icon
التغطية الحية

لماذا يصر أردوغان على خفض الفائدة رغم انخفاض قيمة الليرة؟

2021.11.20 | 20:40 دمشق

231b9bee-f349-48ef-b686-18026f3322e6.jpg
إسطنبول - صالح عكيدي
+A
حجم الخط
-A

تزامنا مع خفض البنك المركزي التركي لنسب الفائدة، تنخفض قيمة الليرة التركية لمراحل غير مسبوقة، لتتعدى حاجز الـ 11 ليرة تركية مقابل الدولار الواحد.

ورغم انعكاسات التضخم السلبية على حياة المواطن في مرحلة حرجة تسبق انتخابات حاسمة، يصر الرئيس التركي طيب أردوغان على الاستمرار في معركة خفض الفائدة التي يتبناها منذ سنوات، مخالفاً بذلك رأي شريحة واسعة من خبراء الاقتصاد. فما الذي يراه الأخير ولا يراه الآخرون؟

منذ بضعة أسابيع ومن قلب المجمع الرئاسي التركي في العاصمة أنقرة، أطل أردوغان على الرأي العام التركي بمظهر الواثق المتمكن. عاقد الحاجبين وقابضاً على منصة الخطاب أمامه، قال بلهجة حاسمة: "أمتي العزيزة.. في بلد ذي رسالة ووظيفة مثل تركيا، لا تحدث الأمور عشوائياً.. لا تؤخذ القرارات بالمصادفة.. لا تنفذ الإجراءات من دون وعي"، مؤكداً على فهمهم العميق لأفعالهم، وأسبابها ونتائجها.

انسجاماً مع الكلمات السابقة، يدرك مركز القرار التركي النتائج الأولية لسياسةِ خفض الفائدة التي توقعها حتى المتابعون: من ارتفاع التضخم واستغلال المعارضة للموقف. وتؤكد هذه الفرضية إصرار الحكومة على عدم التراجع، رغم تجاوز الدولار الواحد الـ 11 ليرة تركية، وتركيز المعارضة على التجييش باتجاه إجراء انتخابات مبكرة.

تجيب السطور المقبلة على التساؤل الملح عن الرؤية التي تُنتج هذا الإصرار في خفض الفائدة، وتتبناها الحكومة التركية وعلى رأسها رئيس البلاد رغم مخالفة شريحة واسعة من الاقتصاديين "التقليديين" لها، وتتطرق لبعض الآراء المخالفة.

أما التعليق على جدواها فتُرك لأهل الاختصاص. طبعا بعد المرور بأهم محطات الاقتصاد التركي في الطريق الواصل للصورة الحالية.

مليون ليرة تصبح ليرة واحدة

لتركيا ماض حافل بالتضخم، خصوصا في الفترة الممتدة من السبعينات حتى مطلع الألفية، والتي شهدت إضافة أصفار متتالية على العملة المتداولة. حتى استوجب الأمر إعلان أردوغان بعد بضعة أعوام من تسلمه السطلة عام 2005، عن إزالة 6 أصفار من العملة الرسمية، لتصبح المليون ليرة "ليرة جديدة واحدة". ووصف أردوغان هذا القرار حينها بالثورة التي بسببها سيفخر المواطن التركي بعملته.

ويرجع التضخم الفلكي الذي شهدته البلاد على مدار العقود الممتدة في الفترة السابقة لحكم العدالة والتنمية لأسباب عديدة، أهمها انغلاق الاقتصاد التركي في فترة الانفتاح الرأسمالي، وضعف النظام المالي التركي، بالإضافة لعجز الحساب الجاري. أي تفوق واردات البلد على صادراتها وبالتالي الطلب الدائم على العملة الصعبة.

تركيا واحة عالمية للاستثمار

في السنوات الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية، هيأت الظروف مجتمعة تركيا لتكون وجهة استثمار عالمية، إذ اتخذ الحزب الحاكم خطوات حاسمة في طريق الانفتاح الاقتصادي، والإصلاح المالي.

وشهدت دول العالم المتقدم أزمات اقتصادية جعلت رؤوس الأموال تبحث عن بديل، لتكون تركيا المستقرة سياساً والواعدة تنموياً في مقدمة الخيارات.

بحسب بيانات وزارة الصناعة والتكنولوجيا التركية، تجاوزت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تركيا عتبة المليار دولار الواحد بقليل عام 2002، بينما وصلت لما يقارب الـ 20 مليار دولار بعد ست سنوات فقط عام 2008. أما السياحة: مصدر آخر للعملة الصعبة، فارتفعت من ما يقارب الـ 14 مليار دولار عام 2002، لما يتجاوز الـ 25 مليار دولار عام 2008.

استمر عجز الحساب الجاري (الميزان التجاري) حتى في هذه الفترة الذهبية من الاقتصاد التركي، فالإصلاحات والانفتاح لا يكفيان لزيادة الصادرات على حساب الواردات. لكن وفرة العملة الصعبة الواردة من الاستثمار الأجنبي والسياحة، وتوافر الاستدانة الأجنبية لبلد في عز شبابه الاقتصادي مثل تركيا، حيدوا التأثير السلبي لهذا العجز.

من الأزمات الداخلية للأزمة العالمية

مع مطلع العقد الثاني بعد الألفين، بدأ المناخ المهيأ لجذب الاستثمارات الخارجية والسياحة لتركيا في التقلب. من مظاهرات "غزي بارك" وظهور الصراع بين الحكومة والتنظيم الموازي عام 2013، مروراً بعودة الاشتباكات المسلحة مع حزب العمال الكردستاني جنوب شرقي البلاد وإسقاط الطائرة الروسية عام 2015، لحدوث 21 تفجيراً انتحارياً في تركيا خلال عامي 2015-2016 فقط، حتى محاولة الانقلاب الفاشلة الشهيرة عام 2016، بدأت البلاد بخسارة صورتها البراقة بالاستقرار السياسي والثقة المالية. ما نتج عنه تراجع في واردات الاستثمارات الأجنبية المباشرة والسياحةـ وتترك البلاد في مواجهة العجز في الحساب الجاري بالقليل من الأدوات.

تربط سردية العدالة والتنمية هذا التراجع بخروج تركيا من "عباءة الطاعة" الغربية، وسعيها نحو دور إقليمي سيادي. إذ بحسب منظورهم تستغل الدول الغربية الأداة الاقتصادية للضغط السياسي، وتراجع الاستثمارات المباشرة الغربية ليست قراراً استثمارياً بريئاً، بل حتى الأزمات السياسية والأمنية الداخلية قد تكون صناعة غربية.

وقبل أن يتعافى الداخل التركي من فترة عدم الاستقرار السياسي التي وصلت لذروتها في محاولة الانقلاب الشهيرة، بدأت أزمة مالية عالمية نتجت عن جائحة بلا حدود. لم تستثن تركيا من وقع هذه الأزمة العالمية، فتأثيرها على قطاعي الاستثمار والسياحة كان أشد وقعاً من كل الأزمات الداخلية.

عكس التيار: الفائدة سبب التضخم

رغم الطبيعة المركبة لعلم الاقتصاد والتي تحول دون التوقع الدقيق لنتائج السياسات الاقتصادية خصوصاً على المدى المتوسط والبعيد، يتبنى التيار العام من خبراء الاقتصاد رأياً معارضاً لحرب أردوغان على الفائدة، خصوصا مع ارتفاع التضخم في البلاد.

إذ يوجب الرأي "التقليدي" في الاقتصاد رفع نسب الفائدة في مواجهة التضخم، فلرفع نسب الفائدة تأثيران مباشران على التضخم في السوق، الأول يقلل من فائض الطلب وبالتالي يخفض الأسعار، والثاني يجذب بنسب الفائدة العالية الاستثمار الأجنبي غير المباشر وبالتالي عملة صعبة إضافية.

أما بالنسبة لأردوغان، وهو من وصف نفسه بالـ "الاقتصادي" كونه خريج كلية العلوم الاقتصادية والتجارية في جامعة مرمرة، فالـ "فائدة سبب والتضخم نتيجة". وبسبب قناعته هذه أقال أردوغان 4 رؤساء للبنك المركزي التركي نظراً لعدم موافقتهم الرأي. حتى استقرت رئاسة المركزي التركي للرئيس الحالي، والذي يتفق مع أردوغان بضرورة تخفيض الفائدة، "شهاب كافجي أوغلو".

في مقال كتبه في صحفية "يني شفق" بداية العام الجاري قبل أشهر من تعيينه، يعتبر رئيس البنك المركزي التركي الحالي "شهاب كافجي أوغلو" رفع الفائدة للسيطرة على أسعار الصرف، وبالتالي التضخم، سياسةً يائسة، بل وتساهم في التضخم ولو بشكل غير مباشر لأسباب عديدة، مثلاً رفعها لكلفة الإنتاج على المستثمر المقترض.

ويؤكد على أن رفع الفائدة لا يقدم حلاً مستداماً، بل يعمّق من المشكلة على المدى البعيد. والحل يجب أن يكون بإجراءات مالية تقلل من المصاريف وتشجع على زيادة الإنتاج على مستوى البلاد -ويقصد خفض الفائدة.

كما يرى "كافجي أوغلو" أن عدم اتخاذ إجراءات حاسمة لخفض عجز الحساب الجاري سبب رئيسي لمشكلة التضخم في الأساس.

انعكست وجهة نظر "كافجي أوغلو" على بيان البنك المركزي الذي أرفق مع قرار خفض الفائدة الأخير. إذ جاء في البيان أن الهدف الرئيسي من تخفيض نسبة الفائدة هو تشجيع الإنتاج ومعه التصدير، وبالتالي تحويل عجز الحساب الجاري لفائض.

كما أكد البيان على قناعة صناع السياسة النقدية في البلاد (البنك المركزي) بأن التضخم الناتج عن خفض الفائدة مؤقت، وأن الأسعار ستسقر في النهاية.

يلخص الأكاديمي التركي المختص في الاقتصاد السياسي د. "ليفنت يلماز" رؤية الحكومة التركية المتمثلة بتخفيض سعر الفائدة بأنها تهدف لمحاربة البطالة ووقف استنزاف العملة الصعبة على المدى البعيد، وذلك بتسريع عجلة الاقتصاد وتعزيز سبل الإنتاج، وزيادة الصادرات على حساب الواردات.

لذا لا تمانع الحكومة انخفاض الليرة مقابل الدولار حسب ما يضيف، فهذه النقطة تخدم زيادة الصادرات. أما عن التحديات التي ستواجه أصحاب الدخول المحدود نتيجة التضخم، يستشف "يلماز" أن الحكومة ستستجيب برفع الحد الأدنى للأجور.

آراء اقتصادية مخالفة

في الطرف الآخر، وبعيداً عن المعارضة المسيسة، يخالف خبراء في الاقتصاد التركي رأي الحكومة وسياساتها المتمثلة بتخفيض الفائدة.

فيقول "مهفي إيلمز"، أحد أبرز خبراء الاقتصاد في تركيا، إن الفائدة ليست سببا في التضخم، بل العكس. ويضيف أن ارتفاع الفائدة سببه "ارتفاع المخاطر" في الاقتصاد، ملمحاً إلى أن المشكلة الرئيسية هي عدم الاستقرار السياسي والدولي للبلد، ما ينعكس سلباً على شهية المستثمر الأجنبي أو المحلي.

تتفق البروفيسورة البارزة في علم الاقتصاد "سلفا دمير ألب" مع الرأي السابق، وتضيف أن تخفيض الفائدة هو عامل واحد فقط من عوامل جذب الاستثمار. أما العوامل الأخرى التي لا تقل أهمية حسبما تضيف، فهي الثقة في مستقبل السوق، واستقرار الأسعار، والاستقرار النقدي. ومع تأثر العوامل السابقة سلباً بقرار خفض الفائدة، تتوقع "دمير ألب" أن السوق لن ينتعش بهذا القرار.

أما بخصوص جزئية التصدير، تذكّر ثلة من الصحفيين والاقتصاديين الأتراك، أن الصناعة التركية ترتبط بشكل كبير بمواد أولية مستوردة يتأثر سعرها بالدولار، مشككين بالقيمة المضافة التي سيحققها التصدير الذي تعتمد عليه الحكومة بشكل رئيسي في ضوء هذه السياسة.

ختاماً، يقول الصحفي التركي المقرب من صناع القرار التركي "جم كوشوك"، نقلاً عن مستشارين اقتصاديين رفيعين في الدولة، أن حزب العدالة والتنمية يدرك الضريبة السياسة التي يدفعها بهذه القرارات خصوصاً في الفترة التي تسبق الانتخابات، لكن هناك قناعة بأن السياسة المتبعة هي وصفة طبية "مرة" للاقتصاد لا بد منها، وأن آثارها الإيجابية ستبدأ بالانعكاس مع حلول ربيع العام المقبل.