يرى بعض النقاد أن مصطلح النقد الثقافي هو مرادف للنقد الحضاري الذي يمارسه المفكر محمد عابد الجابري، وهذا ما يذهب إليه سعيد البازعي في كتابه (دليل الناقد الأدبي).
نقاد آخرون يعتبرونه مجرد تقليد لمشروع غربي يفتقد الأصالة، وهذا يقلل من أهمية النقد الثقافي في موروثنا العربي، لكن عندما نقرأ كتاب عبد الله الغذامي "النقد الثقافي وقراءة الأنساق الثقافية العربية" نجد أن الكاتب طرح نظرية متماسكة لها نموذج معرفي واضح وعقلاني، ولعل قدرة هذا النموذج على التنبؤ دليل على صوابية رؤية الغذامي التي نشرها عام 2000 عام، أي قبل 11 عاما من اندلاع موجات الربيع العربي.
النقد الثقافي والتنظير لعقيدة ولاية الفقيه
في كتابه "النقد الثقافي وقراءة الأنساق الثقافية العربية" يبين الغذامي أن أهمية النقد الثقافي تكمن في الحاجة لتحويل الأداة النقدية "من أداة في قراءة الجمالي الخالص، وتبريره بغض النظر عن عيوبه النسقية إلى أداة في نقد الخطاب وكشف أنساقه"، والنقد الثقافي مصطلح حديث يختلف عن الدراسات الثقافية "فالنقد الثقافي يتعامل مع النصوص الأدبية مستكشفا أنساقها الثقافية المضمرة غير الواعية، في حين، تنتمي الدراسات الثقافية إلى الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والفلسفة وغيرها من الحقول المعرفية" بحسب كتاب "النقد الثقافي بين النظرية والتطبيق" للدكتور جميل حمداوي.
ويُقصد بالأنساق المضمرة ما يحتويه النص الأدبي من حمولات ثقافية غير معلنة وقديمة، وغالبا يتواجد النسق بالنص بشكل غير واع من قبل الأديب، وجرت العادة أن ينصب الاهتمام على جماليات النص (نقد أدبي)، وتهمل الأنساق المضمرة (النقد الثقافي).
ويرى الغذامي أن الشعر العربي يحمل عيوبا ثقافية انتقلت إلى الحياة العامة للمجتمع، فشخصية الكذاب والمنافق وحتى الشحاذ والفرد المتوحد "الأنا المتضخمة النافية للآخر" هي نتائج لتلك العيوب. ويبين أن شعر المديح يقوم على اتفاق بين طرفين (الممدوح والمادح) على الكذب والنفاق، وهذا الاتفاق الضمني أصبح ثقافة اجتماعية تعلي من شأن الصور المزيفة وتحارب الحقيقة.
ومن لا يريد الدخول في هذا الاتفاق فعليه الصمت، إذ تحول الكلام من كونه "حراً وتلقائياً" إلى كونه مشروطا بما تضعه القبيلة من محددات. وهنا جرى اختراع الصمت، فالذي "لا تفوضه الجماعة للحديث والخطابة يجب عليه أن يصمت"، والقبيلة لا تفوض إلا الصوت القوي ليستخدم" كأداة حربية تحمي القبيلة وتحقق لها الهيبة في نفوس الآخرين"، ومن مهامه "إسكات خصوم القبيلة في البدء ثم صاروا خـصـوم الشاعر، وذلك بعد أن تحول الشاعر من شاعر القبيلة إلى الفحل ذي الصوت المفرد".
إذا استبدلنا القبيلة بالطائفة في الكلام السابق، فإننا نستطيع تفسير زيارة أدونيس للمملكة بعد بدء التقارب السعودي الإيراني فهو شاعر الطائفة، المدافع الشرس عن الطاغية الفرد.
يعود الغذامي لطفولة "علي أحمد سعيد" البائسة، فيذكر أنه لم يعرف الأبجدية إلا بعد العشرين من عمره وبعد أن تعلم القراءة والكتابة تحول من أحمد سعيد إلى (أدونيس)
ففي حوار "صادق جلال العظم" مع DW عربية، طرح عليه سؤال: متى افترقتما (صادق وأدونيس)؟ ولماذا؟ فأجاب "دخلت مع أدونيس وضده في سجالات نقدية حين بدأ بالتنظير للخمينية القروسطية ولعقيدة ولاية الفقيه، بعد سنوات من نضال مشترك من أجل تثبيت قيم الحرية والإبداع والتغيير والمساواة والعلمانية والموضوعية والعقلانية في حياة الاجتماع العربي وثقافته".
وأجاب العظم على سؤال: هل أنت مستعد لمناظرة علنية مع أدونيس؟ "كنت على استعداد لذلك، لكن بعد أن قرأت مقابلته مع صحيفة" السفير "قررت العكس. كيف أناقش جدياً وجهاً لوجه شاعراً كبيراً يصف بشار الأسد " بالرئيس المنتخب "، ثم يتهم الشعب السوري بأنه" هاجر "طوعاً عن أرضه ووطنه دون أن يرف له جفن؟!"
يعلق الغذامي على موقف أدونيس من الربيع العربي "كلام أدونيس هراء... أدونيس لا يفكر"، دون أن يصرح بطائفية أدونيس كما فعل العظم.
أدونيس "الثائر المزيف" الذي يعادي ثورة الحقيقة
"أدونيس رجعي، وإن بدا حداثياً وثورياً" تتكرر هذه الجملة بصيغ مختلفة في كتاب الغذامي، يقدمها كنتيجة ويسهب في شرح الأسباب التي أوصلته إليها، فأدونيس يمثل "النسق الفحولي والأنا الفحولية والذات المتعالية وإلغاء الآخر المختلف" بحسب الغذامي، ليصل لخلاصة مفادها أن الحداثة عند أدونيس هي "غطاء لنوع من الانقلاب السلطوي لهدف إحلال طاغية محل طاغية، كما هو المفهوم المحرف لمعنى الثورة".
يعود الغذامي لطفولة "علي أحمد سعيد" البائسة، فيذكر أنه لم يعرف الأبجدية إلا بعد العشرين من عمره، وبعد أن تعلم القراءة والكتابة تحول من "أحمد سعيد إلى (أدونيس)"، وهو اسم مفرد بديلا عن الاسم المركب له "مضامينه الوثنية، وهيبته الأسطورية"، في مجتمعات تؤمن بالغيبيات وتخضع للرعاية الأبوية.
يبرهن الغذامي على ذلك من خلال كتابين:
الأول ديوانه "مفرد بصيغة الجمع.. صياغة نهائية"، حيث يعتبر الغذامي عبارة "صياغة نهائية" كاشفة "فهو مفرد جامع ونهائي"، ولأنه يتمتع بهذه الصفات، فكلمته ستكون "الكلمة النهائية التي صاغها فحل أسطوري منفرد متعال هو أدونيس"، أدونيس الذي رفض الاسم الذي اختاره له أهله ليصبح "أباً لذاته"، ليمجد "عبادة الفرد وما فيه من تسليم مطلق بالصياغة النهائية".
الكتاب الثاني هو "زمن الشعر"، ومن خلال العنوان يستنبط الغذامي أن أدونيس ينفي عن هذا الزمن "العقل والفكر والفعل والسياسة". إنه زمن الشعر فقط، وبالطبع "لا حداثة في العالم العربي إلا في الشعر، ولا وجود لحداثة في الفكر أو الاقتصاد أو السياسة أوالمجتمع" بحسب أدونيس.
يرى الغذامي أن النماذج الشعرية التي سادت في العصر الحديث هي امتداد لموروث ثقافي، لذلك يرى أن "الحركات التحررية العربية (قبل الربيع العربي) غير ثورية إلا في ظاهر دعواها"، فالقيم التي تنادي بها من عدالة ومساواة وحرية سرعان ما تتحول إلى أقنعة وأدوات لخدمة الزعيم السياسي أو الاجتماعي، والدعوة الأدونيسية التي تدّعي الثورة والحداثة لم تنتقد هذه الظاهرة بل حاولت الاستفادة منها وإعادة إنتاجها، وهذا هو أدونيس في كتابه زمن الشعر وكتابه أزمة الحداثة يضع "الزعيم الفحل محل الوطن، ويضع الذات محل الموضوع" ويقولها صراحة "أنا الشاعر، إنا الثورة".
اختراع الصمت
يؤصّل الغذامي لثنائية الصمت والكلام فالكلام عنده "صفة غريزية في الإنسان" بينما الصمت فهو "المخترع الثقافي" ويحدث الصمت لأسباب "قمعية سلطوية أو ثقافية"، فقد ساهمت "الأعراف الثقافية" إلى "اختراع الصمت والترغيب فيه أحياناً أو فرضه أحيانا أخرى"، حيث تسمي الثقافة (الصامت حليماً، والساكت لبيباً، والمطرق مفكراً والسكوت من ذهب والصمت حكمة) بحسب الجاحظ.
وفي العصر الحديث نجد أدباء كبارا يؤيدون الثورة على الطغاة ويحرضون عليها، لكنهم صمتوا عندما كان الطاغية من أبناء قبيلتهم أو طائفتهم، والأمثلة على ذلك كثيرة، فالجواهري كان من الشعراء الكبار الذي هجا النظام البعثي في العراق، وادان الديكتاتوريات، لكنه بذات الوقت مدح طاغية الشام بقصائد كثيرة، وضعت على جدران المدارس وفي الساحات العامة، بل وقاموا بتلحين بعض القصائد لتبث في التلفزيون الرسمي يوميا وتحفظ واجبا مدرسيا للطلاب.
ازدواجية الجواهري بمدح بعض الطغاة وهجاء آخرين ناتجة عن نسق ثقافي اجتماعي، أيضا شعراء مثل أحمد مطر الذي صدع رؤوسنا بشتم القادة العرب وهجائهم، لكنه صمت بعد الثورة السورية هذا الصمت المريب يفتح باب الأسئلة عن رضوخه لأنساق اجتماعية عصبوية.
بالطبع إذا وسعنا دائرة البحث سنجد مئات الفنانين والأدباء صامتين عن المجزرة السورية نتيجة خضوعهم لأنساق "العلوية السياسية" كما سماها المفكر العلماني صادق جلال العظم، المفكر الذي تحرر من تلك الأنساق والقيود الاجتماعية ليمثل خطابا إنسانيا يعلو عن عفونة الطائفية والمناطقية والعشائرية وغيرها من الانتماءات العصبوية المقيتة.