن ثم لتكون المؤسسة العسكرية مرتبطة أمنيًا وتبعيًا بحافظ الأسد، ويشرف فيها على كل كبيرة وصغيرة، واضعًا الموالين والمنتمين طائفيًا إلى مسيرته وأبعاده المنشودة، وكان طلاس أكثر الملتزمين والمنفذين الصاغرين لأوامر الأسد، دون أي مناقشة، حتى قيل إنه يوم قرر الأسد إرسال قواته إلى لبنان عام 1976 لم يكن مصطفى طلاس يدري بمثل هكذا قرار، حتى علم به من وسائل الإعلام صبيحة اليوم التالي.

وجود الحزب مجرد تغطية صورية لا أكثر في الحكم، بينما كان من يحكم هي الدولة الأمنية العميقة التي عمل عليها حافظ طويلاً وانتقى لها شخصيات طائفية تابعة وذات أبعاد عصبوية ملحقة

وكانت المؤسسة الحزبية التي تحكم باسم حزب البعث العربي الاشتراكي ألعوبة حقيقية بيد حافظ الأسد يفعل فيها ما يشاء، من خلال وضع الشخصية الهلامية الضعيفة عبد الله الأحمر على سدتها، وهو الشخص الذي لا يملك أي مفاتيح للقوة، بل هو وطلاس من يركضا وراء ملذاتهما المالية النهبوية والنسائية فقط، وليس الهم لدى الأحمر حزب البعث ولا جماهير حزب البعث، ليكون وجود الحزب مجرد تغطية صورية لا أكثر في الحكم، بينما كان من يحكم هي الدولة الأمنية العميقة التي عمل عليها حافظ طويلاً وانتقى لها شخصيات طائفية تابعة وذات أبعاد عصبوية ملحقة.

أما المؤسسة الدينية التي وجد الأسد أهمية أن يمسك بها لتكون مدخله أساسًا للقبول الدستوري والعاطفي الشعبي، حيث جاء بشخصية دينية منافقة بل أستاذة في النفاق، وهو الشيخ أحمد كفتارو، فأمسك كفتارو بالمؤسسة الدينية بكليتها، وأبعد كل علماء الدين الإسلامي الذين يمكن أن يشكلوا أي قلق لحافظ، فكانت مؤسسته رقيبًا أمنيًا أكثر منها مؤسسة دينية غايتها الدعوة، أو إعادة ترتيب العمل الشرعي الإسلامي على أسس صحيحة.

لم يكن بعيدًا عن تفكير حافظ الأسد موضوع إعادة رسم ملامح العمل الحزبي برمته، وهو يعلم بوجود أحزاب سورية قوية، كان لابد من تهدئتها، ووضعها في أطر تنظيمية يمتص عبرها من غضبها فيما لو أرادت ذلك. فطرح فكرة الجبهة الوطنية التقدمية التي كانت مطروحة سابقًا منذ عام 1968، حين رفضها نظام الحكم، وزج من طرحها في السجون، لأنه وجد فيها (حينذاك) خطرًا على أركان السلطة والحكم. أما اليوم ومن موقع السلطة الأمنية القوية الممسكة بكل شيء، فقد جاءت كطرح من رأس السلطة حافظ الأسد، وانشدّت إليها كثير من الأحزاب، منهم حزب الاتحاد الاشتراكي العربي، والحزب الشيوعي السوري، وحركة الاشتراكيين العرب، وحركة الوحدويين الاشتراكيين، طبعًا بالإضافة إلى حزب البعث. وكان ما كان من ميثاق للجبهة اشتغل عليه الأسد لتكون أحزاب الجبهة ملغية القرار ومطواعة في كل ما يريد فعله. لكن بعض هذه الأحزاب وخلال كتابة الدستور المفترض الذي سينظم الحياة السياسية في سوريا وكل الحيوات الأخرى، لم يجدوا أي مصداقية في رؤية الأسد للعمل السياسي عندما أصر حافظ على وضع المادة الثامنة فيه، والتي تنص على أن حزب البعث هو من (يقود الدولة والمجتمع) على حد سواء، دون إعطاء أي دور لهذه الأحزاب التي يُفترض أنها شريكته في الحكم. فسرعان ما اكتشف ذلك الدكتور جمال الأتاسي فخرج وحزبه منها وعليها أواسط عام 1972من هذه الجبهة المصنَّعة على مقاس هيمنة الأسد على كل الحياة السياسية، وبقي مع الأسد كل من رضي بالفتات وكان همهم يتجسد في المصالح والمنافع الشخصية ليس إلا.

ثم كانت حرب تشرين أول/ أكتوبر 1973، التي أراد حافظ الأسد منها وكذلك شريكه فيها الرئيس المصري أنور السادات أن تكون حربًا تحريكية وليست حرب تحرير كما أعلنوا للناس. وهي التي أراد بها وعبرها حافظ الأسد أن يزيح عن كاهله وزر الهزيمة الكبرى التي لحقت بسوريا والعرب صبيحة 5 من حزيران/ يونيو 1967، يوم فرَّط بالجولان، وكانت الهزيمة العسكرية والإيديولوجية.

أصبحت سوريا على يد حافظ الأسد وطنًا مخطوفًا، وملجومًا سياسيًا واقتصاديًا حيث زج في السجون معظم معارضيه

لقد أراد الأسد أن يزيل ما أمكنه عار الهزيمة، ليكون أكثر قبولًا في الشارع السوري، وهو الذي أدرك مدى رفض هذا الشارع لتسلّمه الحكم، فراح في جولات وجولات على معظم المحافظات السورية في محاولة منه ليكون مقبولًا. لكن حرب تشرين التي أعادت إدخاله بالدور الوظيفي له مع الغرب والشرق، كانت هي التي وضعته في اتفاق فض الاشتباك مع إسرائيل عام 1974، والذي ولج من خلاله إلى القبول الأميركي والغربي، فكان ذاك الحاكم الذي لا يفعل أي تحرك إلا إذا وجد قبولًا من الغرب فيه، وهو ما جرى يوم قرر الدخول إلى لبنان، بذاك الدور المنوط به، وكذلك ضربه الحركة الوطنية الفلسطينية وتدمير بنيتها العسكرية في لبنان، بالتساوق مع الدور الإسرائيلي الذي يُفترض أنه يناهضه.

لقد أصبحت سوريا على يد حافظ الأسد وطنًا مخطوفًا، وملجومًا سياسيًا واقتصاديًا حيث زج في السجون معظم معارضيه، بعد أحداث الإخوان المسلمين أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وكانت مجزرة حماة الشهيرة، ومجازر هنانو في حلب، ومجزرتي جسر الشغور، ومعرة النعمان وغيرها. وأصبح كل معارض سياسي له معرضًا للاعتقال والتصفية بذريعة تعاونه مع الإخوان المسلمين. حتى بات الوضع في سوريا يقول: "إن للجدران آذان" فأضحت السياسة والاشتغال فيها من المحرمات والجرائم.

وهو الذي أدى بالحياة السياسية أواخر التسعينيات إلى حالة من الموات والقمع غير المسبوق، تهيئة لمجيء الوريث غير الشرعي ابنه بشار من بعده، بعد أن مات حافظ الأسد وجاءت وزيرة الخارجية الأميركية (مادلين أولبرات) لتبارك تسليم الحكم لبشار الأسد بعد اجتماع معه طاول الساعتين. في حالة موافقة واضحة، فكان الفطر الذي ينبت في الظلام، كما قيل حينذاك، وكما عرفه السوريون إبان ذلك ليكون الفطر السام، حيث أوهم الناس بما سمي ربيع دمشق، لكن سرعان ما انقض عليه وعلى ناشطيه.