يتداول المصريون حكاية عمرها 100 عام تقول أحداثها إن طفلاً من أبناء عائلة "عبد الرسول" كان ينقل المياه على ظهر حماره من نهر النيل إلى أسرته خلال عملها في الحفائر الأثرية بـ "وادي الملوك" في الأقصر. وأثناء سيره لاحظ تسرب المياه من إحدى الجرار فقرر التوقف وإنزالها لربطها من جديد، وبعد أن وضعها على الأرض ارتطمت الجرة بجسم صلب، وحين أزال عنه التراب بفأسه الصغير، اكتشف وجود درجات سلّم.
وعلى الفور، أبلغ الصبي منقّب الآثار البريطاني "هوارد كارتر"، الذي ظل يبحث عن مقبرة "توت عنخ آمون" لخمس سنوات بدون جدوى، وكاد أن يخسر تمويل بعثته. وعندما وصل كارتر إلى المكان، اكتشف 16 درجة سلم أوصلته إلى مقبرة توت عنخ آمون. وكان ذلك في الرابع من تشرين الثاني 1922.
"إنه يوم الأيام كلها". هكذا قال كارتر حين مدّ رأسه عبر الفتحة المؤدية لحجرة المقبرة، الاكتشاف الأعظم الذي أدخله التاريخ برفقة كنوز ذهبية لم تمسها يد إنسان قط بعد دفنها، ولم يسبق أن امتلكها ملك من الملوك.
هل المصريون هم المكتشفون الأصليون للمقبرة؟ وهل تم تهميشهم؟
في تقرير أعدته وكالة "فرانس برس" بمناسبة مرور 100 عام على اكتشاف المقبرة، وحمل عنوان: "بعد قرن على اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون المصريون يريدون الخروج من الظل"؛ سلّطت الضوء على جوانب عديدة تتعلق بالمصريين، أبناء الأرض الذين عملوا في التنقيب وشاركوا في عملية الاكتشاف التاريخية، ومدى علاقتهم بذلك الاكتشاف.
وينطلق التقرير من الصورة التاريخية الشهيرة التي تعود إلى بدايات اكتشاف المقبرة، ويظهر فيها هوارد كارتر وهو يتفقد تابوت توت عنخ آمون بينما يقف مصري بقربه. ويعلّق معدّو التقرير بالقول: "مئتا عام من علم المصريات: من ناحية العالِم الغربي الذي يكتشف كنوز مصر، ومن ناحية أخرى أيادٍ مصرية تجاهلها تاريخ الكشوفات الفرعونية".
وتقول أستاذة المصريات في جامعة دورهام البريطانية كريستينا ريغز إن علم المصريات الذي نشأ في الحقبة الاستعمارية "خلق تفاوتات هيكلية ما تزال أصداؤها موجودة حتى اليوم".
وفيما يحتفل العالم بمرور قرنين على اكتشاف حجر رشيد على يد الفرنسي جان فرانسوا شامبليون ومئة عام على الكشف عن مقبرة الملك الطفل توت عنخ آمون، ترتفع أصوات للمطالبة بخروج مساهمات المصريين في هذه الإنجازات الى العلن. وتعكس المطالب رغبة المصريين في استعادة تراث بلدهم واسترجاع كنوز من آثارهم يعتبرون أن الغرب "سرقها".
ويوضح رئيس بعثة التنقيب المصرية في منطقة "القرنة" جنوبي مصر عبد الحميد درملي أن المصريين "تحمّلوا عبء الشغل كلّه، لم يكن هناك أجنبي يعمل بيده". ويؤكد أنه "بدوننا -نحن المصريين- لما حصلت اكتشافات. العامل المصري الذي نقّب له اسم كان ينبغي كتابنه ولكنه نسي على الفور".
في السياق ذاته، تقول الباحثة المتخصصة في التراث المصري هبة عبد الجواد: "كأن أحداً لم يحاول فهم مصر القديمة" قبل شامبليون في العام 1822.
مهمّشون
وتلفت ريغز إلى أن المصري الظاهر في الصورة بجوار كارتر قد يكون "حسين أبو عوض أو حسين أحمد سعيد"، وهما رجلان كانا لعقود من أعمدة فريق كارتر الى جانب أحمد جريجر وجاد حسن. لكنها تضيف أنه لا يمكن لأي خبير أن يتعرف اليوم على الأشخاص الموجودين في الصور.
وتعلّق أستاذة التاريخ: "قبع المصريون في الظل مجهولين وغير مرئيين في رواية تاريخهم".
عائلة "عبد الرسول"
بدايةً، تم تداول اسم حسين عبد الرسول الذي يُعتقد أنه الطفل المكتشف لدرج سلّم المقبرة داخل جبانة أصبحت اليوم الأقصر، في منطقة القرنة.
الروايات متعددة حول هذا الاكتشاف؛ فبعضها يقول إنه تعثّر فوقها الدرج أو تعثّرت فوقه معزته، أو انقلبت منه جرة الماء فكشفت عن وجود حجر.
ووفق أسطورة محلية أيضاً، اكتشف اثنان من أجداده "أحمد ومحمد" في العام 1871، المومياوات الخمسين التي عثر عليها في "الدير البحري" ومن بينها مومياء رمسيس الثاني.
ونقل التقرير عن حفيد أحد أقرباء حسين عبد الرسول، "سيد"، الذي انفجر ضاحكاً عندما سمع هذه الروايات. وقال مازحاً: "أقوى اثنتين عندنا ينبغي تسليط الضوء عليهما هما المعزة والقلة (جرة الماء)"، ثم تساءل: "هل هذا منطقي؟". واعتبر أن المشكلة تكمن في أن "أناسا آخرين كتبوا (التاريخ)، ونحن لم نكتب".
وتشير كريستينا ريغز الى أنه في كل مرة نُسب فيها اكتشاف الى المصريين، كان الفضل يعود إما إلى "أطفال أو لصوص مقابر"، إن لم تكن "حيواناتهم". أما هبة عبد الجواد فتشير إلى أن "علم الحفائر وعلم الآثار في الأساس يقومان على علم الجغرافيا وخصوصاً معرفة بطبقات الأرض المختلفة التي يمكن من خلالها تحليل ما إذا كان هناك شيء أم لا، وهذا ما يعرفه الفلاح المصري كونه يحتك بشكل يومي مع التربة والأرض في الزراعة".
ولذلك انتقلت عمليات التنقيب من جيل إلى جيل في القرنة حيث يعيش آل عبد الرسول، وإلى "قفط" في شمال الأقصر التي تم تدريب سكانها على البحث عن الآثار في العام 1880 على يد البريطاني وليام فلندرز بيتري.
كان الجدّ الأكبر لمصطفى عبده صادق من بين أولئك الذين تدربوا على البحث. وفي مطلع القرن العشرين، استقرّ الرجل على بعد 600 كيلومتر شمال "قفط" للتنقيب في جبانة سقارة بالقرب من أهرامات الجيزة.
وتمكّن مع أولاده وأحفاده على مدى قرن من الزمن من المساعدة في الكشف عن عشرات المقابر، بحسب التقرير الذي نقل عن الحفيد، وهو نفسه عالم آثار معروف. وقال إن أسرته لم تأخذ حقها، رافعاً صور أجداده الذين لا يظهر اسم أي منهم في كتب التاريخ اليوم.
"احنا ولاد توت عنخ آمون"
عميدة كلية الآثار في أسوان مونيكا حنا، ترى من جانبها أنه "تم تجاهل المصريين في كتابة تاريخهم بسبب الاستعمار الثقافي لمصر منذ 200 سنة". بينما تقول المحاضرة في معهد الآثار الشرقية في القاهرة فاطمة كشك إنه ينبغي أن نأخذ في الاعتبار "السياق التاريخي لمصر خلال الاستعمار" البريطاني.
في بداية القرن العشرين، وعلى خلفية الروح الوطنية المتصاعدة، أصبح التراث الفرعوني أداة لتقوية الحس الوطني. ونحولت الحرب الثقافية الى معركة سياسية. وفي العام 1922 الذي شهد اكتشاف مقبرة الملك الطفل في وادي الملوك، غنّت المطربة الأشهر آنذاك منيرة المهدية "إحنا ولاد توت عنخ آمون".
في نفس العام، وبعد حملات متكررة نددت بهيمنة الأجانب على التراث الوطني، تمكنت القاهرة من وضع حد لنظام التقسيم الذي كان سارياً خلال الحقبة الاستعمارية ويقضي بأن يحصل الغربيون على نصف ما يتم اكتشافه من آثار مقابل تمويلهم عمليات التنقيب.
إلا أن مصر القديمة فُصِلت نتيجة ذلك عن مصر الحديثة، وبات يُنظر الى "الحضارة المصرية القديمة على أنها حضارة ملك العالم بأسره، ولكن هذا العالم كان متمركزا في الغرب"، بحسب ما تقول هبة عبد الجواد.
وظلّ توت عنخ آمون في مصر، ولكن "أرشيف عملية التنقيب" الضروري لأي نشر أكاديمي وعلمي ذهب الى كارتر واعتبر من مقتنياته الخاصة، وفق حنا التي أضافت: "كنا لا نزال مستعمَرين، ولذلك تركوا لنا القطع ولكن أخذوا منّا القدرة على إنتاج المعرفة عن مقبرة توت عنخ آمون".
وحين قررت ابنة شقيق هوارد كارتر أن تتبرّع بهذا الأرشيف بعد وفاته في العام 1939، اختارت أن تهبه لجامعة أكسفورد وليس إلى مصر. وتنظّم جامعة أكسفورد حالياً معرضاً باسم "توت عنخ آمون: تنقيب في الأرشيف" لكي تلقي الضوء على "المصريين المنسيين غالباً من الفرق الأثرية".
مومياء داخل المنزل
يتذكر أحمد عبد الراضي (73 عاماً) في القرنة، أنه عثر عندما كان طفلاً على رأس مومياء قرب أساسات المنزل الذي كبر فيه والذي شُيّد فوق واحدة من مقابر جبانة طيبة حيث كبر.
ويضيف أن أمه انفجرت باكية وهي تتوسل اليه أن يعامل "هذه الملكة" باحترام. ولكنها كانت في الوقت ذاته، بحسب عبد الراضي، تخزّن البصل والثوم في تابوت من الغرانيت.
اليوم، لا توجد في قرية القرنة إلا الأنقاض التي تنتصب بينها، بين المقابر والمعابد، أعمدة ممنون التي بنيت قبل 3400 عام وكأنها تسهر على رعاية الأحياء والموتى.
وفي عام 1998، بدأت جرافات تابعة للحكومة بتدمير المنازل الصغيرة المشيدة بالطين والحجر والتي تأوي 10 آلاف من سكان القرنة وتوجد أسفلها مقابر يعود معظمها الى الحقبة ما بين العامين 1200 و1500 قبل الميلاد. وفي اشتباكات مع الشرطة، قتل أربعة من السكان الذين رفضوا إخلاء منازلهم.
ويفيد عبد الحميد درملي بأن سكان القرنة احتجوا على إزالة بيوتهم بسبب ارتباطهم الكبير بالتراث الفرعوني.
جرت المعركة من أجل كشف التاريخ القديم على حساب المصريين، ما أثار انتقادات من اليونسكو. ودافع وزير الآثار آنذاك زاهي حواس عن قرار إزالة المنازل قائلاً: "كان ينبغي القيام بذلك للحفاظ على التراث".
وبحلول العام 2008، كانت معظم المنازل قد أزيلت ونُقل السكان بعيداً عن مصادر رزقهم حول الآثار الفرعونية والأراضي التي يرعون فيها ماشيتهم. ووفق مونيكا حنا، أرادت السلطات "إجلاء الناس لتجعل من الأقصر متحفاً مفتوحاً، فيأتي السائح ويرى الآثار كما كانت منذ مئات السنين"، مشيرة إلى أن سمعة أهالي القرية في حينه كانت أنهم لصوص آثار.
غنائم حرب
خلال قرون طويلة، خرجت أعداد لا تحصى من الآثار من مصر. بعضها، مثل مسلة الأقصر في باريس أو معبد ديبود في مدريد، منحتها الحكومة المصرية هدايا لدول صديقة. ولكن قطعاً أخرى أرسلت الى المتاحف الأوروبية في إطار نظام التقاسم الاستعماري. بينما ذهبت مئات الآلاف من القطع إلى "مقتنيات خاصة في جميع أنحاء العالم"، وفق هبة عبد الجواد.
حملة لاستعادة آثار مصر
وفق صحيفة "إندبندنتي" الإسبانية، فقد أطلق زاهي حواس في تشرين الأول الماضي حملة من أجل استعادة حجر رشيد وزودياك دندرة. وقد تمكن حتى الآن من جمع 78 ألف توقيع، ويعتزم إطلاق عريضة جديدة من أجل تمثال نفرتيتي، إذ أن هذه القطع الثلاث تثير جدلاً منذ سنوات.
ويعرض حجر رشيد الذي حفرت عليه في العام 196 قبل الميلاد كلمات باللغات اليونانية القديمة والمصرية القديمة والهيروغليفية، في المتحف البريطاني في لندن ومكتوب الى جواره "أخذه الجيش البريطاني من مصر في العام 1801".
ونقل التقرير عن متحدث باسم الجيش البريطاني أن الحجر "هدية دبلوماسية"، ولكن هبة عبد الجواد تقول إنه "غنيمة حرب".
أما تمثال نفرتيتي فحط في متحف (Neues Museum) بالعاصمة الألمانية برلين بموجب نظام التقاسم الاستعماري، وفق السلطات الألمانية. ويؤكد حواس أن رأس نفرتيتي التي صُنع في العام 1340 قبل الميلاد وجلبها علماء آثار ألمان في العام 1912 "خرجت من مصر بشكل غير مشروع".
أما زودياك دندرة فوصل إلى باريس عام 1820 عندما أرسل عمدة المدينة سيباستيان لوي سولنييه فريقاً لنزعه بالمتفجرات من أحد المعابد في جنوب مصر. ويبلغ طول الزودياك مترين ونصف المتر، وكذلك عرضه، وهو معلّق اليوم في أحد أسقف متحف اللوفر منذ العام 1922 في حين توجد منه نسخة من الجص في دندرة.