48 ساعة لبنانية.. مرونة الثورة وخيبة السلطة وحزبها المسلح

2019.11.16 | 19:45 دمشق

مظاهرات لبنان
+A
حجم الخط
-A

ما بين يومي الخميس والجمعة (14 و15 من تشرين الثاني)، أظهر الطاقم الحاكم في لبنان نفاد صبره تجاه التظاهرات والاعتصامات، وتوتراً شديداً إزاء حركة قطع الطرق الرئيسية في البلاد. خصوصاً وأن العقلية الأمنية والعسكرية لحزب الله تجعله بالغ الحساسية أمام ظاهرة قطع الطرق، بوصفها تهديداً جدياً لحرية حركته، وقد تمهد لعصيان مدني لا يطيق تصوره.

وكان أقطاب السلطة في هذا الوقت منهمكين في مهمتين: الأولى، توليف صيغة لحكومة جديدة تضمن استمرارية سلطتهم وتخدع المواطنين من ناحية، وترضي المجتمع الدولي الذي لا يبالي حالياً سوى بـ"ضمان الاستقرار" من ناحية أخرى. والمهمة الثانية، إفشال التظاهرات وفتح الطرق وإجهاض الانتفاضة الشعبية، إما ترغيباً أو ترهيباً.

مع نفاد الصبر، بانت السلطة عن ميل متهور لـ"المواجهة"، أي استخدام قدر محدد من العنف والتعسف والصدامات مع القوى الأمنية، والدفع بالجيش لفتح الطرق بالقوة إن لزم الأمر.

والحال أن قيادة الجيش تلتزم منذ 17 من تشرين الأول بمبدأ عدم

تلقى الجيش تهديداً من حزب الله مفاده: إن لم تفتح الطرقات.. فسيخرج الحزب بنفسه لفتحها مهما كلف الأمر

التصادم مع المواطنين، ورفض مبدأ وضع الناس بمواجهة الجنود، أو الانزلاق إلى مخاصمة التظاهرات. وأعلنت هذه القيادة مراراً أن مهمتها هي "حماية المواطنين".

وطوال شهر تقريباً برهن الجيش عن انضباط تام وحذر شديد من أي توريط له. لكنه اضطر مرة واحدة أن يندفع إلى فتح الطرق عنوة ورغم إرادة المعتصمين والمتظاهرين، تحاشياً للأسوأ. إذ وحسب كل المعلومات الشائعة إعلامياً، تلقى الجيش تهديداً من حزب الله مفاده: إن لم تفتح الطرقات.. فسيخرج الحزب بنفسه لفتحها مهما كلف الأمر. وحينها انتبه الناشطون والمواطنون إلى هذا الأمر، وقرروا تسهيل مهمة الجيش وعدم الاعتراض. فانسحبوا وأخلوا الطرقات.

هذا التفاهم الضمني، أغاظ السلطة وزاد من النقمة على قائد الجيش جوزاف عون. وهو الذي بات معروفاً خلافه العميق مع جبران باسيل ومع وزير الدفاع (القومي السوري – العوني) الياس بوصعب.

بعد ظهر الخميس وحتى منتصف نهار الجمعة، حدث تطور أخطر. إذ أقدم التحالف السلطوي (عون وباسيل وحزب الله تحديداً) على خطوة سياسية بالإعلان عن تسمية محمد الصفدي لتشكيل حكومة على مقاسه وليس وفق مطالب جمهور المنتفضين، بما يشكل تحدياً سافراً للثورة.. كما أقدم على خطوة أمنية لا تتماشى مع سياسة قائد الجيش، تمثلت بتحريك أجهزة عسكرية ومخابراتية وأمنية تدين بالولاء إما للتيار العوني أو لقصر الرئاسة أو لحزب الله، لفتح الطرق بأسلوب "الشبيحة"، وبخطف واعتقال عدد من الناشطين وضربهم.

وهذا التطور، يكشف عن لعبة خطرة تهدد وحدة الجيش وأجهزته، بما يخيف قيادته ويخيف سائر اللبنانيين. ويكشف أيضاً عن استعداد السلطة لمقامرة جنونية لترهيب اللبنانيين: اخرجوا من الثورة وإلا نخرب البلد. لن نسلم السلطة ولو بحرب أهلية.

وهذا الابتزاز الواضح للبنانيين، يستند ليس فقط على عامل القوة وفائضها لدى حزب الله، بل على احتياطي "الثورة المضادة" الذي يشكله الجمهور الموالي للممانعة و"المقاومة" والجمهور العوني.

لكن ما يردع حالياً تنفيذ هذا الابتزاز هو حاجة حزب الله للاستقرار، وحاجته لبقاء سلطة تحظى برضى دولي. فأي فوضى أمنية أو أي فعل عسكري يقترفه الحزب في الداخل، سيدفع الاتحاد الأوروبي خصوصاً (فرنسا تحديداً) والمجتمع الدولي عموماً إلى إعادة النظر بالتطبيع الذي يمنح الحزب شرعية سياسية في لبنان وشرعية شراكته في الحكومات وفي البرلمان.

لذا، لعبة "الأجهزة الأمنية" الموالية للسلطة هي الأنسب للحزب حالياً. فهل تكون فعّالة؟

أبدى أهل الثورة "مرونة" ميدانية تصيب السلطة بالحيرة. فمقابل مظاهر الشبيحة واعتداءاتهم، ومقابل عملية فتح الطرق بالقوة، بل ومقابل حادثة اغتيال الناشط علاء أبو فخر، أبدى الناشطون والمواطنون حساً مدنياً سلمياً فائقاً. وحولوا ما يتعرضون

محاولة تلطيخ سمعة الجيش انكشفت، إضافة إلى انفضاح ولاءات بعض الضباط أو الأجسام الأمنية والعسكرية التي استتبعها النظام له

له إلى رصيد إعلامي وسياسي وأخلاقي اجتذب المزيد من المنضوين في يوميات الانتفاضة. بل وتحفز الناشطون لابتكار أدوات ونشاطات وأساليب اعتراض وتعبير وحراكات تتفوق على "الحلول الأمنية" أو الإجراءات القمعية.

لذا، وبعد 48 ساعة على "بروفة" الأجهزة الأمنية، تبين أن محاولة تلطيخ سمعة الجيش انكشفت، إضافة إلى انفضاح ولاءات بعض الضباط أو الأجسام الأمنية والعسكرية التي استتبعها النظام له. كما أن الغاية المتمثلة بترويع المواطنين لإبعادهم عن الساحات لم تتحقق. والأسوأ أن الخطوة السياسية بتسمية محمد الصفدي لتشكيل الحكومة، احترقت عملياً. لقد سقط محمد الصفدي حتى قبل "تكليفه" رسمياً. ليس فقط لأنه مرفوض من الشارع، بل لأن الطائفة السنية (صاحبة موقع رئاسة الحكومة) أبدت رفضها له.

في هذا الوقت، كانت الثورة هادئة وبالكاد تنشط، كما لو أنها جعلت "الاستنفار الأمني" بلا طائل. فهي لا تحتاج هذه الأيام لقطع طرق أو تظاهرات، طالما أن كل شيء معطل. موظفو المصارف مضربون، المستشفيات أضربت يوم الجمعة. المدارس والجامعات مضربة. القطاعات الصناعية والتجارية مشلولة. الإدارات الرسمية معطلة والشركات مقفلة. بلد في حال ثورة وعصيان. فمن سيستهدف حزب الله؟ من ستعتقل المخابرات؟

والمعضلة الكبرى عند السلطة وعند حزب الله هي أنهما حتى ولو أقنعا كل اللبنانيين الآن بالخروج من الشوارع والساحات والذهاب إلى بيوتهم والتزام الصمت، فهما عاجزان تماماً عن حل الأزمة: الانهيار الاقتصادي والمالي. ولسبب بسيط، إنهما السبب. إنهما المنظومة التي أطاحت بالبلاد. فإن نامت الثورة ساعة واحدة فستندلع حتماً بعد الدقيقة ستين.