يوم شن خدام الحرب علينا

2019.09.24 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ما زلتُ، بعد مضي ثماني عشرة سنة على هاتيك الحادثة، مندهشاً من جواب صديقي الروائي عبد العزيز الموسى حينما عرضتُ عليه فكرة التوقيع على بيان المجتمع المدني في أوائل سنة 2001.

قلتُ له، قبل أن يأتي بعض الأصدقاء لمشاركتنا السهرة: يا أبا محمد، ثمة أصدقاء مثقفون في دمشق وحلب ومناطق أخرى يجهزون بياناً كبيراً يحمل عنوان "إحياء المجتمع المدني" وعرضوا علينا فكرة التوقيع عليه، بالأصح إنهم تواصلوا معي، وطلبوا مني تزويدهم بأسماء الراغبين في التوقيع عليه -من مثقفي محافظة إدلب- خلال ثلاثة أيام، وحتى الآن اتفقنا أنا وأبو صطيف وأبو خيرو (أعني تاج الدين الموسى، وعبد القادر عبدللي) أن نوقع، وقد جئنا الآن لنعرض عليك الفكرة.. وسببُ مجيئنا الشخصي هو أن مثل هذه الأمور لا يمكن تداولُها عبر الهاتف، وأنت خيرُ مَنْ يعلم أن نظام الأسد يراقب تلفوناتنا، ورسائلنا البريدية، وفاكساتنا، وحتى الرسائل التي نرسلُها على هيئة طرود في شركتي الكرنك والأهلية يراقبونها..

استطراد: سأحكي لكم حكاية جرت بين صديقي الراحل عبد القادر عبدللي والمخابرات. فبعدما وقعنا على البيان المذكور بفترة قصيرة بدا لنا أن هناك اتفاقاً غير معلن بين مختلف الجهات الأمنية على أن يراقبونا في آناء الليل وأطراف النهار، وأنه لا يوجد فرع مختص بنا، بل يستطيع من يشاء أن يؤاجر بنا، وله الأجر والثواب.. وذات يوم، أرسل عبد القادر رسالة في الشركة الأهلية، إلى صديق في دمشق تتضمن قصة مترجمة عن اللغة التركية بغية نشرها في الصحيفة التي يراسلها ذلك الصديق، وبعد يومين فقط طلب عبد القادر لمراجعة إحدى الشعب الأمنية المحلية وأبلغوه بضرورة مراجعة "الفرع الخارجي" بدمشق في يوم محدد وساعة محددة.. فبُهِتَ لهذا الاستدعاء الضخم، وودع عياله وذهب إلى الشام وهو يفكر في الجريمة التي قد يكون اقترفها بحق أمن الوطن والقيادة الحكيمة دون أن يدري.. وبلا طول سيرة، ودون الخوض في التفاصيل التافهة التي سبقت دخوله إلى الشعبة المذكورة، سأله المحقق: مَن هو "فاء خاء" الذي أرسلت إليه طرداً بواسطة الشركة الأهلية؟ فقال لهم وهو يشعر بالارتياح لاعتقاده أن القصة بسيطة وعابرة: إنه فلان الذي يعمل موظفاً في جريدة الثورة. قال المحقق باستخفاف: وإذا كان في جريدة الثورة أو حتى في جريدة البعث.. هل يكون منزهاً عن ارتكاب الأفعال التي تضر بالبلد في هذه المرحلة الحساسة من نضال شعبنا؟ وأضاف: ومن يكون عبد العزيز ياسين؟ هنا لم يُحر عبد القادر جواباً.. فقال المحقق لماذا لا ترد؟ قال: مؤكد أنك تقصد عزيز نيسين. إنه كاتب تركي مشهور عنده حوالي تسعين كتاباً، وأعماله مترجمة لعشرين لغة. وهو مؤلف القصة التي ترجمتُها أنا وأرسلتها لصديقي "فاء خاء" لأجل نشرها.

انتهت الحكاية هنا، فالمحقق اعتذر لعبد القادر عن استدعائه من إدلب إلى دمشق، مخاطباً إياه بـ (يا ابني)، مع أن عبد القادر أكبر منه سناً يومذاك، وكالعادة طلب منه، بلباقة، أن يشتغل مُخْبِرَاً لديهم، ولا سيما أنه متمكن من اللغة التركية، ويفيدهم كثيراً في مجال كتابة التقارير.. ولأنه رفض العمل بصفة مخبر أصبح يستدعى إلى هذا الفرع في فترات متباعدة، وأنا كنتُ أمازحه فأقول له:

- أنت يا أبا خيرو يحق لك أن تمتنع عن إلقاء السلام علينا، أنا وتاج الدين وعبد العزيز، فنحن نُستدعى إلى فروع محلية جربانة، وأنت، بلا حسيدة، رايح جاي ع الشام مثل مكوك الحايك.. وفي حين يخاطبنا المحقق المحلي بعبارة: يا عمي، أنت يخاطبك محقق الشام بعبارة يا إبني!   

وأعود الآن إلى لقائنا، تاج وأنا، مع عبد العزيز الموسى.

قال، بعد أن عرضنا عليه الفكرة: أنا أعرف أن موضوع التوقيع على بيان المجتمع المدني لا يمكن تداولُه هاتفياً، وفي الوقت نفسه أستغرب تجشمكم عناء المجيء إلى هنا لأخذ موافقتي، كان بإمكان أي منكما أن يوقع بالنيابة عني!  

لا شك أن هذا الجواب مدهش، بل رائع، فخلال حكم حافظ الأسد (ووريثه الذي يضحك دون مناسبة) يمكن أن يعلق الإنسان في سين وجيم واستدعاءات متكررة لأسباب أتفه من هذا بكثير، كأن يكون لديه ابن أو أخ أو عم مطلوب لأحد فروع الأمن ومتوارٍ عن الأنظار.. وياما اعتقلوا ابناً لكي يجبروا أباه المتواري على تسليم نفسه، أو أباً ليجبروا ابنه على تسليم نفسه، وعبد العزيز يعرف هذا، بل ويمكن له أن يحكي لنا حوادث كثيرة مشابهة، فكيف يفوضنا بالتوقيع عنه بهذه البساطة؟

صرح خدام، على مدرج جامعة دمشق، إن الموقعين على بيان المجتمع المدني أناس مشبوهون يسعون إلى جزأرة سورية وتسليمها لقمة سائغة للصهيونية

المهم، في المحصلة، وقعنا، نحن الأربعة، على البيان الذي اشتهر فيما بعد باسم "بيان الألف".. ومرت علينا، بعد ذلك أيام قليلة، شعرنا خلالها أن حكم الوريث (الذي يضحك دون مناسبة) أفضل من حكم والده الذي يجلس مُنزلاً ساقيه إلى الأرض على هيئة زاوية قائمة، ويبقى هكذا ست ساعات (دون أن يشخ)، لأن التوقيع لم يَجُرّ علينا أي أذى لمدة تزيد عن الشهر أو الشهرين.. إلى أن جاء يوم، التقيت بعبد القادر، فبادرني بالسؤال: سمعت تصريحات خدام؟ قلت: لا. قال: صرح خدام، على مدرج جامعة دمشق، إن الموقعين على بيان المجتمع المدني أناس مشبوهون يسعون إلى جزأرة سورية وتسليمها لقمة سائغة للصهيونية.

قلت: يا ساتر!

قال: هذا يعني أن الحملة علينا ابتدأت.

وبالفعل ابتدأت الحملة في غضون أيام.. ويجب الإشارة هنا إلى أن عبد الحليم خدام ليس هو مَن أطلقها، فهو، طوال حياته، لم يكن سوى أداة في يد الطغمة الفاشستية الحاكمة.